هذه آية تحمل في طيَّاتها قانون النصر، وتحتوي على عناصرِ معادلة التمكين التي ذهب المسلمون يبحثون عنها في كل مكان، وهي في متناول أيديهم، وبين دفتي كتابهم المنزَّل منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام على قلب نبيهم محمد بن عبد الله –صلى الله عليه وسلم-، فالله سبحانه في هذه الآيات يعدُ الذين آمنوا وعملوا الصالحات، الذين حققوا الإيمان في قلوبهم ولم يتوقفوا عند ذلك ..
وبعد: يقول الله سبحانه في كتابه العزيز: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّـالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَـاسِقُونَ) [النور: 55].
هذه آية تحمل في طيَّاتها قانون النصر، وتحتوي على عناصرِ معادلة التمكين التي ذهب المسلمون يبحثون عنها في كل مكان، وهي في متناول أيديهم، وبين دفتي كتابهم المنزَّل منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام على قلب نبيهم محمد بن عبد الله –صلى الله عليه وسلم-، فالله سبحانه في هذه الآيات يعدُ الذين آمنوا وعملوا الصالحات، الذين حققوا الإيمان في قلوبهم ولم يتوقفوا عند ذلك، بل أتبعوا الإيمان بالعمل الصالح، يعدهم بوعود عظيمة ما كانت لتخطر عليهم، بل كانوا يقنعون بما هو أدنى منها بكثير، يعدهم سبحانه بأن يستخلفهم في الأرض وأن يمكّن لهم دينهم، وأن يؤمِّنهم بعد أن كانوا خائفين، وهذه المعادلة لا يتحقق جانب منها إذا لم يتحقق الجانب الآخر، فإذا أدى الناس ما عليهم جاءت النتيجة من الله الذي لا يخلف الميعاد.
ولقد تحقق هذا الأمر في عهد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وعهد خلفائه الراشدين؛ لأن الأمة كانت تسير على صراط الله سبحانه وتطلب مرضاته، وتحقق بعد ذلك في كل عصر كان فيه المسلمون محققين لتقوى الله في قلوبهم ساعين في عمل الخيرات، يقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: "هذا وعد من الله تعالى لرسوله -صلوات الله وسلامه عليه- بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض وأئمة الناس والولاة عليهم، بهم تصلح البلاد وتخضع لهم العباد، وليبدلنهم من بعد خوفهم من الناس أمنًا، وحكمًا فيهم، وقد فعله -تبارك وتعالى- وله الحمد والمنة، فإنه -صلى الله عليه وسلم- لم يمت حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكاملها، وأخذ الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم وصاحب مصر المقوقس وملوك عمان والنجاشي ملك الحبشة، ثم قام من بعده خليفته أبو بكر الصديق، فبعث جيوش الإسلام إلى بلاد فارس بقيادة خالد بن الوليد، ففتحوا طرفًا منها وجيشًا آخر بقيادة أبي عبيدة إلى الشام، وثالث بقيادة عمرو بن العاص إلى مصر، ثم آل الأمر بعده إلى عمر الفاروق –رضي الله عنه- الذي تم في أيامه فتح البلاد الشامية بكاملها ومصر إلى آخرها وأكثر إقليم فارس...". إلى آخر كلامه -رحمه الله-.
من هذا نعلم أن الله يُمكِّن لأوليائه إذا كانوا مؤمنين صالحين، ومن هذا نعلم أنه إذا مكَّن العبد لدين الله في قلبه وأصبح هذا الدين يتربع على عرش القلب وتأتمر الأعضاء بأمره، فإن الله يمكّن لهذا العبد في الأرض ويجعله غالبًا لا مغلوبًا، أما إذا طُرد الإسلام ومُكِّن للشيطان والشهوات في القلوب فإن الله سبحانه بعدله يكتب الذل والصغار على أصحاب هذه القلوب: (وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف:49].
وهذا ما كان من هدي رسولنا –صلى الله عليه وسلم- وسلفنا الصالح -رضوان الله عليهم-، فهم لم ينتصروا بالعدد وإن كان العدد عاملاً مساعدًا في النصر، بل كانوا في أكثر معاركهم وفتوحاتهم الإسلامية أقل بكثير من عدوهم، بدءًا من غزوة بدر الكبرى التي كان عدد المسلمين فيها ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً أمام ألف من المشركين إلى معركة القادسية التي نازل فيها سبعة آلاف من المسلمين بقيادة سعد بن أبي وقاص ستين ألفًا من الفرس بقيادة رستم وهزموهم بإذن الله، وإذا أجرينا عملية نسبة وتناسب، لوجدنا أن كل جندي مسلم في معركة القادسية يقابل أكثر من ثمانية من جند العدو.
كما أن المسلمين لم ينتصروا بقوة وتقدم عدتهم رغم أنها عامل مساعد أيضًا في النصر؛ لأنهم لم يكونوا متقدمين تقنيًا، بل كانوا يقاتلون بأدوات تقليدية كالسيف والرمح، بينما أعداؤهم يستعملون أدوات أقوى وأنجع، بل وصلوا إلى استعمال الحيوانات الضخمة التي كانت مخيفة للناس وللخيل، فقد استعمل الفرس في معركة القادسية أكثر من ثلاثة وثلاثين فيلاً في القتال، ومع هذا لم يتراجع المسلمون ولم ينهزموا، لم ينهزموا رغم أنهم الأقل عددًا والأقل عدة؛ لأنهم تسلحوا بالإيمان.
إن العقيدة في قلوب رجالها *** من مدفع أقوى وألف مهند
والعجيب -عباد الله- أن المسلمين ضيعوا حبل الله المتمثل في الإيمان به حق الإيمان والعمل في مرضاته، ففقدوا تأييده ونصره، وضيعوا حبل الأخذ بالأسباب الدنيوية والتقدم العلمي الذي قد يقربهم إن لم يساويهم بمستوى عدوهم، فأصبحوا الأضعف بين أمم الأرض وأصبحوا كالحمار القصير الذي يركبه الكبير والصغير، فالله المستعان، وهذا تذبذب كتذبذب المنافقين الذين ذمهم الله تعالى في كتابه؛ لأنهم لم يؤمنوا فيكونوا مع المؤمنين، ولم يُظهروا كفرهم فيكونوا مع الكافرين، بل ظلوا يتأرجحون بين ذلك؛ لهذا فهم في الدرك الأسفل من النار، يقول الله سبحانه عنهم: (مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لاَ إِلَى هَـؤُلاء وَلاَ إِلَى هَـؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) [النساء:143]؛ كل هذا لأن المسلمين ضيعوا أسباب النصر والتمكين ولم يعملوا بها.
إن من أهم أسباب النصر طاعة الله سبحانه وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فأين نحن من هذين الأمرين العظيمين؟! أين نحن من طاعة الله سبحانه التي هي خير عدة وخير عتاد، بل هي العتاد والعدة؛ يقول سبحانه: (كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَللَّهُ مَعَ الصَّـابِرِينَ) [البقرة:249].
ليس المقياس مقياس عدة وعدد، إنما المقياس مقياس قرب من الله وبعد عنه، لهذا لما طارد فرعون بجنوده وملئه موسى -عليه السلام- وقومه، وقال قوم موسى في خوف ووجل: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) [الشعراء:61]، قال موسى العبد الواثق بربه: (قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ) [الشعراء:62]، إذًا فطاعة الله حصن عظيم يلجأ إليه الصالحون في الشدائد فينصرهم الله وينجيهم من كل كيد.
وهذا ما فهمه المسلمون الأوائل -رضوان الله عليهم-، فقد كثر وتتابع وصية الأمراء والخلفاء إلى قوادهم في المعارك طاعة الله لأنها سبيل النصر، أورد أبو نعيم في حلية الأولياء رسالة من عمر بن عبد العزيز إلى أحد عماله أو قواده يقول فيها: "عليك بتقوى الله في كل حال ينزل بك؛ فإن تقوى الله أفضل العدة وأبلغ المكيدة وأقوى القوة، ولا تكن في شيء من عداوة عدوك أشد احتراسًا لنفسك ومن معك من معاصي الله، فإن الذنوب أخوف عندي على الناس من مكيدة عدوهم، وإنما نعادي عدونا ونستنصر عليهم بمعصيتهم، ولولا ذلك لم تكن لنا قوة بهم؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا قوتنا كقوتهم".
هذه هي وصية الصالحين لجندهم، فقبل الاستعداد بالسلاح يكون الاستعداد بالنفوس الطيبة والقلوب الصالحة.
هذا عن طاعة الله سبحانه، أما طاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- فهي أيضًا من أهم أسباب النصر والتمكين، ولقد عرف المسلمون هذا حق المعرفة في غزوة أحد حينما خالف الرماة أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فانقلب النصر إلى هزيمة، وتراجع المسلمون بعد أن كانوا متقدمين، وعاتبهم الله أشد العتاب على مخالفتهم هذه، وأبقى هذا العتاب قرآنًا يتلى على مرِّ الزمان ليعلم المسلمون ما معنى مخالفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أي أمر من الأمور، يقول سبحانه: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَـازَعْتُمْ فِى الاْمْرِ وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاْخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 152].
انظروا إلى هذا الدرس العظيم وهذه الكبوة التي جناها أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمخالفة واحدة، رغم أنهم متبعون لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كل الأمور، فكيف نرجو النصر والتمكين ونحن نخالفه -صلى الله عليه وسلم- في عباداتنا وفي هدينا وفي أخلاقنا وفي معاملاتنا وداخل بيوتنا وخارجها، ثم إن الرماة في غزوة أحد خالفوا لأنهم ظنوا أن المعركة انتهت والأعداء اندحروا، فمخالفتهم غير متعمدة، مع هذا انظر ماذا جنت عليهم، فكيف حال من يخالف أبا القاسم متعمدًا، وأنى له النصر والتمكين!!
فاتقوا الله -أيها المسلمون-، وكونوا مع الله ليكون الله معكم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله الكريم المنان، المتفضل بالكرم والإحسان، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد المصطفى من ولد عدنان، وعلى آله وصحبه وذريته ومن تبعهم بإحسان.
إخوة الإيمان: لابد لنتشرف بالنصر والعز والتمكين من أن نهيئ أنفسنا وقلوبنا لكي ترقى إلى المستوى الذي يرضاه الله سبحانه، فالتمكين إنما يكون عندما يستكمل الإنسان لوازمه ومقتضياته، ويكون أهلاً لأن ينال هذا الشرف، ولا ينبغي لعبد يريد التمكين من الله أن يثق في حوله وقوته البشرية أو يثق في عدد أو عدة، بل يثق في الله وحده ويبتعد عن الإعجاب بنفسه.
ولقد علّم الله المسلمين درسًا عمليًا في غزوة حنين على أن العدد والعدة ليست كل شيء، وعلى أن الله قادر على أن يهزمهم إذا هم اعتمدوا على قوتهم واغتروا بها، فقد كان المسلمون يوم حنين معجبين بأنفسهم فقالوا: لن نغلب اليوم عن قلة، وكانوا يومئذ اثني عشر ألف رجل، ففاجأهم المشركون الذين كانوا يختبئون في جنبتي الوادي، فانهزم جيش المسلمين بالكامل، ولم يبق إلا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- على بغلته الشهباء وحوله عشرة من المسلمين منهم أبو بكر وعمر وعلي والعباس وأسامة بن زيد وغيرهم -رضي الله عنهم-، ثبت رسول الله في هذا الموقف الرهيب وهو يقول: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب". وثبت معه هؤلاء الرهط.
ثم عاد المسلمون وقاتلوا عدوهم وانتصروا عليه، وهذا درس من الله لعباده الصالحين أن لا يغتروا بقوتهم، وأن لا يعتمدوا ويثقوا إلا فيه؛ بقول سبحانه: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذلِكَ جَزَاء الْكَـافِرِينَ) [التوبة: 25، 26].
إنها سنة كونية إلهية لا تتغير ولا تتبدل، التمكين يحتاج إلى تمكين، والنصر يحتاج إلى نصر، كي يكون تمكين في الأرض لابد أن يتمكن الإيمان من القلب، ولكي يكون نصر على الأرض لابد أن ينتصر دين الله في القلب، والصالحون هم الأعلون، يقول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي أخرجه أحمد عن أُبي والذي يتكلم فيه عن الأمة إذا سارت على نهج الله: "بشر هذه الأمة بالسناء والدين والرفعة والنصر والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب"، ويقول سبحانه: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّـالِحُونَ) [الأنبياء: 105].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي