إنَّ الأمة في الأزمنة المتأخِّرة تعرَّضَتْ لعقوبات ربانية -وهي في ازدياد-، نحن نعيش مرحلة صعبة، ومن تَدَبَّرَ حال الأمة وحالها مع هذه الأزمات يأخذه الخوف والعجب من صنعها ومواقفها، وإن المخرج من هذه الفتن بسلام وأمان لن يكون إلا بالعمل بكتاب الله وسنة رسول الكريم صلى الله عليه وسلم؛ ففيهما النور والهدى، ومن خلال تدبر كتاب الله في معرفة الأسباب والعوامل لدفع العقوبات عن الأمم نخلص إلى أهمها ..
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين؛ الحمد لله ولي الصالحين، وقاصم الجبابرة والظالمين، وناصر المؤمنين والمستضعفين؛ الحمد لله حمداً يليق بجلاله ذو القوة المتين.
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وإمام العلماء وقدوة الدعاة والمجاهدين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الأطهار الأبرار حماة الدين، وحمَلة رسالة رب العالمين إلى الناس أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: إن من جوانب تدبر القرآن الكريم تَتَبُّعَ السّنن على الأمم التي وقعت في القديم، والتي حلت عليها بسبب انحرافها عن الصراط المستقيم، والمنهج القويم، وتكمن الفائدة وتحصل العبرة والعظة في البحث والتدبر والتفكر في أسباب هذه العقوبات، والتفكر فيما ذكره الله في كتابه من أسباب دفع هذه العقوبات، وعوامل النجاة من غضب رب الأرض والسماوات.
أيها المؤمنون: إن هذه العقوبات كثيرة متنوعة، قصَّ الله بعضها في كتابه مجملة ومفصلة، وأمرنا بتدبرها وأخذ العبرة والعظة؛ حتى لا نقع فيما وقعوا فيه فيحل علينا ما حل بهم. وذكر سبحانه رحمة بنا وفضلاً منه على عباده بعض العوامل التي إذا أخذ بها الأفراد والمجتمعات والأمم رُفِعت عنهم العقوبات ودفعت. قال سبحانه: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [آل عمران:137].
وقال سبحانه: (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) [يونس:39].
والله سبحانه لما قص لنا حال الأمم الماضية أمرنا بأخذ العبرة والعظة، وعدم السير على طريقهم ومنهجهم، فقال سبحانه: (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [التوبة:69-70].
أيها المؤمنون: إنَّ الأمة في الأزمنة المتأخِّرة تعرَّضَتْ لعقوبات ربانية -وهي في ازدياد-، نحن نعيش مرحلة صعبة، ومن تَدَبَّرَ حال الأمة وحالها مع هذه الأزمات يأخذه الخوف والعجب من صنعها ومواقفها، وإن المخرج من هذه الفتن بسلام وأمان لن يكون إلا بالعمل بكتاب الله وسنة رسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- ففيهما النور والهدى، ومن خلال تدبر كتاب الله في معرفة الأسباب والعوامل لدفع العقوبات عن الأمم نخلص إلى أهمها، وهي كالتالي:
العامل الأول: الإيمان بالله، وبوعد الله؛ الله -عز وجل- وعد، ومن أصدق من الله قيلاً أن أي أمة آمنت بالله حق الإيمان ولم تفرط بهذا الإيمان الذي هو سر قوتها ونصْرِها على أعدائها، وَعَدَها بالنجاة وقت الأزمات، فقال سبحانه: (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) [يونس:103]، ويقول سبحانه: (وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [فصلت:18].
العامل الثاني: الإصلاح، والدعوة إلى الله، ومحاربة الفساد؛ قال سبحانه: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود:116-117]، وتدبر هذا السبب العجيب للنجاة: النهي عن الفساد، والإصلاح. ولا يمكن إصلاح من غير نهي عن الفساد، وهذا بنص القرآن.
والإصلاح يبدأ من أنفسنا، فإذا صلحت استطعنا إصلاح غيرنا، فاللهَ اللهَ بتقوى الله -عز وجل- فإنه لن يغير حالنا وينجينا إلا إذا بادرنا بإصلاح أنفسنا، قال سبحانه: ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) [الرعد:11].
والخطير في الأمر أن سبب هلاك الأمم السابقة أنها ردت ورفضت دعوة المصلحين ودعوة الناصحين، قال سبحانه: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) [البقرة:10]، وقال سبحانه: (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [طه:48]، فالعذاب على من أعرض ولم يستجب للناصحين؛ وقال سبحانه: (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ) [ص:14]، وقال سبحانه: (فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ) [الأعراف:64]، وقال سبحانه: (فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) [الأعراف:136]، وقال -جل وعلا-: (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً ? وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا) [الفرقان:37]، وقال سبحانه: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [آل عمران:11].
العامل الثالث: البعد عن الغفلة، والبعد عن اللهو والعبث، والاستمرار على الطاعة والذكر؛ قال سبحانه: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) [الأعراف:95-99]. ويقول سبحانه مبينا أن الغفلة والنسيان سبب من أسباب العقوبة: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) [الأنعام:44]. قال الحسن –رحمه الله -: مكر بالقوم ورب الكعبة أُعطوا حاجتهم ثم أُخذوا. ويقول قتادة –رحمه الله -: بغت القومَ أمرُ الله، وما أخذ الله قوماً قط إلا عند سكرتهم وغِرّتهم ونعمتهم، فلا تغتروا بالله، إنه لا يغتر إلا القوم الفاسقون.
وجاء في المسند، عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج. ثم تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) [الأنعام:44]، وهو حديث حسن.
العامل الرابع: التوبة، والاستغفار من الذنوب، والإقلاع عنها، فرادى وجماعات، وعدم المجاهرة والإعلان بما يغضب الله، فإن المعاصي نذير شؤم على الأمة كلها؛ يقول -جل وعلا-: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال:33]، قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: كان فيهم أمانان: النبي -صلى الله عليه وسلم-، والاستغفار؛ فذهب النبي -صلى الله عليه وسلم- وبقي الاستغفار. والرسول -صلى الله عليه وسلم- لما سألته زوجه -رضي الله عنها- فقالت: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم، إذا كثر الخبث"، والخبث هو كل ما يغضب الله من المعاصي والموبقات والجرائم التي يعلن بها ويُسَرّ، والله المستعان.
العامل الخامس: الدعاء، والتضرع، والاستغاثة بالله؛ فإن الله لا يرد من سأله: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) [النمل:62]، ويقول سبحانه: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر:60]، والله سبحانه قد بين أن سبب هلاك بعض الأمم أنها تركت التضرع واللجوء إلى إليه وقت الأزمات والحاجات، فقال سبحانه: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام:43]. ويقول سبحانه: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) [الأعراف:94]. يقول الحافظ ابن كثير: وتقدير الكلام أنه ابتلاهم بالشدة ليتضرعوا فما فعلوا شيئاً من الذي أراد الله منهم اهـ. وإن الدعاء من أعظم مظاهر عبودية المؤمن لربه، وفيها يظهر حاجته وفقره وعجزه وذلته بين يديه، كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعل عند نزول النوازل والحوادث، يهرع لدعاء ربه، والتضرع بين يديه.
العامل السادس: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ فإن الأمر بالمعروف من أعظم أسباب دفع العقوبات عن الأمة، كيف لا يكون كذلك وهو سبب رفعتها وخيريتها، فإذا ادلهمت الخطوب، وخيف من نزول العقوبات الربانية، فإن من أعظم أسباب رفع العقوبات، والنجاة وقتها هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول -جل وعلا-: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) [الأعراف:165]. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ". وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا! فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا" رواه البخاري.
أيها المسلمون: إذا أردنا النجاة والنصر والفوز لنحيي هذه الشعيرة في حياتنا حتى ننجو جميعا في بيوتنا وأعمالنا وأسواقنا، لنقف صفاً واحداً ضد من يريد خرق السفينة، لنقف مع الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، عَلَّ الله أن يرحمنا ويرفع عنا مقته وغضبه.
العامل السابع: رفع الظلم، ونشر العدل، وإعطاء الحقوق إلى أهلها، وعدم فرض الضرائب والمكوس؛ فإن هذا كله مؤذن بعقوبة عاجلة، قال سبحانه: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود:102]، وجاء في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري –رضي الله عنه – قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته. ثم قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود:102].
وإن من أعظم الظلم الشرك بالله -عز وجل-، وعبادة غيره، فالأمم الماضية كانت تمارس أنواعاً من الظلم أعظمها وأخطرها الشرك بالله -عز وجل-، فقال سبحانه: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) [يونس:13]، وقال سبحانه: (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ) [هود:67]، وقال سبحانه: (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ) [هود:94]، وقال سبحانه مبينا سبب هلاك القرى والديار: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا) [الكهف:59]. أقول ما تسمعون، واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه؛ والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين، وحجة الله على العالمين، محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه، ومن اتبعه من إخوانه.
ثم أما بعد: عباد الله: ومن عوامل دفع العقوبات: العامل الثامن: وحدة الصف والكلمة، وعدم التفرق والتشرذم؛ فإن الفرقة والتنازع هي عقوبة في ذاتها، كما قال سبحانه: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ)[الأنعام:65]، فاللهَ الله يا أمة الإسلام! أنْ ينقضَّ علينا عدونا ونصاب بالوهن والضعف بسبب انشغالنا بالطعن والتجريح في بعضنا شعوبا ودولاً، أفراداً ومجتمعات؛ أو فلنكن كالبنيان المرصوص، ولنعمل بوصية ربنا حيث قال: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران:103].
والله سبحانه قد نهانا عن التفرق والتشرذم فإنه سبب للضعف، وهو طريقة ومنهج الضالين من الأمم، فقال سبحانه: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال:46]، ونمتثل أمره سبحانه لما قال: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران:105].
العامل التاسع: عدم الغرور والعجب، والتفاخر، والتكبر، والتعالي على الخلق؛ فإن الله سبحانه أنزل عقوبة بأفضل الخلق بعد الأنبياء وهم صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم حنين، فقال -جل وعلا-: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) [التوبة:25].
واسمع لقول الله -جل وعلا-: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [يونس:24]، تدبَّر معي قوله: (وظن أهلها أنهم قادرون عليها). ما أجهلك أيها الإنسان! وما أظلمك! ويقول الله سبحانه عن سبب عقوبة أمة من الأمم وهم قوم عاد أنهم اغتروا وتكبروا بقوتهم، ونسوا أن الذي أعطاهم القوة هو القوي العزيز سبحانه، فقال -جل وعلا-: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) [فصلت:15].
وإننا -والله!- لما نسمع ما يتبجح به أعداء الله من اليهود والنصارى، ونرى غطرستهم وكبرهم وخيلاءهم نقول إنها والله البشارة بقرب زوال ملكهم ومجدهم؛ لأنها سنة لا تتبدل، وقد أهلك الله قريشاً لما خرجت كبراً وبطراً تريد حرب المؤمنين يوم بدر، فقال سبحانه: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [الأنفال:47].
وهذا قارون أهلكه الله وهو في أبهة مجده، وفي قمة غطرسته، فقال سبحانه: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ)، إلى أن قال سبحانه: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ) [القصص:76-81].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي