حفظ اللسان

خالد بن عبدالله الشايع

عناصر الخطبة

  1. اللسان نعمة عظيمة
  2. ضرورة حفظ اللسان عن الحرام
  3. محاسبة السلف أنفسهم على أقوالهم
  4. فضل حفظ اللسان
  5. خطورة إطلاق العنان للسان بالحديث
  6. فليقل خيرًا أو ليصمت

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله…

أما بعد:

عباد الله: إن نعم الله -جل وعلا- على خلقه لا تعد ولا تحصى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا﴾، وإن من نعمه العظيمة على الناس هذا اللسان الناطق، الذي يتكلم به الناس ويعربون عما يريدون به، ويقضون به حوائجهم، ويذكرون به إلهم وخالقهم، به وبكمال العقل ميزهم الله عن البهائم والعجماوات.

أيها المؤمنون: إن لسان الإنسان له في الخير مجال واسع، وله في الشر ذيل طويل، فمن أطلق لسانه وأرخى له العنان سلك به سبل الشيطان وساقه إلى شفا جرف هارٍ، ولا ينجو من شر اللسان إلا من قيده بلجام الشرع، فلا ينطق إلا بما ينفعه في الدنيا والآخرة.

إن اللسان أعصى الأعضاء في الإنسان، فإنه لا تعب في إطلاقه ولا مؤونة في تحريكه، وهو أعظم آلة يستخدمها الشيطان ضد الإنسان.

قال ابن القيم -رحمه الله-: "إن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر والنظر المحرم، وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركات لسانه، حتى ترى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله، لا يُلقي لها بالاً". اهـ.

أيها المؤمنون: إذا علم المرء أنه مراقب ومحاسب وتسجل عليه كل صغيرة وكبيرة ينطق بها لسانه أدرك مدى خطورة الكلمة التي ينطق بها، وتأمل فيها طويلاً قبل النطق بها، فإن كانت خيرًا أرسلها وإلا أمسكها، قال سبحانه: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَاماً كَاتِبِينَ(11)﴾، اعلموا -أيها الناس- أن هذا اللسان الذي يلغ في كل سبيل، سوف يشهد يوم القيامة بكل ما اقترف، قال -جل ذكره-: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.

بل إنه -والعياذ بالله- قد يكون القائد إلى النار، أخرج الترمذي في جامعه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أكثر ما يدخل الناس النار الفم والفرج"، وكما أنه قد يقود صاحبه إلى النار، فإنه يقود صاحبه أيضًا إلى رضوان الله والجنة.

أخرج البخاري ومسلم من حديث سهل بن سعد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من يضمن لي ما بين لحييه وما بين فخذيه أضمن له الجنة، وما بين اللحيين هو اللسان، وقد أدرك أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- هذا الأمر وخطورته، فاستعملوه في الخير ومنعوه من الشر، فكان أبو بكر -رضي الله عنه- يشير إلى لسانه ويقول: "هذا الذي أوردني الموارد"، وما أورده -رضي الله عنه- إلا كل خير، وكان ابن مسعود -رضي الله عنه- يقول: "والله الذي لا إله إلا هو ما شيء أحوج إلى طول سجن من اللسان"، وقال بعض الصحابة لجاريته يومًا: "هاتي السفرة نعبث بها"، ثم قال: "أستغفر الله ما أتكلم بكلمة إلا وأنا أخطمها وأزمها إلا هذه الكلمة، خرجت مني بغير خطام ولا زمام".

وقد كانوا يحاسبون أنفسهم في جميع أقوالهم، حتى إن أحدهم ليحاسب نفسه في قوله: يوم حار ويوم بارد، ولقد رؤي بعض الأكابر من أهل العلم في المنام فسئل عن حاله فقال: "أنا موقوف على كلمة قلتها، قلت: وما أحوج الناس إلى الغيث، فقيل لي: وما يدريك؟! أنا أعلم بمصلحة عبادي".

أيها المؤمنون: اعلموا أن كل لفظة نتكلم بها فإنها مسجلة علينا، قال سبحانه: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾، قال أبو حاتم الأصم -رحمه الله-: "تعاهد نفسك في ثلاث: إذا عملت فاذكر نظر الله إليك، وإذا تكلمت فاذكر سمع الله منك، وإذا سكت فاذكر علم الله فيك"، وقال -رحمه الله-: "لو أن صاحب خبر جلس عندك كنت تتحرز منه، وكلامك يعرض على الله فلا تتحرز".

وقال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "أعرف الآن من يعد كلامه من الجمعة إلى الجمعة"، وقال مالك بن دينار -رحمه الله-: "لو كُلف الناس الصحف لأقلوا المنطق"، وقال لقمان -رحمه الله-: "الصمت حكمة، وقليل فاعله".

ولما كان اللسان والكلام بهذه المنزلة عُدّ من أسباب النجاة، وعدم الكلام خصوصًا في أوطان الهرج والمرج، أخرج الترمذي عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- أنه سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن النجاة فقال: "أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابكِ على خطيئتك".

بل جُعل المسلم الذي يحفظ لسانه عن أعراض الناس من أفضل المسلمين؛ ففي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل: أي المسلمين أفضل؟! فقال: "من سلم المسلمون من لسانه ويده".

أمة الإسلام: إن كفّ اللسان وعدم الخوض في الباطل وما لا يليق هو الطريق الموصل إلى رضوان الله والجنة، وهو أكبر معين بعد الله على فعل الطاعات، أخرج الترمذي من حديث معاذ -رضي الله عنه- أنه قال لرسول الله: -صلى الله عليه وسلم-: دلّني على عملٍ يقربني من الجنة ويباعدني عن النار، فذكر -صلى الله عليه وسلم- أبواب الخير والإيمان ثم قال: "ألا أدلك بملاك هذا كله؟!". فأخذ بلسانه ثم قال: "كف عليك هذا"، فقال معاذ: أو إنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! فقال: "ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس على وجوههم -أو قال على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم!!".

عباد الله: كم من شخص تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته وهو لا يشعر، فقد ينطق العبد بكلمة دون تفكير ولا إمعان نظر فتكون سببًا للخسران والبوار، أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- يقول: "إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب"، والعياذ بالله.

والتبين -أيها المؤمنون- هو التأمل والتفكر، فكم من كلمة فُهْتَ بها من غير تأمل ولا تفكر، وكما أن الكلمة قد تكون سببًا لسخط الله، فإنها قد تكون سببًا لرضوانه، أخرج البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات".

فالعاقل اللبيب -معاشر المؤمنين- هو من جعل على لسانه حارسًا يحرسه مما لا يليق، هذا الحارس هو تقوى الله ومراقبته، قبل كل شيء.

اللهم احفظ علينا ديننا، واجعل ألسنتنا مضبوطة بالشرع، ووفقنا لهداك واجعل عملنا في رضاك.

الخطبة الثانية:

أيها المؤمنون: إن اللسان عضو صغير، سريع الحركة، ولكنه سريع العادة، من عوده على الخير والألفاظ الحسنة سار عليها وأنكر سواها، ومن عوده على الألفاظ السيئة سار عليها واستنكر غيرها.

عوّد لسانك قول الحق تحظَ به *** إن اللسان لما عودت معتاد

وإن الأسلوب الأمثل في تعويد اللسان على الخير هو الأسلوب النبوي الشريف، فلقد أعطانا النبي -صلى الله عليه وسلم- قاعدة نسير عليها، ونتقي بها ما لا يليق من الأقوال والألفاظ، أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت".

وإن الكلام الصادر من اللسان لا يعدو ثلاثة أنواع: نوعٌ ظهرت منه المصلحة، فهذا يتكلم به، ونوع ظهرت فيه المفسدة، فهذا يسكت عنه ولا ينطق به، ونوع استقول فيه المصلحة والمفسدة، والسكوت في هذا النوع أفضل.

قال النووي -رحمه الله-: "اعلم أنه ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلامًا ظهرت فيه المصلحة، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة فالسنة الإمساك عنه؛ لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، وذلك كثير في العادة، والسلامة لا يعدلها شيء، فينبغي أن لا يتكلم إلا إن كان الكلام خيرًا، وهو الذي ظهرت مصلحته، ومتى شك في ظهور المصلحة فلا يتكلم". اهـ.

ثم اعلموا -عباد الله- أن اللسان هو القائد المدبّر للأعضاء، فإن كان مستقيمًا استقامت، وإن اعوج تبعته في ذلك، أخرج الترمذي في جامعه من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء تكفر اللسان تقول له: اتقِ الله؛ فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا".

قال ابن القيم -رحمه الله-: "وفي اللسان آفتان عظيمتان، إن خلص من إحداهما لم يخلص من الأخرى: آفة الكلام، وآفة السكوت، وقد يكون كل من فيهما أعظم إثمًا من الأخرى في وقتها، فالساكت عن الحق شيطان أخرس، عاصٍ لله، مراءٍ مداهن إذا لم يخف على نفسه، والمتكلم بالباطل شيطان ناطق عاصٍ لله، وأكثر الخلق منحرف في كلامه وسكوته، فهم بين هذين النوعين، وأهل الوسط -وهم أهل الصراط المستقيم- كفوا ألسنتهم عن الباطل، وأطلقوها فيما يعود عليهم نفعه في الآخرة، فلا ترى أحدهم يتكلم بكلمة تذهب عليه ضائعة بلا منفعة، فضلاً أن تضره في آخرته، وإن العبد ليأتي يوم القيامة بحسناتٍ أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها، ويأتي بسيئات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله وما اتصل به". اهـ.

عباد الله: ما أكثر الكلام الذي نطلقه فيما لا يعنينا، وما أكثر الكلام الذي يأتي به الشيطان ليصدنا عن ذكر الله وتلاوة القرآن، فاتقوا الله عباد الله، وراقبوا ألفاظكم، وخطواتكم، ولحظاتكم، علكم أن تكونوا من المفلحين.

اللهم أعذنا من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن، اللهم إنا نسألك صحة في إيمان، وإيمانًا في حسن خلق، ويقينًا لا يعتريه شك.  


تم تحميل المحتوى من موقع