المجازفةُ بالتكفير شرٌّ عظيم، وخطر جسيم، كم أذاق الأمّةَ من الويلات، ووبيل العواقب والنهايات، لا يسارِع فيه مَن عِنده أدنى مَسكة من ورعٍ وديانة، أو شذرة من عِلم أو ذرّةٍ من رزانة، تتصدّع له القلوب، وتفزَع منه النفوس، وترتعِد من خطرِه الفرائص، يقول الإمام الشوكانيّ -رحمه الله-: "وها هنا تُسكَب العبرات، ويُناح على الإسلام وأهلِه بما جناه التعصّبُ في الدين على غالبِ المسلمين ..
أمّا بعد:
فيا عبادَ الله: العيشُ الوثير، والخير الوفير، والرزق الكثير، ثمرةُ تقوَى المولى اللطيف الخبير، فاتقوا الله رحمكم الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الحديد: 28].
أيّها المسلمون: لا يرتابُ الغيورون على أحوال الأُمَّةِ أنها تعيش زمنَ طوفانِ الفِتن، وأنَّ واقعَها المريرَ يعُجّ بفتنٍ عمياء ودَواهٍ دَهياء، قد انعقد غمامُها، وادلهمَّ ظلامُها، غيرَ أنّ هناك فتنةً فاقرة، وبليّة ظاهرة، فتنةً امتُحِن المسلمون بها عبرَ التأريخ، فتنةً عانت منها الأمّة طويلاً، وذاقت مرارتَها وتجرّعت غُصصَها ردحًا من الزمن، فتنةً طال ليلُها وأرخى سدولَه بشتَّى همومها، وناءت بكَلكلِها وغمومها، كم نجَم عنها من سفكِ الدماء، وتناثُر الأشلاء، وحلَّ جرّاءَها من نكباتٍ وأرزاء، وبالجملة فهي محِيطٌ ملغوم، ومركَب مثلوم، ومستنقَعٌ محموم، وخطر محتوم، زلّت فيها أقدام، وضلّت فيها أفهام، وبالتالي فهي جديرةٌ بالتّذكير، حفيَّة بالتفكير، قِمنَة بالتبصير، بله صرخة نذير، وصيحة تحذير، حتى لا تتجدَّد فواجعُ الأمّة في العنف والتدمير، والإرهاب والتفجير.
أجزمُ -يا رعاكم الله- أنه لم يعُد يخفى على شريفِ علمكم أنها الظاهرةُ الجديرة بالتنديد والتفكير، والمعالجة والتغيير، إنها فتنةُ التكفير، وكفى بها من فتنةٍ تولِّد فِتنًا.
هي محنةٌ لا بل ستغدو منحةً *** فضلَ الكريم القادر المنّان
إخوةَ الإسلام: المجازفةُ بالتكفير شرٌّ عظيم، وخطر جسيم، كم أذاق الأمّةَ من الويلات، ووبيل العواقب والنهايات، لا يسارِع فيه مَن عِنده أدنى مَسكة من ورعٍ وديانة، أو شذرة من عِلم أو ذرّةٍ من رزانة، تتصدّع له القلوب، وتفزَع منه النفوس، وترتعِد من خطرِه الفرائص، يقول الإمام الشوكانيّ -رحمه الله-: "وها هنا تُسكَب العبرات، ويُناح على الإسلام وأهلِه بما جناه التعصّبُ في الدين على غالبِ المسلمين من الترامي بالكُفر، لا لسنّةٍ ولا لقرآن، ولا لبيانٍ من الله ولا لبرهان، بل لما غلَت به مراجلُ العصبيّة في الدين، وتمكّن الشيطان الرجيم، من تفريقِ كلمة المسلمين، لقَّنهم إلزاماتِ بعضِهم لبعض بما هو شبيهُ الهباء في الهواء والسّراب بقيعةٍ، فيا للهِ والمسلمين من هذه الفاقِرة التي هي أعظمُ فواقرِ الدين، والرّزيةِ التي ما رُزِئ بمثلِها سبيلُ المؤمنين...". إلى أن قال -رحمه الله-: "والأدلّة الدالّة على وجوب صيانةِ عِرض المسلم واحترامِه تدلّ بفحوى الخطاب على تجنُّب القدح في دينه بأيِّ قادِح، فكيف إخراجه عن الملّة الإسلاميّة إلى الملةِ الكفريّة؟! فإنّ هذه جنايةٌ لا يعْدلُها جناية، وجرأةٌ لا تماثِلها جرأة، وأين هذا المجترِئ على تكفير أخيه من قولِ رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "المسلمُ أخو المسلم؛ لا يظلِمه ولا يُسلمُه"، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "سِبابُ المسلم فسوقٌ، وقِتالُه كفر"، وقوله –صلى الله عليه وسلم-: "إنّ دماءَكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام". انتهى كلامه -رحمه الله-.
إخوةَ الإيمان: لقد جاءتِ النصوصُ الزاجرة عن هذا المرتعِ الوخيم، والمسلَك المشين؛ يقول سبحانه: (فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [النساء: 94]، وفي الصحيحين من حديث ابنِ عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "إذا قال الرجلُ لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدُهما، فإن كان كما قال وإلاّ رجعت عليه"، وفيهما من حديث أبي ذر -رضي الله عنه- أنه سمع رسولَ الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "من دعا رجلاً بالكفر أو قال: عدوّ الله، وليس كذلك، إلا حارَ عليه"، وعند الطبرانيّ بسند صحيحٍ أنّ رسولَ الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن رمى مؤمِنًا بكفرٍ فهو كقتلِه".
وعلى هذا المنهَج الناصِع الوضيء سارَ صحابةُ رسول الله، خرّج الإمام أحمد والطبرانيّ وغيرهما عن أبي سفيانَ قال: سألتُ جابرًا وهو مجاورٌ بمكّة: هل كنتم تزعُمون أحدًا من أهل القبلة مشركًا؟! فقال: معاذ الله، وفَزع لذلك، فقال رجلٌ: هل كنتم تدعون أحدًا منهم كافرًا؟! قال: لا.
وعلى هذا المسلَك المشرِق اللألاء سارَ السلف الصالح -رحمهم الله-، فوضَعوا لهذا الحكم أصولاً وشروطًا وضوابط، ورسموا له حالاتٍ وموانع، لا بدّ من مراعاتها والتثبُّت فيها، وما ذلك إلاّ لخطورته ودقّته.
وأهمُّ هذه الضوابط -يا عبادَ الله- أنّ التكفيرَ حكم شرعيٌّ، ومحضُ حقّ الله سبحانه ورسولهِ –صلى الله عليه وسلم-، يقول الإمام العلامة ابن القيم -رحمه الله-:
الكفر حقُّ الله ثم رسولِـه *** بالنصِّ يثبت لا بقول فلان
من كان ربُّ العالمين وعبدُه *** قد كفّراه فذاك ذو الكفران
ويقول الإمام الطحاويّ -رحمه الله-: "ولا نكفّر أحدًا من أهل القبلةِ بذنبٍ ما لم يستحلَّه". قال ابن أبي العزّ -رحمه الله-: "إنّ بابَ التكفير وعدم التكفير بابٌ عظُمت الفتنةُ والمحنةُ فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتّت فيه الأهواء والآراء، وتعارضَت فيه دلائلُهم، فالنّاس فيه على طرفين ووسَط". ثم قال: "وإنه لمن أعظمِ البغي أن يُشهَد على معيَّن أن اللهَ لا يغفر له ولا يرحمه، بل يخلّده في النار".
وقال الغزاليّ -رحمه الله-: "والذي ينبغي الاحترازُ منه التكفيرُ ما وجد إليه سبيلاًَ؛ فإنّ استباحةَ الدماء والأموال من المصلِّين إلى القبلةِ المصرّحين بقول: لا إله إلا الله محمّد رسول الله خطأ، والخطأ في ترك ألفِ كافرٍ في الحياة أهونُ من الخطأ في سفكِ دمٍ لمسلم".
وقال الإمام النوويّ رحمه الله: "اعلم أنّ مذهبَ أهل الحقّ أنه لا يكفَّر أحدٌ من أهل القبلةِ بذَنب، ولا يُكفَّر أهلُ الأهواء والبدَع وغيرُهم". ويقول الإمام القرافيّ -رحمه الله-: "كونُ أمرٍ ما كفرًا أيّ أمرٍ كان ليس من الأمور العقليّة، بل هو من الأمور الشرعيّة، فإذا قال الشارع في أمرٍ ما: هو كفر فهو كُفر".
ويقول شيخ الإسلام ابن تيميّة -رحمه الله-: "فلهذا كان أهلُ العلم والسنّة لا يكفِّرون من خالفَهم وإن كان ذلك المخالِف يُكفِّرهم؛ إذِ الكفر حكمٌ شرعيّ، فليس للإنسان أن يعاقبَ بمثلِه كمن كذب عليكَ وزنى بأهلِك، ليس لك أن تكذِب عليه ولا تزني بأهله، لأنّ الكذبَ والزنا حرامٌ لحقّ الله تعالى، وكذلك التكفير حقُّ الله، فلا يُكفَّر إلاّ من كفّره الله ورسوله".
وقال الشيخ المجدِّد محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-: "وبالجملةِ فيجب على كلِّ من نصَحَ نفسَه أن لا يتكلَّم في هذه المسألةِ إلا بعلمٍ وبرهانٍ منَ الله، وليحذَر من إخراج رجلٍ من الإسلام بمجرَّد فهمِه واستحسان عقله، فإنّ إخراجَ رجلٍ من الإسلام أو إدخالَه من أعظم أمور الدّين، وقد استزلَّ الشيطان أكثرَ الناس في هذه المسألة".
الله أكبر، هذا هو ورَعُ السلف في هذا الباب، فكيف يسوغ بعدَ هذه النقول كلِّها لمن لم يبلُغ في مقدار علمهم وفضلهم نقيرًا ولا قطميرًا أن يتجاسَر على المسارعةِ إلى الحكم بالكفر الصُّراح في حقّ إخوانه المسلمين جملةً وتفصيلاً؟! عياذًا بالله عياذًا. أوَما علِم هؤلاء ما يترتَّب على التسرُّع في التكفير من أمورٍ خطيرة مِن استحلال الدمِ والمال، ومنعِ التوارُث، وفسخِ النكاح، وتحريم الصلاةِ عليه، وعدَم دفنِه في مقابر المسلمين، مع ما يستوجبه من الخلودِ في النار والعياذ بالله، إلى غير ذلك ممّا هو مزبورٌ في مظانِّه؟! فلا جرَمَ بعد ذلك كلِّه أن يقفَ الشرعُ منه موقِفًا صارمًا، يسدُّ الطريقَ على أحفاد ذي الخويصرة وحرقوص بن زهير ومَن خرج مِن ضئضِئهم ممّن يكفّرون أهلَ الإسلام ويدَعون أهلَ الأوثان، بل يوزّعون صكوكَ جهنّم على الخليقة وهم لا يشعرون، والله المستعان.
أمةَ الإسلام: ومِن الضوابط المهمّة في هذه المسألةِ الخطيرة: أنّ المسلمَ لا يُكفَّر بقوْلٍ أو فِعل إلاّ بعد أن تقامَ عليه الحجَّة وتُزالَ عنه الشّبهة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فليس لأحدٍ أن يكفِّر أحدًا من المسلمين وإن أخطأ وغلِط حتى تُقامَ عليه الحجّة ويبيَّن له المحجَّة، ومن ثبت إسلامُه بيقين لم يزل عنه ذلك بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامةِ الحجة وإزالة الشبهة".
ومِن الضوابطِ: أنه يجب التفريق بين الفِعل والفاعل والإطلاقِ والتعيين وتنزيل النصوص على الوقائِع والأشخاص؛ جاء في مجموع الفتاوى ما نصُّه: "فإنّ نصوصَ الوعيد التي في الكتابِ والسنة ونصوصَ الأئمة بالتكفير والتفسيق ونحو ذلك لا يستلزم ثبوتَ موجبِها في حقِّ المعيَّن إلاّ إذا وُجِدت الشروط وانتفَت الموانِع، لا فرقَ في ذلك بين الأصول والفروع".
ومنها: أنَّ الكفرَ نوعان: أكبر وأصغر، اعتقاديّ وعمليّ، وهذا ممّا التبس على كثيرٍ ممّن يتراشقون بالتكفير، فغفلوا عن الجمع بين النصوص والمنهجِ الصحيح فيما ظاهره التعارضُ.
ولهذا ذهَب جماهير العلماءِ سَلفًا وخلَفًا إلى التفصيل في قضيّة الحاكميّة، وهو مذهبَ حَبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عبّاس -رضي الله عنهما- حيث يقول: "ليس بالكفرِ الذي يذهبون إليه، وإنما هو كفرٌ دون كفر". وإليه ذهب الطبريّ وابن كثير والقرطبيّ وعِكرمة ومجاهد وعطاء وطاوس والزجّاج والآجريّ وابن عبد البرّ والسمعانيّ والجصّاص وأبو يعلى وأبو حيّان وابن بطّة وابن عطيّة وابن الجوزيّ وشيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وأئمة الدعوة والمحقّقون قديمًا وحديثًا.
وعدَّ أهلُ العِلم أربعَ حالاتٍ في هذه المسألة على تفصيلٍ نفيس يحقِّق الجمعَ بين النصوصِ، ما يؤكِّد الإجماعَ على براءةِ أهل السنة من تكفير عُصاةِ الأمّة، مع أنّ وجوبَ الحكم بما أنزل الله لا يتمادى فيه مسلمان، وكلُّ مسلِّم للحُكم بغير الشريعةِ من القالين، بيدَ أنَّ هذا الجُرمَ المستبين لا ينبغي أن يُخرجنا لحماسةٍ مشبوهةٍ وعاطفة جيّاشةٍ عن قواعدِ أهل العِلم والإيمان وأصولِ أهل السنة والقرآن، ومنهجِ السلف في النظرَ والاستدلال، وماذا بعد الحقّ إلا الضلال؟!
ومن الضوابطِ في هذه المسألة: أنّه لا يُكفَّر باللوازِم من الأقوال، ولا يُعتبَر بما تؤول إليه مِن أفعال، يقول الإمام الشاطبيّ -رحمه الله-: "مذهبُ المحقِّقين من أهلِ الأصول أنَّ الكفرَ بالمآل ليسَ بكفرٍ في الحال".
وقال الحافظ ابن حجر: "إنَّ الذي يُحكَم عليه بالكفر مَن كان الكفرُ صريحَ قوله، وكذا من كان لازمَ قوله وعُرِضَ عليه فالتزمَه، أمّا من لم يلتزمه وناضَل عنه فإنّه لا يكون كافرًا ولو كان اللازم كفرًا".
وأخيرًا -يا رعاكم الله- فإنّه لا يكفَّر إلاّ من أجمع أهل الإسلام على تكفيره أو قام على تكفيرِه دليلٌ لا معارِضَ له، حكاه ابن عبد البرّ وابن بطّال وشيخ الإسلام ابن تيمية والإمام المجدِّد محمد بن عبد الوهاب -رحمهم الله- إذ يقول: "ولا نكفِّر إلاّ ما أجمع عليه العلماء كلُّهم".
مع أنّ من مسلَّماتِ هذه القضيّة العلمَ بأنّ هذا العملَ كفرٌ، فالجاهلُ لا يكفَّر حتى تقومَ عليه الحجّة، يقول الإمام أحمد في الجهمية: "لو قلتُ قولَكم لكفرتُ، ولكنِّي لا أكفِّركم لأنّكم عندي جُهّال".
ويقول شيخ الإسلام: "وهذا المتأوِّل ينبغي إقامةُ الحجّة عليه أوّلاً وإظهارُ خطئه وإعلامُه بالحقِّ، كما ينبغي أن تُعلَمَ الموانِع المانعِةُ من التكفير، ومنها الجهلُ والخطأ والإكراه، قال تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ) [النحل: 106]، ومنها التأويل السائغ؛ ولهذا اتّفقَ الصحابة -رضي الله عنهم- على عدَم تكفير من استحلُّوا الخمرَ لوجود الشبهةِ لديهم، وهي تأويلُهم قولَ الله -عزّ وجلّ-: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا...) الآية [المائدة: 93]".
وبعدُ:
أيها المسلمون: فإنّ الغُيُر حينما يبيِّنون خطورةَ المجازفةِ في التكفير، ويذكرون شروطَ التكفير وضوابطَه، فإنهم يُعلِنون للعالَم بأسرِه أنّ الإسلام بريء من هذا المعتقَد الخاطئ، وأنّ ما جرى في بلادِنا المحروسَة ويجري في بعضِ بلاد المسلمين من سَفك الدماء المعصومة، وإزهاقِ الأنفس البريئة، وأعمال التفجير والتدمير والتخريب والإفساد والإرهاب، لهُو من الأعمال الإجراميّة المحرّمة، ولا يجوز أن يُحمَّل الإسلام وأهلُه المعتدلون جَريرةَ هذه الأحداث التي هي إفرازُ فِكرٍ تكفيريّ منحرف، ممّا تأباه الشريعة السّمحةُ والفِطر السليمة والعقول المستقيمة، والله المسؤول أن يصلحَ حالَ الأمّة، ويكشفَ عنها كلَّ غمَّة، وأن يوفِّقَ الجميعَ لما يحبّه ويرضاه، ويهديَهم لما اختُلف فيه من الحقِّ بإذنه، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
نفعني الله وإيّاكم بآي الكتاب، وبسنّة النبيّ الأواب، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه كان للأوّابين غفورًا.
الحمدُ لله، يقول الحقَّ وهو يهدي السبيل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، هو حسبُنا ونعم الوكيل، وأشهد أنّ نبينا محمّدًا عبد الله ورسوله، المبعوث بكلّ خلُق جميل وفعلٍ نبيل، صلّى الله عليه وعلى آله المثنَى عليهم بمحكَم التنزيل، وصحبِه ذوي المكانةِ والتفضيل، وسلِّم -يا ربِّ- تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد:
فاتقوا الله عباد الله: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281]، وعليكم بالجماعة؛ فإنّ يدَ الله مع الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
أيّها الإخوةُ في الله: حينما يهيجُ الهوَى في النفوس، وتُعرِض عن نورِ الوحي والنصوصِ، تُصاب بسُكرٍ أشدَّ من سُكر الكؤوس، وإنّ ظاهرةَ الغلوّ في التكفير والاعتساف، لهي من أخطرِ ما بُليت به الأمّة، فحوّلها إلى إسرافٍ في أطراف.
لقد بدأت هذه الفتنةُ بحَرب كلام، وانتهت إلى استحلال الدم الحرام، وزاد شططُها حينما حُمِل السلاحُ في وجه الأمّة، وأذكِي أُوارُها حينما برزت في صورةِ فتاوًى تكفيريّة تحريضيّة، تلقّفها حُدثاء الأسنان سفهاء الأحلام، فسلكوا مسالكَ أهل البغيِ والإجرام، فهل بعدَ هذا يسَعُ السكوتُ من أهل الإسلام؟!
لقد كان الغيورُ على أبناءِ أمّته يرى خلَل الرمادِ وميضَ نارٍ، وأنَّ الحربَ أوّل ما تكون فتيّةً، واليومَ نرى الأمرَ أمرًا منكرًا، فما زال الفِكر التكفيريّ يسري بقوّةٍ في صفوف شبابِ الأمة الذين نظر بعضُهم إلى المجتمعات نظرةً سوداويّة قاتمة، وأنّه لا مَخرجَ من المِحَن والبلايا التي رُزئت بها الأمّة إلا بالتكفير ثم التفجير والتدمير.
ومما يزيد في الأسَى ما يُرى من تسرُّب هذه اللوثةِ الخطيرة إلى بعضِ شباب الأمّة، ويعظُم الأمرُ حينما يكون الحكم بالتكفيرِ جزافًا على وُلاةِ أمر المسلمين، ومَن بايعهم على الكتابِ والسنة من العلماء الربانيّين، فرُموا بالعَمالة والمداهَنة، بل لقد سَرى الخطَر إلى عوامّ المسلمين وناشئتهم.
وممّا مدّ في أجل هذا الفكرِ المتهافِت وبسَط رواجَه هو التقصيرُ في التصدّي له وذكرِ أسبابه، والتي من أهمِّها ضحالةُ العِلم، وقلّةُ الفهم، والخطأ في منهجيّة الطلَب والتحصيل، فلم يُؤخَذ العلم من أهلِه المعروفين، بل زُهِّد فيهم، وأُفقِدتِ الثقةُ بهم، مع عدَم الدراية بمقاصِد الشريعة وقواعدِ الفقه ورعاية المصالح العليا في الأمّة والتعلُّق بشُبَه ومتشابهات، مع تركٍ للنصوصِ المحكمات الواضحات، إضافةً إلى ما يعُجُّ به واقِع الأمّة من صُورٍ من الظلم والاضطهاد، غيرَ أنَّ ذلك ليس بمبرِّر ولا مُسوِّغ للخَطأ، فالعُنف لا يعالجُ بالعُنف، وإذا كان المصلِحون يرَونَ الأمّة ممزّقةً، والممتلكات مغتصَبة، والمقدَّسات مستَلبَة، فهل المخرَجُ من هذه الرزايا بتكفير الوُلاة والخروجِ على الجماعة وحمل السلاح في وجه الأمة؟! ألا يفيق هؤلاء؟! ألا يعتبِرون بمن حَولهم؟! ألم يقرؤوا التاريخَ ليدركوا كم أضرَّ هذا الفكرُ بالأمّة وصدّها عن دينها وخوّف شبابها من التمسُّك بالسنة والتزام الشريعة؟! ماذا قدّم هذا الفكر الأحاديّ للأمّة؟! وماذا أثمرَ في مسيرةِ الدعوةِ والعملِ الخيريّ والإصلاحيّ؟! فاللهمَّ غُفرًا غُفرًا، أفلا يَسَع هؤلاءِ ما وسِع أنبياءَ الله ورسلَه وصحابةَ رسول الله والسلفَ الصالح ومن تبعهم بإحسان، فشغلوا أنفسهم تعلُّمًا وتعليمًا ودعوةً وإصلاحًا؟!
أيّها الإخوةُ في الله: أمّا العلاجُ فبالعِلم العِلم، وبالفهم الفهم، وبالحِوار الحوار، حتى لا تخربَ الديار، ويحلّ الدّمار، ويلحَق بالأمّة العارُ والشَّنار، وما أشبهَ الليلةَ بالبارحة، فلقد كفَّر أسلافُ هؤلاء خيارَ هذه الأمة من صحابة رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، ورضي الله عنهم وأرضاهم، وجازى من كفّرهم وعاداهم بما يستحقّ دنيا وأخرى.
وهنا لا بدّ من التأكيد على أنّ الناس في هذه القضيّة طرفان ووسَط، فأهلُ السنّة والجماعة وسطٌ بين الخوارج والمرجِئة، وكما عانتِ الأمّةُ من فِكر التكفير عانت من الإرجاء والتأخير، ولهذا وضَع أهلُ العلم بابَ الردّة ونواقض الإسلام، غيرَ أنّه لا بدّ أن يتصدَّى لذلك ذوو العِلم والبصيرة.
وطالَب بعضُ المنهزمين فكريًّا بتمييع الدين وذوَبان الشريعة بدعاوى فجَّة، ونسبوا إلى مناهج التعليم الشرعيّة النقصَ والثَّلب، لا بلَّغهم الله ما يرومون.
والدعوةُ موجَّهةٌ بحرارةٍ إلى شباب الأمّة باليقظَة والانتباه، وأخذِ الحذر من كلِّ انحرافٍ فكريّ يجانب منهجَ الوسطية والاعتدال.
والنداءُ موجّهٌ إلى شبابِ بلاد الحرمين الذين نشؤوا على صحّةِ المعتقد والسنّة، ومنهج أئمة الدعوة الإصلاحيّة المباركة، أن يحذَروا اللوثاتِ الفكريّة المنحرِفة، فما الذي غيَّرَهم؟! وأن يثبُتوا على منهجهم الصحيح رغم التحديات والمتغيِّرات، وأن يلتحِموا بولاتهم وعلمائهم، وأن يحذَروا من أن يُستغَلّوا أو يستهدَفوا ويستفزُّوا، في أفكارٍ دخيلةٍ أو مناهجَ هزيلة.
وإلى المصطادين بالماء العَكِر، المستغليِّن كلَّ هفوةٍ من بعض الأخيار والصالحين، أن كُفُّوا عن تعميم الأحكام، وعلى رسلِكم عن الوقيعة في شبابِ الإسلام، فوالله لن تصلُحَ حالُ الأمّة إلا بالقيام بأمرِ الدين ونُصرة حَملتِه والذبِّ عن أعراض الصالحين المصلحين والدعاة الصادقين، وإعلاءِ رايةِ الحسِبة والدعوة إلى الله -عز وجل- بالحكمة والموعظة الحسنة.
ويعلم الله الذي لا إلهَ غيرُه أنّ ذلك عينُ النُّصح للأمّة، والسعي في براءةِ الذمّة، وإن شرِق بذلك أناسٌ وطار فرحًا آخرون، فليس يخلُو المرء من قدحٍ ومَدح وإن كان أقومَ من قِدح، لكن العزاء الانتصارُ للحقّ بدليله وإن سخِط الناسُ كلُّ الناس، وحسبُنا أنه محضُ النصيحةِ الموافِقة للنصوص الصحيحة والنقولِ الصريحة: (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود:88].
ألا وصلّوا وسلِّموا -رحمكم الله- على الرحمةِ المهداة والنعمة المسداة، كما أمركم بذلك ربكم في علاه، فقال تعالى قولاً كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على سيّد الأولين والآخرين نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأزواجه أمّهات المؤمنين، وصحابته الغرّ الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي