خطبة واعظة

صالح بن فوزان الفوزان
عناصر الخطبة
  1. الندم عند الموت .
  2. الجنة والنار .
  3. من آثار الجنة والنار في الدنيا .
  4. الاستعانة بالدنيا على الوصول للآخرة. .
اهداف الخطبة
  1. موعظة الناس عن الموت والجنة والنار.

اقتباس

لا تضيعوا دنياكم باللهو والغفلة والإعراض عن طاعة الله، فتخسروا آخرتكم. فإن الدنيا مزرعة الآخرة. من زرعها بالطاعة حصد الكرامة يوم القيامة، ومن زرعها بالمعاصي حصد الخسارة والندامة.

  

 

 

الحمد لله رب العالمين خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير، والسراج المنير صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً إلى يوم البعث والنشور...

أما بعد:

أيها الناس: اتقوا الله، وتفكروا في دنياكم وآخرتكم، واعلموا أنكم لم تخلقوا عبثاً ولم تتركوا سدى، وأن لكم دارين، داراً تمرون بها للتزود ثم تتنقلون منها وهي الدنيا، وداراً تستقرون فيها للجزاء وهي الآخرة، فتزودوا من دنياكم لآخرتكم فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل، وسيندم عبد واجه الحساب بلا عمل صالح

(يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) ، وسيطلب الرجوع إلى الدنيا ليستدرك ما فاته فلا يمكن: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا)، أي أنه قائل: (رَبِّ ارْجِعُونِ) لا محالة وليس الأمر على ما يظنه من أنه يجاب إلى الرجوع إلى الدنيا. فتصوروا يا عباد الله هذا الموقف الحرج واستعدوا له قبل أن تواجهوه واستغلوا حياتكم الدنيا فيما خلقت له، ولا تضيعوها بالغفلات والتفريط بالطاعات، واتباع الشهوات فإن الممات قريب، والحساب شديد، والجزاء واقع لا محالة (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ).

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: والله سبحانه مع كونه خالق كل شيء فهو موصوف بالرضا والغضب، والعطاء والمنع، والخفض والرفع، والرحمة والانتقام.

فاقتضت حكمته سبحانه أن خلق دارا لطالبي رضاه العاملين بطاعته المؤثرين لأمره القائمين بمحابه وهي الجنة، وجعل فيها كل شيء مرضي، وملأها من كل محبوب ومرغوب ومشتهىً لذيذ، وجعل الخير بحذافيره فيها، وجعلها محل كل طيب من الذوات والصفات والأقوال، وخلق داراً أخرى لطالبي أسباب غضبه وسخطه المؤثرين لأغراضهم وحظوظهم على مرضاته العاملين بأنواع مخالفته القائمين بما يكره من الأعمال والأقوال، الواصفين له بما لا يليق به، الجاحدين لما أخبرت به رسله من صفات كماله ونعوت جلاله، وهي جهنم وأودعها كل شيء مكروه وسجنها مليء من كل شيء مؤذ ومؤلم، وجعل الشرك بحذافيره فيها، وجعلها محل كل خبيث من الذوات والصفات والأقوال والأعمال .

 

فهاتان الداران هما دار القرار، وخلق داراً ثالثة هي كالميناء لهاتين الدارين، ومنها يتزود المسافرون إليهما وهي دار الدنيا، ثم أخرج إليها من آثار الدارين بعض ما اقتضته أعمال أربابهما وما يستدل به عليهما حتى كأنهما رأي عين، ليصير الإيمان بالدارين وإن كان غيباً وجه شهادة تستأنس به النفوس وتستدل به، فأخرج سبحانه إلى هذه الدار من آثار رحمته من الثمار والفواكه والطيبات والملابس الفاخرة الصور الجميلة وسائر ملاذ النفوس ومشتهاها ما هو نفحة من نفحات الدار التي جعل ذلك كله فيها على وجه الكمال، فإذا رآه المؤمنون ذكرهم بما هناك من الخير والسرور والعيش الرخي، فشمروا إليه وقالوا: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة وأحدثت لهم رؤيته عزمات وهمماً وجداً وتشميراً لأن النعيم يذكر بالنعيم، والشيء يذكر بجنسه، فإذا رأى أحدهم ما يعجبه ويروقه ولا سبيل له إليه قال: موعدك الجنة، وإنما هي عشية أو ضحاها.

 

فوجود تلك المشتبهات والملذوذات في هذه الدار رحمة من الله يسوق بها عباده المؤمنين إلى تلك الدار التي هي أكمل منها وزاد لهم من هذه الدار إليها، فهي زاد وعبر ودليل وأثر من آثار رحمته التي أودعها تلك الدار. فالمؤمن من يهتز برؤيتها إلى ما أمامه، ويثير ساكن عزماته إلى تلك، فنفسه ذواقه، إذا ذاقت شيئاً منها تاقت إلى ما هو أكمل منه حتى تتوق إلى النعيم المقيم في جوار الرب الكريم، وأخرج سبحانه إلى هذه الدار أيضاً من آثار غضبه ونقمته من العقوبات والآلام والمحن والمكروهات من الأعيان والصفات ما يستدل بجنسه على ما في دار الشقاء من ذلك.

مع أن ذلك من آثار النفسين الشتاء والصيف اللذين أذن الله سبحانه بحكمته لجهنم أن تنفس بهما فاقتضى ذاتك النفسان آثاراً ظهرت في هذه الدار كانت دليلاً وعبرة عليها، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى ونبه عليه بقوله في نار الدنيا: (نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ) تذكرة يذكر بها الآخرة، ومنفعة للنازلين بالقوى، وهم المسافرون، يقال: أقوى الرجل إذا نزل بالقي، وهي الأرض الخالية وخص المقوين بالذكر، وإن كانت منفعتها عامة للمقيمين والمسافرين تنبيهاً لعباده، والله أعمل بمراده من كلامه، على أنهم كلهم مسافرون، وأنهم في هذه الدار على جناح سفر، ليسوا مقيمين ولا مستوطنين، إلى أن قال ابن القيم رحمه الله: "

ولما كانت هذه الدار ممزوجاً خيرها بشرها وأذاها براحتها ونعيمها بعذابها اقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن خلص خيرها من شرها وخصه بدار أخرى هي دار الخيرات المحضة، ودار الشرور المحضة. فكتب على هذه الدار حكم الامتزاج والاختلاط وأعقبه بالتمييز والتخليص، فميز بينهما بدارين ومحلين وجعل لكل دار ما يناسبها وأسكن فيها من يناسبها، وخلق المؤمنين المخلصين لرحمته وأعداءه الكافرين لنقمته. إنتهى...

فاتقوا الله عباد الله ولا تضيعوا دنياكم باللهو والغفلة والإعراض عن طاعة الله، فتخسروا آخرتكم. فإن الدنيا مزرعة الآخرة. من زرعها بالطاعة حصد الكرامة يوم القيامة، ومن زرعها بالمعاصي حصد الخسارة والندامة، السفهاء من الناس، جعلوا الدنيا أكبر همهم ومبلغ علمهم فانشغلوا بها عن الآخرة، فخسروا الدنيا والآخرة، والعقلاء من الناس جعلوا الدنيا مطية للآخرة وتزودوا منها بالأعمال الصالحة، فربحوا دنياهم وآخرتهم.

أيها المسلمون: إن الدنيا لا تذم ولا تمدح لذاتها فإنها وقت ثمين ومنافع وإمكانيات مفيدة، وإنما الذي يذم أو يمدح هو تصرف ابن آدم فيها، فمن قصر همه عليها أو تمتع بها فيما حرم الله وضيع أوقاتها فذلك هو المذموم، ومن أراد الآخرة واستعان بالدنيا على الوصول إليها واشتغل في التزود النافع فذلكم الممدوح.

قال الله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً)، إنكم تسمعون قصص من قبلكم من الأمم والأفراد الذين اشتغلوا بالدنيا ونسوا الآخرة كعاد وثمود وفرعون وهامان وأبي جهل وأبي لهب ماذا كانت عقوبتهم في الدنيا وماذا تكون عاقبتهم في الآخرة، وتشاهدون من معاصريكم ممن تشبهوا بهؤلاء فلقوا نفس المصير

قال الله تعالى:(كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: في معنى هاتين الآيتين: فإنه سبحانه قال: (كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً)، فتلك القوة التي كانت فيهم كانوا يستطيعون أن يعملوا بها للدنيا والآخرة، وكذلك أموالهم، وتلك القوة والأموال والأولاد هو الخَلَاق، والخَلَاق هو النصيب والحظ وما خلق للإنسان وقدر له فاستمتعوا بقوتهم وأموالهم وأولادهم في الدنيا ونفس الأعمال التي عملوها بهذه القوة لو أرادوا بها الله والدار الآخرة لكان لهم ثواب في الآخرة عليها، فتمتعهم بها أخذ حظوظهم العاجلة بها، فدخل، في هذا من لم يعمل إلا لدنياه، وقد توعد سبحانه هؤلاء المستمتعين الخائضين بقوله: (أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ).

حبوط الأعمال معناه فسادها وبطلانها، فانظروا كيف بطلت أعمالهم في الدنيا والآخرة فلم يبق لهم دنيا ولا دين وخسروا الدنيا والآخرة: (ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) فاتقوا الله عباد الله، ولا تضيعوا دينكم فتضيع دنياكم وآخرتكم. واسمعوا نداء ربكم حيث يقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...

 

 

 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي