العفو والصفح

صلاح بن محمد البدير

عناصر الخطبة

  1. تفاوت الناس في مكارم الأخلاق
  2. من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم
  3. الصفح أقرب للتقوى
  4. سلامة الصدر من الأحقاد
  5. ادفع بالتي هي أحسن

الحمد لله الذي أكمل علينا الدين، وأتم علينا النعمة، وجعل أمتنا خير أمة، وبعث فينا رسولاً منا يتلو علينا آياته ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة، أحمده على نعمه الجمَّة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تكون لمن اعتصم بها خير عصمة، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله أرسله ربه للعالمين رحمة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاةً تبقى، وسلامًا يترى إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون: اتقوا الله؛ فإن تقواه أفضل مكتسب، وطاعته أعلى نسب: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

أيها المسلمون: يتفاوت الناس في مكارم الأخلاق ومقامات الإحسان وجميل السجايا والخصال، وإن العفو عن المسيء في أمر المعاش، وعن المقصر في أدب الصحبة وحقوق المخالطة، والإغضاء عن زلته، والتجافي عن هفوته، والتغافل عن عثرته، واحتمال سقطته من أجَلِّ الصفات وأنبل الخصال؛ يقول -جل في علاه-: ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(134)﴾ [آل عمران: 133 – 134].

وقال -جل في علاه-: ﴿وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾ [الشورى: 37]، وقال -جل في علاه-: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ (39) وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ(43)﴾ [الشورى: 39 – 43].

فشَرَعَ العدل وهو القصاص، وندب إلى الفضل وهو العفو؛ قال إبراهيم النخعي -رحمه الله تعالى-: "كانوا يكرهون أن يستذلوا، فإذا قدروا عفوا". أخرجه البخاري.

والصفح أقرب للتقوى، والصفح أكرم في العقبى، والتجاوز أحسن في الذكرى؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا، وما تواضع أحدُ لله إلا رفعه". أخرجه مسلم.

وعن عقبة بن عامر الجهني -رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا عقبة: ألا أخبرك بأفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة؟! تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك". أخرجه أحمد.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال وهو على المنبر: "ارحموا تُرحموا، واغفروا يغفر الله لكم". أخرجه أحمد.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من عبد ظُلم بمظلمة فيُغضي عنها لله -عز وجل- إلا أعز الله به نصره". أخرجه أحمد وأبو داود.

أيها المسلمون: الصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، مرتبةٌ عاليةٌ، وخصلةٌ شريفةٌ، لا يقدر عليها إلا الصابرون المهتدون الموفقون؛ يقول -جل في علاه-: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ(35)﴾ [فصلت: 34 – 35].

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أنه قال في صفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس بفظٍّ ولا غليظ ولا صخَّابٍ في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويصفح". أخرجه البخاري. فصلوات الله وسلامه عليه.

وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "ما ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا قط بيده ولا امرأة ولا خادمة إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نِيلَ منه شيءٌ قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله تعالى فينتقم لله -عز وجل-". أخرجه مسلم.

لا يبـلغ المجدَ أقوامٌ وإن كَرُمُوا *** حتى يـذلوا وإن عـزُّوا لأقوام ويُشْتَمُـوا فترى الألوان مُسْفِرَةً *** لا صفح ذُلٍّ ولكن صفح أحلام

أيها المسلمون: لا عافية ولا راحة ولا سعادة إلا بسلامة القلب من وساوس الضغينة، وغواشي الغل، ونيران العداوة، وحسائك الحقد، ومن أمسك في قلبه عداوة، وتربص الفرصة للنقمة، وأضمر الشر لمن أساء إليه، تكدر عيشه، واضطربت نفسه، ووهن جسده، وأُكِلَ عِرْضُه، والعافية إنما هي في التغاضي والتغافل، وقد قيل: "في إغضائك راحة أعضائك"، وقيل: "الأديب العاقل هو الفطن المتغافل"، وقيل للإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: "العافية عشرة أجزاء، تسعة منها في التغافل، فقال: العافية عشرة أجزاء، كلها في التغافل".  

ويقول الإمام الشافعي -رحمه الله-:

لما عفوت ولم أحقد على أحد *** أرحت نفسي من هم العداوات

يقول -جل في علاه-: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: 199].

فتعافوا بينكم، وتجاوزوا عمن أساء إليكم ابتغاءً لوجه الله -تعالى-، ورغبةً في ثواب العفو وجزاء الصفح، واخرجوا من ضيق المناقشة إلى فسحة المسامحة، ومن حزورة المعاسرة إلى سهولة المعاشرة، واطووا بساط التقاطع والوحشة، وصلوا حبل الأخوة، وروموا أسباب المودة واقبلوا المعذرة؛ فإن قبول المعذرة من محاسن الشيم، وإذا قدرتم على المسيء فاجعلوا العفو عنه شكرًا لله للقدرة عليه.

فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله: كم نعفو عن الخادم؟! فصمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم أعاد عليه الكلام فصمت، فلما كان في الثالثة قال: "اعفُ عنه كل يوم سبعين مرة". أخرجه أبو داود والترمذي.

وعن أبي الأحوص عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله: الرجل أمُرُّ به فلا يقريني ولا يضيفني فيمر بي، أفأجزيه؟! قال: "لا، أقره". أخرجه الترمذي.

﴿إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً﴾ [النساء: 149].

جعلني الله وإياكم من أهل العفو والإحسان والصفح والغفران، وعفا عنا جميعًا بمنه وكرمه وهو العفو الغفور الكريم المنان.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه.

وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون: اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119].

أيها المسلمون: كم رأينا بين الأزواج والإخوان والأقارب والجيران من المحن والإحن، والفتن والدخن، والدعاوى والخصومات، والمضادة والمحادة، والغضاضة والنفرة، والشر والفتنة، حتى شاع الطلاق وكثرت القطيعة، وتصرمت أواصر القربى؛ فاتقوا الله -أيها المسلمون-، وراعوا حق القربة والرحم والجوار، وكُفوا عن المنازعة والقطيعة، وعالجوا الأمور بما هو لشمل القرابة أجمع، ولطريق الفرقة أقطع، وكونوا كما قال الأول:

وإن الذي بيني وبيـن بني أبي *** وبين بني عمـي لمختلف جدًّا إذا قدحوا لي نار حرب بزندهم *** قدحت لهم في كل مكرمة زندًا وإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم *** وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدًا ولا أحمل الحقد القديم عليهمُ *** وليس رئيس القوم من يحمل الحقدَ

وقابِلُوا الإساءة بالإحسان تُنصَروا؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: إن رجلاً قال: يا رسول الله: إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إليَّ، وأحلم عنهم ويجهلون عليَّ، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم الملَّ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك". أخرجه مسلم. ومعنى: فكأنما تسفهم المل؛ أي فكأنما تطعمهم الرماد الحار، قال الله تعالى: (وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [النور: 22]، وقال -جل وعلا-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [التغابن: 14].

أيها المسلمون: إن ثمرة الاستماع الاتباع، فكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

ثم اعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبحة بقدسه، وأيَّه بكم -أيها المؤمنون- من جنه وإنسه، فقال قولاً كريمًا: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ [الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين الأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين والتابعين لهم وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك وجودك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، واخذل الطغاة والمعتدين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء، وسوء القضاء وشماتة الأعداء، وعضال الداء وخيبة الرجاء، اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك يا رب العالمين.

اللهم اجعل رزقنا رغدًا، ولا تشمت بنا أحدًا، ولا تجعل لكافر علينا يدًا، اللهم أدم على بلاد الحرمين الشريفين أمنها ورخاءها، وعزها واستقرارها، ووفّق قادتها لما فيه عز الإسلام والمسلمين، وخدمة الحجاج والزوار والمعتمرين.

اللهم وفق إمامنا وولي أمرنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، ووفق جميع ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك، واتباع سنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-.

اللهم اهدنا لأحسن الأقوال والأفعال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين، ولا تشمت بنا الأعداء والحاسدين.

اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك قريب سميع مجيب الدعوات، اللهم اشف مرضانا، اللهم اشف مرضانا، اللهم اشف مرضانا، وفك أسرانا وارحم موتانا، وانصرنا على من عادانا برحمتك يا أرحم الراحمين.

عباد الله: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.  


تم تحميل المحتوى من موقع