الحث على الاجتماع وذم الفرقة والاختلاف

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

عناصر الخطبة

  1. الحث على الاجتماع في القرآن وذم الفرقة
  2. أخوة في الله لا في شيء آخر
  3. اتباع الهوى أعظم أسباب الاختلاف والتباغض
  4. الاختلاف يقضي على حضارة الأندلس
  5. تسلط اليهود والصليبيين على فلسطين وما حولها
  6. مناهج المغايرة لمنهج الله أكبر أسباب التشرذم

إن الحمد لله…

عباد الله: لقد مدح الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- الاجتماع والائتلاف وتنمية روح الأخوة بين المسلمين، وذَمَّ الفرقة والتشرذم والاختلاف؛ فالاجتماع قوة، وهو سبب كل خير، وسبيل لكل فضيلة، والاختلاف -بلا شك- ضعف، وهو نذير هلاك، ودليل بوار، وما اعتصمت أمة بكتاب ربها وسنة نبيها -صلى الله عليه وسلم- إلا نجَّاها الله تعالى، ورفعها على غيرها من الأمم؛ يقول الله -تبارك وتعالى-: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [آل عمران: 103]، فجعل الهداية إلى الائتلاف والاعتصام بحبله تعالى آية من آيات الله، تستحق التأمل والتدبر في مغزاها وآثارها.

فهذه الأخوة المعتصمة بحبل الله نعمة يمتنّ الله بها على الجماعة المسلمة الأولى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾، وهي نعمة يهبها الله لمن يحبهم من عباده إلى قيام الساعة، وهو هنا يذكِّرهم هذه النعمة، يذكِّرهم كيف كانوا قبل الإسلام أعداءً، فما كان أعدى من الأوس والخزرج في المدينة أحد، وهما الحيان العربيان في المدينة النبوية، يجاورهما اليهود الذين كانوا يوقدون حول هذه العداوة، وينفخون في نارها، حتى تأكل روابط الحيين جميعًا، ومن ثمّ تجد يهود بيئتها الفاسدة ومجالها المناسب الذي لا تعمل إلا فيه، ولا تعيش إلا معه. وهو نفسه الواقع الحالي الذي تدعونا الوقائع والأحداث المعاصرة إلى التعلم منه؛ فـ”فرِّق تسد” ما هي إلا مذهب شيطاني من مذاهب الصهيونية التي وعاها الأعداء وبثوها في قلوب الأمة، بدءًا من الدول والإمارات الإسلامية التي فعَّلت حدودًا سياسية فيما بينها، وانتهاءً بالتجمعات الإسلامية الصغيرة أو الكبيرة التي صارت توالي وتعادي على الانتماء للمذهب أو الشيخ أو القبيلة.

إنها الأخوة في الله، أخوّة تنبثق من التقوى والإسلام، أساسها الاعتصام بحبل الله –وهو عهده ونهجه ودينه- وليست مجرد تجمع على أي تصور آخر، ولا على أي هدف آخر، ولا بواسطة حبل آخر من حبائل الشيطان التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى.

ولنتأمل نداءات الرحمن للمسلمين في القرآن لنجدها من بداية الكتاب إلى نهايته تنعتهم بلفظ واحد يجمعهم هو الإيمان؛ فيناديهم الله تعالى بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، ويخبر عنهم في موضع آخر: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات:10]، ويؤكد عليهم في موضع ثالث: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾ [المؤمنون:52]… وهكذا، فلم يفرِّق بين عربي وأعجمي، أو أحمر وأسود، أو مهاجري وأنصاري، أو حتى بين بشري وجني، فالكل واحد، وخطابهم واحد، وتكاليفهم واحدة: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً).

أيها الأحباب: ليس من سبيل لانتشال هذه الأمة من مستنقع الضياع الذي تغوص فيه إلا بنبذ الخلافات، وصهرها في أتون المحبة والوفاق والأخوة؛ لتستخلص منها شرابًا حلو المذاق، يخترق عبقُه الزكيُّ أنوفًا أزكمها نتن الهوى والميل عن الحق، وعفن الفرقة وإعجاب كل ذي رأي برأيه.

ومما ورد -أيها المسلمون- في مدح الاجتماع والأمر به قوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2]؛ حيث أمر تعالى بأن يكون المسلمون يدًا واحدة في التعاون على الخير والإصلاح، ولا يتأتى ذلك التعاون إلا بالاجتماع على الخير، والتآلف بين القلوب، والمحبة بين الإخوان، ولا يكونون إخوانًا حقًّا حتى يتعاونوا فيما بينهم على الخير والتقوى.

وكذلك حثّ النبي -صلى الله عليه وسلم- على الاجتماع فقال: “إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تدابروا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانًا”، فتضمن الحديث النهي عن كل ما من شانه أن يبث الكراهية والبغضاء والفرقة بين المسلمين، وفيه كذلك حضٌّ وحثٌّ وأمرٌ بالأخوة الصادقة، التي تثمر امتزاجًا بين القلوب المتحابة والمتآلفة. يقول الإمام الشافعي –رحمه الله تعالى-: قد جمع الله الناس بالإسلام، ونسبهم إليه، فهو أشرف أنسابهم.

ويقول العلامة العثيمين -رحمه الله- تعليقًا على الحديث: وفيه وجوب تنمية الأخوة الإيمانية؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: “وكونوا عباد الله إخوانًا”، ومنها بيان حال المسلم مع أخيه، وأنه لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره؛ لأن هذا ينافي الأخوة الإيمانية.

فالأخوة الإيمانية والدعوة إلى الاجتماع والائتلاف تقتضي دفع السيئة بالحسنة: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾، ومقابلة الشر بالخير، وكظم الغيظ مع القدرة على إنفاذه، والمغفرة وسعة الصدر مع المخالفين: ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾، واللين والرفق بالمسلمين حتى وإن جهلوا وعابوا وأساؤوا الظن:

وإن الـذي بيني وبين بـني أبي *** وبـين بنـي عمي لمختلف جدًّا فإن يأكلوا لحمي وفرت لحومهم *** وإن يهدموا مجدي بنيت لهم مجدًا وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم *** وإن هم هووا غيي هويت لهم رشدًا وإن زجروا طيرًا بنحس تَـمُرُّ بي *** زجــرتُ لهم طيرًا تمرُّ بهم سعدًا ولا أحـمل الحـقد القديم عليهم *** وليس كريم القـوم من يحمل الحقدا

أيها الإخوة الأحباب: إن سنَّة الله تعالى في الأمم التي طلعت عليها شمس الفطرة البشرية أن تقع في الاختلاف، وهذا أمر طبيعي؛ ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الروم: 30]، سواء اختلافها في وجهات نظرها، أم تحديدها للأولويات، فضلاً عما بين البشر من تفاوت في العقول والأفهام وإدراك الحقائق، وليست الدعوة الإسلامية -باعتبارها نشاطًا بشريًّا- بمنأى عن ذلك، حيث جاءت كثير من النصوص الشرعية في الفروع حمّالة أوجه؛ لتقبل أكثر من تأويل، ويكون لها أكثر من تفسير، وفقًا لتعدد الزمان والمكان، واختلاف أحوال العباد، وذلك -لا شك- مِنْ يُسْر الشريعة الإسلامية التي تفردت بمثل هذه الخصيصة؛ قال الله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، فلا خلاف في مسائل العقائد والثوابت من الشريعة، وإنما جاء الخلاف في المسائل الفروعية تيسيرًا على الأمة، وإيعازًا للدعاة والمصلحين إلى تقبل الخلاف بصدر رحب، وهذا هو الاختلاف المحمود الذي لا يذم من أتى به.

ولكن على الرغم من بداهة ما سبق، إلا أننا نستطيع أن نلمس حالة من التهارج والتشرذم والتفرق بين الصالحين والمصلحين -إلا من رحم الله-، تلك الحالة التي أورثت خذلانًا وفشلاً، وضياعًا للكلمة، وسط ركام هائل من التنازعات، واعتداد كل صاحب رأي برأيه، فكان ذلك مصداقًا لوعيد الله -تبارك تعالى- في قوله: ﴿وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال: 46]؛ فحالة الفشل المستشرية في الأمة، وذهاب القوة، وضياع الكلمة، وعدم اكتراث الأعداء بالمؤمنين، نتيجة -ولا شك- لتنازع الجماعة المسلمة وتفرقها، واستشراء هذا الداء العضال بين أبنائها. وهذا هو الاختلاف المذموم الذي يترتب عليه الخسران والبوار في الدنيا والآخرة.

وإن أعظم الأسباب المفضية إلى اختلاف القلوب، والتباغض والتحاسد، والفرقة بين المسلمين؛ اتباعهم للهوى، وميلهم عن الحق لغرض شخصي في نفوسهم، فالهوى -عباد الله- سمٌّ فتاك، واتباعه نذير شؤم على الفرد والمجتمع؛ يقول -تبارك وتعالى- محذرًا نبيه داود -عليه السلام- من مغبة اتباعه لهواه: ﴿وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ [ص: 26]، فجعل اتباع الهوى انحرافًا عن سبيل الله تعالى، والانحراف عن سبيله سبب في العذاب الشديد في الدنيا والآخرة.

أيها الإخوة الأحباب: إن طَرْح الهوى جانبًا، واستسلام المؤمنين لله ابتداءً يُبطل أسباب النزاع، فما يتنازع الناس إلا حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه؛ وإلا حين يكون الهوى المطاع والشح المتبع هو الذي يوجِّه الآراء والأفكار، فإذا استسلم الناس لله ورسوله انتفى السبب الأول للنزاع بينهم، مهما اختلفت وجهات النظر، فليس الذي يثير النزاع هو اختلاف وجهات نظر المتخالفين، فلَكَم اختلف العلماء والصالحون والمصلحون من السلف والخلف، وظلوا مع ذلك إخوانًا متحابين متآلفين؟! إنما مثار التنازع والفُرقة هو الهوى الذي يجعل كل صاحب رأي يصرّ عليه، مهما تبين له أن وجه الحق في غيره! وإنما هو وضع “الذات” في كفة، والحق في كفة؛ وترجيح الذات على الحق الواجب الاتباع: (وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) [المؤمنون: 71].

أَرَدْتُكُمُ حصنًا حصينًا لتدفعوا *** نبال العدى عني فكنتم نصالَها فيا ليت إذ لم تحفظوا لي مودتي *** وقفتم، فكنتم لا عليها ولا لها

لقد كانت الفرقة إيذانًا بتسلط التتر على دولة الإسلام، في وقتٍ انتشرت فيه الفتن في المذاهب، واعتداد كل ذي رأي برأيه، دون النظر إلى المصلحة العامة للأمة، ولكم أن تتخيلوا -أيها الإخوة الكرام- أن هذه الفرقة كانت سببًا في وقوع قتلى بالملايين في ذلك العصر، ولَكَمْ اهتزت منابر العلماء الصادقين في ذلك الزمان تدعو إلى الاتحاد والاعتصام بكتاب الله تعالى ونبذ الفرقة والاختلاف؛ حفاظًا على حياة الأمة، وانتصارًا للحق في وجه البغاة والمحتلين، ولكن لا حياة لمن تنادي، فكان من نتيجة ذلك تسلط للكفار على بلاد المسلمين، وقتلى بلا عد ولا حصر.

وبعد عدة قرون -أيها المسلمون- وفي مشهد قاسٍ يُدمي القلب ويُدمع العين، تسلَّطَ الصليبيون على المسلمين في بلاد الأندلس، يوم أن أصبحوا فرقًا وطوائف بعد عزّ وتمكين داما ثمانية قرون عاشت فيها إسبانيا أزهى عصورها، ورأت من صنوف التقدم والحضارة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر في ذلك الحين، ولا تعجبوا إن طالعتم في كتب التاريخ التي أرّخت لهذه الفترة من حياة أمة الإسلام، لا تعجبوا عندما تجدون أن حُكّام إمارات الأندلس كان يستقوي أحدهم بالحكام الصليبيين طلبًا لمساعدتهم في قتال الدويلات الإسلامية من حوله، طمعًا في الاستيلاء عليها، وبسط نفوذه على أرضها وخيراتها، وذلك بالطبع بعد أن قسَّم التنازع والاختلاف دولة الأندلس العظيمة -التي اقتدت بها أوروبا في عصور نهضتها- إلى دويلات صغيرة، ولَكُم كذلك أن تتقطع قلوبكم حسرة وكمدًا إذا علمتم أن فتوحات الأندلس الإسلامية وصلت في وقت من الأوقات إلى أبواب مدينة باريس عاصمة فرنسا في معركة بلاط الشهداء الشهيرة، يقول “جوستاف لوبون” –وهو أحد المؤرخين الغربيين-: “لو أن العرب استولوا على فرنسا، إذن لصارت باريس مثل قرطبة في إسبانيا، مركزًا للحضارة والعلم؛ حيث كان رجل الشارع فيها يكتب ويقرأ، بل ويقرض الشعر أحيانًا، في الوقت الذي كان فيه ملوك أوروبا لا يعرفون كتابة أسمائهم”.

وبعد انتهاء المعركة التي حاول المسلمون فيها فتح فرنسا لتكون معقلاً من معاقل الإسلام في أوروبا، ولكنها انتهت بهزيمة المسلمين، بعدها لم تسنح للمسلمين فرصة أخرى، فقد أصيبوا بتفرق الكلمة، واشتعال المنازعات، في الوقت الذي توحدت فيه قوة النصارى، وبدأت تستولي على ما في أيدي المسلمين في الأندلس من مدن وقواعد، ثم سقطت دويلات الأندلس تباعًا.

عباد الله: ولا تزال حلقة أخرى من حلقات التنازع والاختلاف في عصرنا الحاضر، أنتجت همًّا جديدًا، وجرحًا غائرًا في جسد الأمة المتداعي؛ حيث تسلط اليهود في هذا العصر على بيت المقدس والمسجد الأقصى، واستطالوا على الملايين المحيطة به من المسلمين، وما ذلك إلا لتقطُّع أمرهم، وفساد ذات بينهم، وإعراضهم عن أمر الله -عزّ وجل- واتباعهم للهوى، فلا يكاد المسلمون اليوم يجتمعون على رأي، ولا يتلاقون على خطة يجابهون بها أعداءهم، أو ينهضون فيها بأمتهم، أو يصدون بها العدو الصهيوني الصائل، وكأن اجتماعاتهم إنما قدّرها الله علينا لتزيدنا إيمانًا بخطر الفرقة ومضار الاختلاف. فلله كم من دماء أريقت، وأرواح أزهقت، ومقدسات هُتكت؟! ولا يزالون مختلفين!!

أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيد البشر، الذي انشق له القمر، وسلم عليه الحجر، ما طلعت الشمس على أشرق منه وجهًا ولا أنور، فاللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المحشر.

أيها الإخوة الأحباب: اعلموا أنه من غير الممكن أن يجمع القلوبَ إلا أُخُوَّةٌ في الله، تصغر إلى جانبها الأحقاد التاريخية، والثارات القبلية، والأطماع الشخصية، والرايات العنصرية، ويتجمع الصف تحت لواء الله الكبير المتعال، باتباع هدي الله، والاسترشاد بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

فلا أخوة الوطن، ولا رابطة الدم، ولا نعرات القبيلة، ولا تَنَادي القوميات والأعراق، تقدر على انتشال الأمة من مستنقع الاختلاف الآسن الذي تغرق فيه، بل على العكس؛ إنها تزيد الاختلافات حدة، وتشعل نار الفرقة بما لا يدع مجالاً لعودة العلاقات لطبيعتها من جديد، فالاختلاف مؤذن بالهلاك والتخبط والضلال؛ روى البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: لما حضر النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أي حضره الموت، قال -وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب- قال: “هلم أكتب لكم كتابًا لن تضلوا بعده”. قال عمر: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- غلبه الوجع، وعندكم القرآن، فَحَسْبُنا كتاب الله. واختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتابًا لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغط والاختلاف عند النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “قوموا عني”. قال عبيد الله: فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم.

وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ، وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ”.

نعوذ بالله تعالى من الهلاك والثبور، ونسأله -جل في علاه- أن يجمع شتات قلوبنا، وأن يوحد كلمتنا، وأن يباعد بيننا وبين الفرقة والاختلاف، وأن يقربنا ساعة فساعة من المحبة والمودة والائتلاف.


تم تحميل المحتوى من موقع