المسلمون وتحديات العولمة - خطبة عيد الفطر لعام 1420هـ

إبراهيم بن محمد الحقيل
عناصر الخطبة
  1. موافقة أواخر رمضان لاحتفالات النصارى ببداية القرن .
  2. عدوانهم ببدئهم القرن السابق بالاحتلال وإنهائه بالعولمة .
  3. مفهوم العولمة .
  4. جهود العلمانيين الجبارة للنيل من الإسلام .
  5. عالمية الإسلام وفطريته توهنان مخططاتهم .
  6. كيف نواجه تحديات العولمة؟ .
  7. الفرح بالعيد باستصحاب التقوى والصلة وإعانة المسلمين .
  8. حكم الجمعة الموافقة ليوم العيد. .

اقتباس

إن العولمة التي يراها العلمانيون العرب خيرَ شفاءٍ لجسدِ الأمة الذي أنهكته الجراح، تُمثِّل قتلاً لها، وإلغاءً لهويتها، ومحواً لخصوصيتها، ونسفاً لدينها وأخلاقها وأعرافها، إنها نقلُ الإلحادِ والفساد كما هو في الغرب إلى بلاد المسلمين؛ ليصبح المسلمُ مركباً حيوانياً مادياً يُشبعُ شهوته، ويفسدُ قلبه، ينظر إلى يومه ولا يفكر في غده، لا يعرف لله حدوداً، ولا يرعى لدينٍ حرمة، ولا يقيم لخلق وزناً ..

أما بعد: فأوصيكم -أيها المسلمون- ونفسي بتقوى الله -عز وجل-؛ فربكم واحد، ودينكم واحد، وعبادة الله تعالى وتقواه فرضٌ في رمضان وفي غير رمضان، وإياكم ونقض العهد، والنكوص بعد الوعد! والدنيا رمضانُ المؤمن، يصوم فيها عن المحرمات، وفطرهُ عند الموت حينما تلقاه ملائكةُ الرحمن تبشره بالنعيم الخالد في دار السلام. 

أمة الإسلام: بينما كان المؤمنون في محاريبهم في عشر ليالٍ خلت؛ يصلّون ويقرؤون، يركعون ويسجدون، يبكون ويُلحّون، يسألون الله من فضله، ويعوذون به من عذابه، راجين خائفين قد اغتنموا فضيلة الشهر، وفضيلة العشر، وفضيلة الثلث الأخير من الليل حيث نزولُ الرب تبارك وتعالى، بينا هم كذلك كانت جموعٌ من البشر لا يعلم عددها إلا الله تعالى من نصارى العرب والعجم، ومن تبعهم في إفكهم يحتفلون بذكرى ميلاد المسيح ابن مريم -عليه الصلاة والسلام-، وبرأس السنة الميلادية، يقودهم في احتفالاتهم أحبارُ السوء، ورهبان الضلال؛ ليعلنوا حربهم على الله تعالى بكفرهم الذي اجتمعوا عليه، وشهواتهم الحيوانيةِ التي أشبعوها في ليالٍ معظمة عند الله تعالى.

لقد احتفل النصارى بألفيتهم، وتبعهم في باطلهم جموعٌ من ضُلاَّلِ المسلمين وجُهَّالهم في وقتٍ كان الصالحون من عباد الله تعالى يلتمسون ليلةً هي خير من ألف شهر، فشتان ما بين الألفيتين: ألفيتهم الباطلة، وألفية ليلة القدر! وما أبعد ما بين المقامين: مقام العبودية للخالقِ المعبودِ الحق ربِ العالمين -جلَّ جلاله-، ومقام العبودية للشيطان الرجيم في أنواعٍ من الشهوات والشبهات، والباطل والضلال!.

لقد كان قرنُهم -الذي يحتفلون بنهايته- شاهداً عليهم بالظلم والطغيان، والعداء للإسلام، ابتدؤوا قرنهم باتفاقية (سايكس بيكو) التي بموجبها قسموا الدولة الإسلامية بين قوى الاستعمار الظالمة؛ فانسبات جيوشهم في بلاد المسلمين تقتسم الغنيمة المنهوبة، وكم قتلوا ونهبوا! وكم اغتصبوا وظلموا! وما خرجوا من ديار أهل الإسلام إلا بعد أن زرعوا عملاءهم فيها.
 

وفي منتصف قرنهم سلموا بيت المقدس لليهود، وأقاموا لهم فيه وطناً ودولة، وغيَّروا مسمى الشرق الإسلامي إلى الشرقِ الأوسط؛ ليستوعب إخوان القرة والخنازير.

وفي أخريات قرنهم أسقطوا منافسهم الاشتراكي، وأعلنوا الهيمنة الرأسمالية الليبرالية، والسيادة الغربية عسكرياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً، وبشروا في ظل قيادتهم بانتهاء زمن الحروب والهمجية، وحلول عصر الحرية والديمقراطية، في نظام عالمي كوني يصبح فيه الآمرُ والناهي واحداً، يتسم بالتحضر والعقلانية، وكراهية مناظر الدماء والدمار، ويتميزُ بنظرةٍ ثقابة تمكنه من معرفة ما هو الأصلح لدول العالم وشعوبه، التي تجهل ما ينفعها وما يضرها؛ مما يحتم الوصاية البيضاء عليها، هكذا زعموا، وبئسما زعموا!.

ويبشرُ بهذه العولمة الغربية العلمانيون العرب، الذين تورمت أكتافهم من أكل الحرام، وأنتنت أفواهم من قولِ الزور والبهتان، أولئك الذين انهزموا مع أنفسهم، وأوغلوا في الهيام بالغرب الكافر، وحضارته المادية؛ حتى ما عاد لهم خلقٌ يضبطهم، ولا مبدأٌ يُعرفون به، يبشرون بفجر العولمة الجديد الذي يسلط سياطه على بلاد المسلمين ودينهم وأخلاقهم وأعراضهم، ويعتبرونه الفجر الذي فيه تقدم الأمة ونهضتها، حينما تَطَّرِحُ دينها، وتلحق بركاب الذين كفروا.

أيوثق بأقوام كانوا قوميين وناصريين وبعثيين وماركسيين، ثم صاروا ليبراليين؟! أيوثق بأقوام كانوا من على منابر الماركسية يحذرون الأمة من الليبرالية والإمبريالية، ويبشرونها بالاشتراكية، ثم لما سقطت الماركسية تحولوا إلى الليبرالية؟! فأيُّ مبدأ عند هؤلاء؟ وكيف يوثق بأقوامٍ يتلاعبون بالأمة ذات اليمين وذات الشمال بعيداً عن دينها؟.

إنهم عملاءُ خوَنة، عزَّ عليهم أن يدين أهلُ الشرق بالإسلام؛ فتعلقوا بكل مذهبٍ ونحلة رجاء القضاء على الإسلام، وإخراجِ أهله منه.

إن العولمة التي يراها العلمانيون العرب خيرَ شفاءٍ لجسدِ الأمة الذي أنهكته الجراح، تُمثِّل قتلاً لها، وإلغاءً لهويتها، ومحواً لخصوصيتها، ونسفاً لدينها وأخلاقها وأعرافها، إنها نقلُ الإلحادِ والفساد كما هو في الغرب إلى بلاد المسلمين؛ ليصبح المسلمُ مركباً حيوانياً مادياً يُشبعُ شهوته، ويفسدُ قلبه، ينظر إلى يومه ولا يفكر في غده، لا يعرف لله حدوداً، ولا يرعى لدينٍ حرمة، ولا يقيم لخلق وزناً.

وليس هذا التكيّفُ والنقلُ والتحولُ من رحابة الإسلام إلى سجن الإلحادِ محل اختيار ومشورة؛ بل سيتمُّ فرضه في زمن العولمة سياسياً عن طريق قرارات الأمم المتحدة، واقتصادياً عن طريق منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي، وثقافياً عن طريق منظمة اليونسكو، ومن رفض ذلك فحلفُ الناتو له بالمرصاد.

إن هذه المنظمات والأحلاف والهيئات ستتولى عولمة الشعوب بالقوة إذا لم تُجْدِ المؤتمرات والتوصيات، إن مصطلح العولمة تحول كليةً إلى سياسات وإجراءات عملية ملموسة في كل المجالات الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية، وأضحى عمليةً تطرح في جوهرها هيكلاً للقيم تتفاعلُ كثيرٌ من الاتجاهات والاستراتيجيات في الغرب على فرضه وتثبيته، وقسر مختلفِ شعوبِ المعمورة -وخاصة المسلمين- على تبني تلك القيم وهيكلها ونظرتها الإلحادية للإنسان والكون والحياة.

إن الغرب الإلحادي رغم قوته العسكرية، ومرواغاته السياسية، وتفوقه الصناعي والمادي عجز أن يصبغ العالم بهويته الإلحادية منذ نهضته وسيادته وإلى اليوم، والسبب في ذلك أن قِيَمه الإلحادية لا تشبع قلب الفرد، ولا توجد عنده الطمأنينة والسكينة رغم الثراء والتقدم والصناعة والترف، ولا أدلَّ على ذلك من أن أعلى نسبة انتحار وأمراض نفسية هي في بلادهم الإلحادية، وهذا العجز الظاهر في قيم الغرب أن تنتشر؛ جعلهم يسعون إلى عولمة العالم على وفق قيمهم ولو بالقوة.

أما الإسلام فإنه أعطى المرء حاجته من الدنيا، وملأ قلبه بالإيمان والسكينة، وجعل له أملاً في الدارين: الدنيا والآخرة.

إن الإسلام حقق من الانتشار في الأرض في ثمانين سنة ما عجزت حضارة الرومان النصرانية أن تحققه في ثمانية قرون، دينٌ ينتشر بمجرد عرضه على الناس، ما احتاج المسلمون أن يمارسوا إرهاباً سياسياً أو اقتصادياً أو عسكرياً أو ثقافياً حتى يُعولموا غير المسلمين؛ بل كان الناسُ يدخلون طواعية في دين الإسلام.

ومن العجيب -أيها الإخوة- أن كثيراً من الشعوب النصرانية إبّان الفتح الإسلامي خُيِّرت بين حكم الإسلام، وبين حكم القياصرة والباباوات؛ فاختارت الإسلام؛ لعدله ورحابته، حتى قال الزعيمُ الديني البيزنطيُ في القسطنطينية أثناء حصار محمد الفاتح لها: إنه خيرٌ لنا أن نرى العمامة في مدينتنا القسطنطينية من أن نرى فيها تاج البابوية.

هذا كان في القديم، وأما في العصر الحاضر؛ فإن أعداء الإسلام من ملاحدة الغرب، وقساوسة الكنائس يلصقون بالإسلام أبشع التهم، ويسوِّق ذلك كثيرٌ من كتاب العرب وزنادقتهم، وقد سخّر الغربُ كل قوته في هذا السبيل عبرَ الإعلام بصحفه ومجلاته، وإذاعاته وفضائياته، وشبكته العالمية (الانترنت) التي لا تحصى مواقعُها المخصصة للنيل من الإسلام، والتشكيك فيه، وإفساد الأخلاق والقيم؛ بل ومحاولة تنصير الشعوب غير النصرانية بما يُنفق على الكنائس والمنصرين من مليارات الدولارات، ومع ذلك فالنصرانية في تراجع، والإسلام في تقدم وتزايد.

عادت كثيرٌ من الشعوب الإسلامية التي رزحت تحت نَيْر العلمانية ردحاً من الزمن إلى دينها، ودخل كثير من غير المسلمين في الإسلام، وما أكثر الغربيين الذين يدخلون الإسلام كل يوم.
 

لقد تنبأ المنصرون قبل سنوات أن عام ألفين هو عامُ انتشار النصرانية في البشر، واندحار الإسلام، وعزموا على أن لا تدخل الألفية الثالثة إلا وقد تنصرت أفريقيا بكاملها وجنوبُ شرق أسيا، وردَّ الله كيدهم على نحورهم؛ فالإسلام فيها أقوى وأكثر انتشاراً من النصرانية؛ وما ذاك إلا لأن الإسلام دينٌ عالميٌ صالحٌ ومصلح للبشر كلهم، فقرآنه ذِكر للناس كلهم: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ) [التكوير:27]، ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- مرسل إلى العالم كله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107]، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) [سبأ:28]، وأمره الله تعالى بقوله: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) [الأعراف:158].

أيها المؤمنون: إن الضغط من القوى الغربية، وأذنابها العلمانية سيزداد عقب دخول هذه الألفية للقضاء على الهوية الإسلامية، وتغريب الشعوب المسلمة، والمرأة المسلمة، والطفل المسلم، وستواجه الأسرة المسلمة ضغوطاً إعلامية مدعومة بأذرعة سياسية واقتصادية وعسكرية؛ لفرض توصيات مؤتمرات تحرير المرأة والسكان والإيواء البشري؛ بقصد إباحة الزنا واللواط والسحاق والإجهاض، وزواج الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، وتحديد النسل، وغير ذلك من المقرارات الإلحادية التي تواصوا بها، وبوادرُ ذلك ظاهرة لمن يطالع الفضائيات وما تعرضه من مناظرات ومقابلات وتقارير، ومواقع كثيرة في شبكة الانترنت مخصصة لذلك.

لذا لابد من تحصين الأسرة المسلمة رجالاً وشباباً ونساءً وأطفالاً؛ وذلك بغرس الإيمان الصحيح في قلوبهم، وردِّ الشبهات التي تقذف بها الفضائياتُ والصحفُ والمجلاتُ وغيرها، والتي تهدف إلى تشكيك المسلم في دينه، ومخاطبة غرائزه، والمسؤولية واجبة على كل فرد من الأمة بحسبه واجبة على المسؤولين والعلماء والإعلاميين والمحاضرين والمدرسين والآباء والأمهات، فالحربُ على أشدها، وليس للمسلم غايةٌ دون جنة النعيم، فلابد من الثبات وتحمل المسؤولية، وأداء الأمانة، بارك الله في الجهود والمساعي، وردَّ كيد الأعداء إلى نحورهم، إنه سميع مجيب.
 

أيها المؤمنون: ابتهجوا بعيدكم فيما يرضي الله تعالى، وبروا والديكم وصلوا أرحامكم، واحذروا منكرات العيد، ولا تنسوا إخوانكم المسلمين المجاهدين والمشردين في الشيشان وفي كل مكان، خصوهم بالدعاء، وابذلوا لهم المال، واشكروا الله تعالى على نعمه التي لا تعد ولا تحصى.

أيها الإخوة: وافق عيدُ هذه السنة يوم الجمعة فاجتمع العيدان في يوم واحد، فمن صلى العيد فله رخصة ألا يصلي الجمعة؛ لكن العلماء أفتوا بأن فرض الظهر واجب عليه، وقد حصل ذلك على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال لأصحابه: "قد اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة، وإنا مجمِّعون" أخرجه أبو داود.

أعاده الله علينا وعليكم باليُمْن والإيمان، والسلامة والإسلام، وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي