والسبب -أيها المسلمون- في أن الطاعات وقت غفلة الناس شاقة وشديدة على النفوس، هو أن النفوس تتأسى بما تشاهده من أحوال أبناء الجنس، فإذا كثرت يقظة الناس وطاعاتهم، كثر أهل الطاعة لكثرة المقتدين لهم، فسهلت الطاعات، وتأمل كيف أن كثيراً من الناس يشق عليهم الصيام في غير رمضان: فإذا جاء رمضان سهل عليهم الصيام ولم يجدوا مشقة في صيامه، وأما إذا كثرت الغفلات ..
عباد الله: في الأزمان والأوقات التي يغفل الناس فيها عن العبادة ويتناسون الطاعة، في مثل هذه الأزمان تزداد مكانة العبادة ويعلو شانها، ويتضاعف أجرها، وذلك لأن الطاعات وقت غفلة الناس تكون في سرٍ وخفاء، وإخفاء الطاعة وإسرارها من أعظم أسباب قبولها، حيث تكون خالصة لله تعالى، بعيدة عن السمعة والرياء، ولأن الطاعات كذلك وقت غفلة الناس عنها شاقة على النفوس، وأفضل الأعمال أشقها على النفوس ما دامت موافقة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، يقول عليه الصلاة والسلام: " أجرك على قدر نصبك ".
والسبب أيها المسلمون في أن الطاعات وقت غفلة الناس شاقة وشديدة على النفوس، هو أن النفوس تتأسى بما تشاهده من أحوال أبناء الجنس، فإذا كثرت يقظة الناس وطاعاتهم، كثر أهل الطاعة لكثرة المقتدين لهم، فسهلت الطاعات، وتأمل كيف أن كثيراً من الناس يشق عليهم الصيام في غير رمضان: فإذا جاء رمضان سهل عليهم الصيام ولم يجدوا مشقة في صيامه، وأما إذا كثرت الغفلات وأهلها تأسى بهم عموم الناس فيشق على نفوس المتيقظين والطالبين لمهر الجنة تشق عليهم طاعاتهم، لقلة من يقتدون بهم في هذه الأوقات المغفول عنها، ولهذا المعنى قال صلى الله عليه وسلم في حال الغرباء في آخر الزمان: " للعامل منهم أجر خمسين منكم -أي من الصحابة- إنكم تجدون على الخير أعوانا ولا يجدون " أخرجه الترمذي وغيره.
أيها المسلمون: شهركم هذا شهر شعبان من الأزمان التي يغفل الناس فيها عن العبادة والطاعة، وذلك لوقوعه بين شهرين عظيمين وهما شهر رجب الحرام وشهر رمضان شهر الصيام، فاشتغل الناس بهما، فصار مغفولاً عنه، جاء عند أحمد وغيره وصححه ابن خزيمة وحسنه الألباني عن أُسَامَة بْن زَيْدٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ! قَالَ: " ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ، بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ ".
ولنا عباد الله مع هذا الشهر وقفات ودروس نبين فيها بعض فضائله وأحكامه، وننظر فيها حال رسولنا صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا ) ﴿الأحزاب:21﴾.
عباد الله: لقد كان نبيكم صلى الله عليه وسلم يخص شهر شعبان بعبادة من أجل العبادات ألا وهي الصيام ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان وما رأيته في شهر أكثر صياماً منه في شعبان، وجاء عند مسلم رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم شعبان إلا قليلاً، ومن شدة محافظته صلى الله عليه وسلم على الصوم في شعبان أن أزواجه رضي الله عنهن كن يقلن إنه يصوم شعبان كله مع أنه صلى الله عليه وسلم ما استكمل صيام شهر قط غير رمضان.
ولصيامه عليه الصلاة والسلام في شعبان حكم ومعان جليلة لعل منها: ما ذكره بعض أهل العلم من أفضل التطوع بالصيام ما كان قريبا من صيام رمضان قبله أو بعده، لأنه يلتحق بصيام رمضان لقربه منه، فيكون لصيام رمضان بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها، فصوم شعبان كالقبلية لرمضان، وصيام الست من شوال كالبعدية لرمضان، فالسنن الرواتب أفضل من التطوع المطلق بالنسبة للصلاة، فكذلك يكون صيام ما قبل رمضان وما بعده أفضل من الصيام المطلق الذي لا يتصل به.
ومن المعاني أيضاً في صيام شهر شعبان: أن صيامه كالتمرين على صيام شهر رمضان، لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة، بل يكون قد تمرن على الصيام واعتاده ووجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذته، فيدخل في رمضان بقوة ونشاط.
أيها المسلمون: لما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه كما يقول ابن رجب رحمه الله ما يشرع في رمضان من الصيام والقيام وقراءة القرآن وسائر أنواع الإحسان، ليحصل التأهب لتلقي رمضان، وترتاض النفوس بذلك على طاعة الرحمن، ولقد كان السلف الصالح يجدون بالعبادة في شعبان، استعداداً لرمضان قال سلمة بن كهيل: كان يقال شهر شعبان شهر القراء، وكان عمر بن قيس إذا دخل شعبان أغلق حانوته وتفرغ لقراءة القرآن، وكان يقال أيضاً: شهر رجب شهر الزرع، وشهر شعبان سقي الزرع، وشهر رمضان حصاد الزرع.
عباد الله: إن مما يكثر الحديث والسؤال عنه في هذا الشهر خاصة مع الانفتاح الإعلامي والتطور التقني مسألة صيام يوم النصف من شعبان وقيام ليلته، وقد تعدد كلام العلماء وتنوع في هذه المسألة نظراً لتعدد النصوص واختلافهم فيها صحة وضعفاً، وإن مما تواتر أن القرآن الكريم لم يرد فيه أي ذكر لليلة النصف من شعبان، وإن كان عكرمة (من التابعين) يرى أنها الليلة التي قال الله فيها ( إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين ) [الدخان:3].
ولكنه قول مردود بنص القرآن إذ الليلة المقصودة بالآية هي ليلة القدر كما قال تعالى: ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) [القدر:1]، قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله " فمن زعم أن ليلة النصف من شعبان يقدر فيها ما يكون في العام، فقد خالف ما دل عليه القرآن ". أ .هـ رحمه الله.
أيها المسلمون: إن إفراد يوم النصف من شعبان بصيام من الأمور المحدثة التي لم تثبت عن الحبيب صلى الله عليه وسلم، قال العلامة ابن باز رحمه الله تعالى: " إن الاحتفال بليلة النصف من شعبان بالصلاة أو غيرها وتخصيص يومها بالصيام بدعة منكرة عند أكثر أهل العلم وليس له أصل في الشرع المطهر" ، لكن ينبه هنا على مسألة مهمة وهي أن من كانت عادته صيام الأيام البيض فتستحب في حقه على عادته، أما من لم يكن ذلك من عادته ثم صام يوم النصف من شعبان بخصوصه ولأجله فلا يقال: إنه صام الأيام البيض؛ لأنه لم يصمه إلا لاعتقاده فضل النصف من شعبان دون غيره.
عباد الله: إن أصح حديث ورد في فضل ليلة النصف من شعبان ما رواه ابن ماجه وابن أبي عاصم وابن حبان وصححه الإمام أحمد والأوزاعي وابن تيمية وابن رجب كما صححه الشيخ الألباني رحمة الله على الجميع، أن معاذ بن جبل قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يطلع الله تبارك وتعالى إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن "، قال ابن تيمية: " الذي عليه أكثر أهل العلم أو أكثرهم من أصحابنا وغيرهم على تفضيلها، لتعدد الأحاديث الواردة فيها،وقد روي بعض فضائلها في المسانيد والسنن، وإن كان قد وضع فيها أشياء آخر".
أيها المسلمون: لقد أجاز من صحح الحديث السابق أن يخص المسلم ليلة النصف من شعبان بقيام لأنها محل لنزول رحمة الله، على أن يكون ذلك في خاصة الرجل لا أن يجتمع الناس لها في المساجد، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " إذا صلى الإنسان ليلة النصف وحده أو في جماعة خاصة كما كان يفعل طائفة من السلف فهو أحسن، وأما الاجتماع في المساجد على صلاة مقدرة، فهذا بدعة لم يستحبها أحد من الأئمة ". وقال أيضاً: " فصلاة الرجل فيها وحده قد تقدمه فيه سلف، وله فيه حجة، فلا ينكر مثل هذا " [الفتاوى 23/132-133].
عباد الله: إن الاجتماع للصلاة في ليلة النصف من شعبان كهيئة الصلوات المفروضة من البدع المنكرة، وإحياء ليلة النصف من شعبان بالصلاة الألفية من المحدثات التي لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن السلف الصالح قال تقي الدين رحمه الله " فأما إنشاء صلاة بعدد مقدر وقراءة مقدرة في وقت معين تصلى جماعة راتبة كهذه الصلوات المسئول عنها (ومنها صلاة الألفية) فهذا غير مشروع باتفاق أئمة الإٍسلام كما نص على ذلك العلماء المعتبرون، ولا ينشئ مثل هذا إلا جاهل مبتدع ".
الخطبة الثانية
عباد الله: إن مما يشرع في شهر شعبان أن من عليه قضاء من رمضان لا يجوز له تأخيره حتى يدخل رمضان الذي يليه من غير عذر، فعن عَائِشَةَ رضي الله عنها تَقُولُ: كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلاَّ في شَعْبَانَ؛ وَذَلِكَ لِمَكَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم.
أيها المسلمون: أيام قليلة وينتصف شهر شعبان، والصيام بعد النصف من شعبان له أحوال:
- صائم يصوم قضاءً لما فاته، أو وفاءاً لنذر التزم به فهذا الصوم لا بأس به في حقه بل واجب.
- وصائم يصوم أياماً اعتاد على صيامها قبل شعبان كصيام الأيام البيض وصيام الاثنين والخميس فهذا جائز صومه.
- وصائم يتحرى بصيامه القرب من رمضان والاحتياط له، وخاصة يوم الشك فهذا الصوم محرم ومنهي عنه امتثالا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك .
عبد الله: إن أيام عمرنا تتصرم, وساعات حياتنا تنقضي .. فقدم لنفسك صالحاً قبل حلول ساعة الأجل, وهذا الغنيمة بين يديك, ولئن كان النهار طويلاً والحر شاقا ًفأنت ترجو الراحة الأبدية في جنات الخلود ..
مضى رجب وما أحسنت فيه *** وهذا شهر شعبان المبارك
فيا من ضيع الأوقات جهلاً *** بحرمتها أفق واحذر بوارك
فسوف تفارق اللذات قهراً *** ويخلي الموت كرها منك دارك
تدارك ما استطعت من الخطايا *** بتوبة مخلص واجعل مدارك
على طلب السلامة من جحيم *** فخير ذوي الجرائم من تدارك
ثم صلوا وسلموا رحمكم الله ..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي