خطبة عيد الفطر لعام 1426هـ

مشعل بن عبد العزيز الفلاحي
عناصر الخطبة
  1. ترحيب بالعيد .
  2. من صور الشرك المخالف لمعاني تكبير العيد .
  3. تعبير العيد عن انتماء الأمة لدينها .
  4. العيد ومآسي المسلمين .
  5. رحيل رمضان .
  6. العيد والإخاء والتصافي .
  7. استمرار تحقيق معاني العبادة المستفادة من رمضان .
  8. العيد صورةٌ من صور العبادة .

اقتباس

العيد صورة من صور العبادة لله تعالى، والفرحة التي نعيشها فيه إنما تنطلق من سياج العبودية العظيم، والفرح حقيقة هو الفرح في ظل هذا السياج العظيم. فاحذر -أخي المسلم- أنْ تُبَدِّدَ الفرحة اليوم بمقارفة مُنْكَرٍ، أو دنَسِ رِيبَةٍ، وحلِّقْ بقلبك في سمو هذه الشريعة، تجد فناءها أوسع فناء ..

أما بعد: فها هو العيد يعود مرة أخرى، ها هو يطل على الأمة من جديد، ها هو يكسو المسلم اليوم فرحة عظيمة يجدها بين جوانحه، ويعبر عنها في هذا اليوم المجيد، فأهلا بالعيد بكل ما يحمل في طياته من فرحة، أهلا بالعيد وكل عام وأنتم بخير.

أيها المسلمون: في العيد معانٍ نستلهمها في صباحه المشرق، فنعيد بها مراسم حياتنا، ونحن نفرح به ونشعر بوهج الفرحة يخالج قلوبنا، وإليكم أهم هذه المعاني:

أولا: العيد والتكبير: البارحة دوّى التكبير في بيوت المسلمين وفي طرقاتهم، وراح المسلمون كلهم يأتمرون بأمر الله تعالى، ويحيون سنة عظيمة في تاريخ الإسلام، حين يلهجون بالتكبير في كل فجاج من أرضهم، وبات صدى الصوت البارحة وهذا اليوم معلمًا من معالم الإسلام، وصورة حية من صور الاقتداء: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.

والمتأمل في هذه الكلمة يدرك بعضًا من أسرارها، فالله أكبر من كل شيء يعارض منهجه ويخالف شريعته، الله أكبر من كل مخلوق يعارض به الناس ربوبيته، "الله أكبر" كلمة دوّت في بيوتنا وعلى أرضنا، وقبل ذلك دوّت بكل ما فيها من قوة في قلوبنا، عقيدة صلبة، وتوحيدًا خالصًا، وتوجّهًا صادقًا.

أيها المسلمون: لا إسلام بلا عقيدة، ولا عبادة بلا توحيد، إن الشرك مع التوحيد ضدان لا يجتمعان إلا كما تجتمع الماء والنار. أيّ عيد يشهده مسلم اليوم لطّخ إيمانه بلوثات الشرك ودنّس قلبه بسيئة الكفر؟ لقد وصف الله تعالى أقوامًا يقدمون يوم القيامة مستبشرين بأعمالهم، فرحين بجهودهم، يرجون الفوز عند ربهم، فإذا بتلك الأعمال كالرماد الذي يذره الإنسان في يوم ريح عاصف، قال الله تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) [الفرقان:23]. ولا يصدق هذا في أعظم صورة له إلا في حق المشرك بالله تعالى، المدنّس لجناب الإلوهية، المنتقص من حق الربوبية.

إن الشرك بالله تعالى سيئة قبيحة، توقف عن صاحبها رحمة الله تعالى ولو كان من أعظم الناس قربة إلى الله تعالى، فهذا رسول الله، مصطفاه وخليله ورسوله وأعظم أنبيائه، قال الله له محذّرًا من الوقوع في الشرك: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ) [الزمر:65]، فإذا كان رسول الله وخليله ومصطفاه متوعّدا بحبوط العمل حين الشرك، فكيف بمن عداه؟!.

لقد قال الله تعالى محذّرًا من هذه السيئة: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) [النساء:48]، وعند البخاري من حديث ابن مسعود قال: "من مات يدعو من دون الله ندًا دخل النار". وصدق ابن مسعود حين قال: لِأَن أحلف بالله كاذبًا أحب إليّ من أحلف بغيره صادقًا.

أيها المسلمون: صور الشرك كثيرة، دنّس بها أناس إيمانهم يشعرون أو لا يشعرون، ومن هذه الصور دعاء غير الله تعالى من المخلوقين سواء كانوا أحياءً أو أمواتًا.

ومن ذلك ما يفعله بعض الناس مع أهل القبور بحجة أنهم أولياء أو سادة، ويفعلون لهم ما يفعلون لله تعالى من القربة؛ كالتقرب إليهم بالذبح عند قبورهم، أو التمسّح بهذه القبور، وسؤالهم معافاتهم من البلاء، ففاعل هذا -والعياذ بالله-مشرك شركا أكبر، فإن اعتقد أن لهم شيئا من أحكام الربوبية فهو كافر كفرًا أكبر، خالد مخلّد في النار، قال أهل العلم رحمهم الله تعالى: حتى لو فعل ذلك مع قبر النبي كأن يتمسّح به، ويبتهل إليه، ويدعوه من دون الله تعالى، فإن فاعل ذلك كافر معتد على حق الربوبية.

ومن صور الشرك الحلف بغير الله تعالى، كالحلف بالأنبياء أو الكعبة أو الأمانة، كل ذلك خلاف التوحيد وانتقاص من حق الربوبية.

ومن صور ذلك التعلق بالأشخاص؛ كأن يرى أن لهم حظًا من الربوبية كشفاء المرضى، أو البرء من العاهات، أو حصول العافية منهم نظير ولايتهم، كما يدعي ذلك من يدعيه في الأولياء.

ومن صور ذلك الذهاب إلى السحرة والكهنة، وسؤالهم على وجه التصديق بأخبارهم، أو كمن يذهب بمريضه لساحر أو كاهن راجيًا الشفاء من ذلك.

كل هذه الصور وأمثالها تخالف هذه الكلمة التي تدوي على ألسنتا: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.

فيا أيها الإنسان المسلم، في يوم عيدك المبارك انظر ماذا أبقيت لله تعالى من عبادتك، ماذا صرفت لله تعالى من عملك وإخلاصك. يا أيها المعايد الكريم، تأمّل توحيدك، وانظر بعين البصيرة إلى إيمانك، ولا يغرنّك حال أقوام ضعفاء لا يملكون لخلاص أنفسهم شيئًا بين يدي الله تعالى.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.

ثانيًا: العيد والانتماء: العيد تعبير صادق عن انتماء الأمة لدينها، وهو في المقابل دليل على شمول هذه الشريعة ورعايتها للعواطف، وإعطائها فرصة للتعبير عن أفراحها ورغباتها، لقد قدم النبي المدينة ووجد أهلها آنذاك يحتفلون بعيدين يلعبون فيهما في الجاهلية، فقال لهم: "لقد أبدلكم الله خيرا منهما: يوم الفطر ويوم النحر"، وقال: "يا أبا بكر، إن لكل قوم عيدًا، وهذا عيدنا أهلَ الإسلام".

إن الإسلام جاء متوافقًا مع الفطرة الإنسانية، فجعل لها أوقاتا يفسح لها فيه بإفراغ عواطفها، وتعبّر فيها عن مشاعرها، ولذا لا تجد المسلم يتعلّق بأعياد الكفار أو الأعياد المبتدعة في تاريخ الأمة، فليس في تاريخ الأمة عيدًا للأم، ولا عيدًا لوطن، ولا عيدًا لمناسبات غير هذه المناسبات.

ومن حقك -أيها المسلم- اليوم أن تعبّر عن فرحتك بما شئت، شريطة أن لا تتعارض هذه الرغبات بشرع الله تعالى، قتدنّس العيد أو تكتب به صورة من الفرح عقيمة في حقيقتها وفي معناها وفي تاريخها.

ثالثًا: العيد والمسلمون: هذا هو مشهد العيد أيها المسلمون، وأنا أراكم اليوم فرحين مستبشرين، ها أنتم -أيها المسلمون- بين أهلكم وإخوانكم، ها أنتم لا تجدون أقرب تعبيرًا عن هذه الفرحة من هذا الاجتماع واللقاء، وحين رأيت منظركم وتآلفكم واجتماعكم رنا طرفي هناك إلى بلاد المسلمين، أردت أن تكتمل الصورة في عيني، فإذا صورة مبعثرة تترامى أمام عينيّ يبعثها أحد التقارير من أرض فلسطين، يقول في ثناياه: تحتجز إسرائيل (3000) طفل فلسطيني كوسيلة ضغط على أسرهم، تتحدث طفلة فلسطينية من تلك الجموع واسمها نور كايد تقول: اعتقال أخي ترك عندنا فراغًا، فهذه أمي لا تستطيع الإفطار بسبب اعتقال أخي، وأنا تراجعت علاماتي الدراسية من كثرة تفكيري في أخي.

وفي مخيم العين غرب مدينة نابلس ومع الأسير يوسف فؤاد، سبعة عشر عامًا، وقد كُتب على باب أسرته: سنظل صامدين، تقول أمه: من عامين لم تكتحل عيني برؤيته، لقد جهدت في زيارته حتى رحلت عن مدينتي، وغيرت اسمي وأردت زيارته، لكن دون جدوى.

ومن أرض فلسطين إلى أرض الرافدين هناك أسر ممزقة، وأطفال ضياع ومرضى من آثار الحروب والدمار.

وفي باكستان بيوت مهدمة، وأسر مشتتة، وأحوال وأحوال. وفي أرض الإسلام في المشرق أو المغرب أحوال مماثلة يصدق في يوم عيدها قول القائل:

أقبلْتَ يـا عيـدُ والأحزانُ أحزانُ *** وفِي ضميرِ القوافِي ثـارَ بركـانُ
أقبَلْتَ يـا عيـدُ والرمضاءُ تلفحُني *** وقد شكَتْ من غبارِ الدَّرْبِ أجفان
أقبَلْتَ يـا عيـد والظلماءُ كاشفةٌ *** عن رأسهـا، وفـؤادُ البدرِ حَيْران
أقبلتَ يا عيد، أُجْرِي اللحنَ في شفتي *** رطبًـا فيغبِطُنِي أهـلٌ وإخـوان
أزُفُّ تهنئـتِي للنـاس أُشْعِـرُهم *** أني سعيـدٌ وأنَّ القلـبَ جذلان
وأُرسِل البسمـةَ الْخضراءَ تذْكِرَةً *** إلى نفـوسِهُمِ تزهـو وتـزْدَان
قالـوا وقد وجَّهُوا نحوي حديثَهُمُ *** هـذا الذي وجْهُهُ للبِشْر عنوان
هذا الذي تصدر الآهـاتُ عن دمِهِ *** شِعرًا رصيـنًا له وَزْنٌ وألحـان
لا لن أعاتبَهم! هُم ينظُرونَ إلى *** وَجْهِي وفِي خـاطِري للحُزْنِ كتمـان
واللهِ لو قرؤوا في النفْسِ مـا كَتَبَتْ *** يَدُ الِجراحِ ومـا صاغتْهُ أشجان
ولو رأَوا كيف باتَ الحُـزْنُ متَّكئًا *** على ذراعـي وفي عينيه نُكران
لأغمَضُـوا أعيُنًـا مبهورةً وبكَوا *** حالي وقد نالَني بؤسٌ وحِرمَـان

هكذا يقول لسان حالهم في كل يوم، لكن العيد أوضح المأساة في صورتها المعتمة، وأبان عن حسرات تخالج قلوب هذه الفئات حتى في يوم العيد الذي تشهده الأمة وهي في غاية فرحها وسرورها.

ولَكَم مِن يتيم يترقرق الدمع في عينيه لا يجد من يواسيه فقد أبيه! أو أرملة آذاها وكوى قلبها صراخ صِبية صغار يبحثون عن كساء جديد يعبرون به عن فرحتهم! أو مريض أقعده المرض أن يجلب لأهلة وأبنائه كسوة العيد! فخرج كل هؤلاء في يوم العيد بثيابٍ خَلِقة، وألبسة أبلاها الدهر، وهتّك أستارها طول الزمن، لم يجدوا غيرها يشاركون بها الناس في يوم فرحتهم.

إنني من على منبر العيد أقدم قُبلة على جبين مَن يعمل لهؤلاء، فيسعى على كفالة يتيم، أو يتبنّى أسرة فقيرة، أو حتى يجلب لها الطعام والكساء، أو يُجهد في ليله لهم بالدعاء.

ولن نجد لكل هؤلاء إلا الدعاء خير تعبير نعبّر به عن سمو هذه النفوس، وشدة رحمتها، وتطلّعها إلى خير باريها، ألا فلْتَهْنَأ بالرحمة، وقد قال الغزالي وهو يعلّق على حديث: "إن امرأة بغيًا رأت كلبًا في يوم حار يطيف ببئر، قد أدلع لسانه من العطش، فنزعت له موقها، فغفر لها به"، قال: لئن كانت الرحمة بكلب تغفر ذنوب البغايا، فإن الرحمة بالبشر تصنع العجائب.

رابعًا: العيد والرحيل: ها هو العيد -أيها المسلمون- أقبل كما يقبل كل عام، أقبل وهو يلبس ثوب الفرح، أقبل يخالج القلوب، ويعيش في وهج المشاعر، أقبل بعد أن خلّف شهر رمضان في طيات الزمن، وكتب عليه الرحيل، أقبل بكل ما فيه، وهناك، بعيدًا عنه في الجانب الآخر صورة تمثّل رمضان في إدباره ورحيله، وكأن لسان المعايدين اليوم يستلهم هذا الوداع فيقول:

ترحَّلَ الشهـرُ وَا لَهْفَاهُ وانْصَرَمـا *** واختَصَّ بالفَوْزِ في الجنَّاتِ مَن خَدَمَا
وَأَصْبَحَ الغافِلُ المسكيـنُ مُنْكَسِرًا *** مِثْلِي فَيَا ويْحَهُ! يا عُظْمَ مـا حُرِمـا
من فاته الزرع في وقت البِذَارِ فما *** تراهُ يحصدُ إلا الهَمَّ والندَما

ولكل هؤلاء جميعًا، أيًا كانت حسرتهم على فوات شهر رمضان، لا يسعنا أن نقول لهم في يوم العيد: رحل رمضان، ولم يبق لنا من رحيله إلا هتاف علي يقول: ليت شعري! من هذا المقبول فنهنيه، ومن هذا المحروم فنعزيه.

رحل رمضان ولم يبق لنا من رحيله إلا قول ابن مسعود: أيها المقبول هنيئًا لك، أيها المردود جبر الله مصيبتك.

لقد رحل رمضان وكأنه لم يكن، رحل هذا العام وترك من يشهد العيد وهو يلبس الجديد، غير أنا لا ندري أيعود ونحن شهود، أم يعود وقد طمس آثارنا الزمن، ووارى أجسادنا التراب، واندثرت أخبارنا في كثرة الراحلين؟ ولكأني بالشاعر يخاطبني ويخاطب كل مودع نادم مثلي فيقول:

دَعِ البُكـاءَ عَلـى الأطلالِ والدارِ *** واذكُر لمن بان مِن خِلٍّ ومِن جَارِ
واذرِفْ دموعاً نحيبًا وابْكِ مِن أسَفٍ *** عَلَـى فِراقِ ليـالٍ ذاتِ أنوارِ
على ليـالٍ لشَهْرِ الصومِ ما جُعلَتْ *** إلا لتمحيـصِ آثـامٍ وأوزارِ

ولم أجد أصدَقَ تعبيرًا لحالي وحال أمثالي من أن نقول:
يـا لائمي في البُكا زِدْنِي به كَلَفَاً *** واسْمَع غريبَ أحاديثٍ وأخبارِ
مـا كانَ أحسنَنَا والشمل مُجتمع *** مِنَّا المصلِّي ومنا القانِتُ القاري

إن هذا الرحيل صورة من صور الوداع المُرِّ في حياة الإنسان، والعاقل الفطن يجهّز للرحيل المنتظر لحياته من على وجه هذه الأرض، ولئن شهدنا اليوم وداع رمضان فإن الأيام حبالى بتوديع ذواتنا أو توديع أحبابنا في الرحلة الحتمية لبني الإنسان أيًا كان. فاللهَ اللهَ أن نبرهن بالعمل على صدق النية، والاستعداد للنّقلة! فإن الغد المنتظر أقرب إلى أحدنا من شراك نعله، ولا يغرنكم التسويف فإنما آجالنا قد كُتبت، ورحيلنا ربما قد حان.

خامسًا: العيد والإخاء: جاء العيد أيها المسلمون- ليرسم على الشفاه معاني الحب، ويكتب في حياة المسلمين حياة من الإخاء الصادق، يقول: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام".

والسؤال الذي يطرح نفسه في ساحة العيد بالذات: القلوب المتنافرة أما آن لها أن تتصافح؟! هل لا زالت مصرة على معاندتها للفطر السوية؟! هل لا زال الكبر يوقد ضرامها ويشعل فتيل حقدها؟! ألا يمكن أن ينجح العيد في أن يعيد البسمة لشفاه قد طال شقاقها؟! إن هذه القلوب يُخشى عليها إن لم تُفلح الأعياد في ليّها للحق فإن لفح جهنم قد يكون هو الحل الأخير القادر على كسر مكابرتها ولي عناقها.

إلى متى هؤلاء يصمّون آذانهم عن قول رسول الهدى: "هجْر المسلم سَنَةً كسفك دمه"، وقوله: "تُعرض الأعمال على الله كل اثنين وخميس إلا المتخاصمَيْن، فيقول الله: أنظروا هذين حتى يصطلحا"؟!.

وإن لم يُفلح العيد في تحليل صلابة هذه القلوب فوعيد الله تعالى غير بعيد حين قال في كتابه الكريم: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) [محمد:22-23].

وقوم أصابتهم لعنة الله تعالى في أنفسهم، وعاشت معهم في حياتهم، أنّى يجدون طعم الراحة والاستقرار؟! فهذا العيد وهذه أيامه والفرصة سانحة، فلا تفوّتْها، لا حرمك الله من الصفاء والوفاء.

سادسًا: العيد والعبادة: لقد رسم شهر رمضان في كثير من النفوس أثر الإقبال على العبادة، والذي أوصلها إلى صفاء في الروح، ولذة في المناجاة، وصدقًا في التوجه، وأودع في نفوس الكثيرين درسًا عظيمًا مَفَادُهُ أن الإنسان مهما أظلته المعصية، وأركسته في حمأتها، وأحاطت بنفسه عن التحليق في روحانية العبادة، إلا أنه قادر -بإذن الله تعالى- على تجاوز هذا المنعطف في حياته متى ما وصلته الكلمة الهادفة، والنصيحة الواعية، وهو يتطلّع اليوم إلى توجيه يرشده إلى طرق أخرى لهذا السمو ولذاك الرقي الذي وجده في رمضان، وهو يتساءل: هل يمكن أن يجد هذه المعاني بعد رمضان؟ وهل يمكن أن يصل إلى تلك النوعية من اللذة التي وجد أثرها في ليالي رمضان وأيامه؟.

فنقول له ولأمثاله المتطلعين: نعم! يمكن أن تستمر هذه المعاني، وتصل بالفرد إلى أعلى ما يتخيله من آمال وطموحات على مستوى الحياة بأسرها.

إن الصيام الذي خلق في النفس روحانية عجيبة لا زال اليوم موجودًا، والفرد مدعو لامتثاله في قول رسول الله: "مَن صام رمضان وأتبعه ستًا من شوال فكأنما صام الدهر".

وحينما يتخطى شَهْرَهُ الذي يشهد فيه العيد، يبدأ في تحقيق وصية رسول الله في صيام ثلاثة أيام من كل شهر، أو في صيام الاثنين والخميس التي قال فيها لما سئل عن سر صيامها: "إن الأعمال تُعرض فيها وأحب أن يعرض عملي فيها وأنا صائم".

والصلاة التي وجد فيها سر المناجاة بينه وبين خالقه لا زالت لم يغلق بابها بعد، فهذا رسول الهدى يقول: "ينزل الله تعالى في الثلث الأخير من الليل إلى السماء الدنيا فيقول: هل من داع فأجيبه، هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له" الحديث. فمن يحول بينك وبين هذه اللذة وتلك المناجاة؟.

وحينما يتأمل الإنسان في معنى العبادة الذي جاء لتحقيقها يجد المعنى الذي قرره شيخ الإسلام حينما قال: العبادةُ اسمٌ جامعٌ لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. اهـ.

وأوسع باب يلج منه إلى تحقيق هذه المعاني فيجد أمام ناظريه الأذى في الطريق فيبادر إلى إزالته، فيلقى على ذلك الأجر في قول رسوله: "وتميطُ الأذى عن الطريق صدقة".

وحينما يرى ذلك الرجل يجهد في الركوب على دابته ومن ثم لا يستطيع لكبره وضعف جهده فيبادر إلى مساعدته، يلقى جزاء هذه المساعدة في توجيه رسوله الكريم حين قال: "وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو تحمل له متاعه صدقة".

وحينما يجد أخاه في الطريق فيبتسم للقياه تعبيرًا منه على صدق المودة يجد العِوض قريبًا، والأجر حاضرًا، وهو قوله: "وتبسّمك في وجه أخيك صدقة".

وحين يرى منكرًا فيسعى لتغييره وإزالته يجد الثناء عظيمًا من ربه ومولاه في قوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران:104].

وعندما يسعى بجهده في إقامة معروف وإشاعة فضيلة لا يجد جزاء أوفى من قول رسوله الكريم: "مَن سن في الإسلام سُنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة".

بل يصل المعنى الذي قرره شيخ الإسلام حتى إلى أن مداعبة الرجل لأهله على سبيل المزاح أمر يؤجر عليه المسلم، ويحصّل به خيرًا كثيرًا عند ربه تبارك وتعالى، حين قال رسول الهدى: "حتى اللقمة يرفعها إلى في زوجته له بها أجر". إلى غير ذلك من أنواع العبادات التي حث الشرع عليها وأرشد لها.

والمتطلع إلى الأجر الذي أوصله وجْدُه على فراق رمضان إلى حد البكاء، يمكن أن يعيش في ظل الإيمان والبحث عن الخير والمحافظة على المعروف إلى أرقى معاني العبودية بينه وبين ربه تبارك وتعالى.

وأخيرًا -أيها المسلمون- العيد صورة من الفرحة تبدو واضحة حين يداعب الرجل أهله وأبناءه في يوم العيد، وحين يشاركهم لهوهم وسعادتهم في مثل هذه الأيام، ويبدو العيد أكثر فرحة حين تمتد اللقاءات بين الجيران والأصدقاء، حين يخرج المرء من بيته قاصدًا أهله وصحبه وإخوانه، لا لشيء إلا لمدّ فرحة العيد في قلوب الآخرين.

وتبدو أكثر أثرًا وأوضح صورة حين يتجاوز أحدنا خلافاته مع الآخرين فينطلق إليهم إلى بيوتهم، فيقبلهم داعيًا لهم بهذه القدوة إلى نوع من الإبداع في صورة العيد في نفوسهم.

نحتاج إلى عيد خالٍ من دنس المعصية، بعيدًا عن جرح النفوس الفرحة بالعيد على وجه العبادة. العيد صورة من صور العبادة لله تعالى، والفرحة التي نعيشها فيه إنما تنطلق من سياج العبودية العظيم، والفرح حقيقة هو الفرح في ظل هذا السياج العظيم. فاحذر -أخي المسلم- أن تبدد الفرحة اليوم بمقارفة منكر، أو دنَسِ رِيبَةٍ، وحلِّقْ بقلبك في سمو هذه الشريعة، تجد فناءها أوسع فناء.

هنيئًا بالعيد يا أهل العيد، وأدام الله عليكم أيام الفرح، وسقاكم سلسبيل الحب والإخاء، ولا أراكم في يوم عيدكم مكروهًا.

ألا وصَلُّوا وسلِّموا على من أُمرتم بالصلاة والسلام عليه...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي