إن من العقوبات التي يسلطها الله على بعض خلقه ويرسلها عليهم: غلاءَ الأسعار وارتفاعَ قيم الأشياء وزيادتَها عن المعتاد، ولأجل ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو على المشركين بغلاء الأسعار وقحط الأمطار كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح البخاري رحمه الله أن من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت: "اللهم أنجِ المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مُضَر، اللهم سنين كسني يوسف"...
أيها الناس: إن من العقوبات التي يسلطها الله على بعض خلقه ويرسلها عليهم: غلاءَ الأسعار وارتفاعَ قيم الأشياء وزيادتَها عن المعتاد، ولأجل ذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو على المشركين بغلاء الأسعار وقحط الأمطار كما جاء في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- في صحيح البخاري -رحمه الله- أن من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- في القنوت: "اللهم أنجِ المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مُضَر، اللهم سنين كسني يوسف"، قال العلماء كما في عمدة القاري (14/204): "اشدد وطأتك عليهم بالهزيمة والزلزلة وغير ذلك من الشدائد، كالغلاء العظيم والموت الذريع ونحوهما، والمراد بالسنين جمعُ سنةٍ وهي الغلاء".
وإنه لا يخفى -يا عباد الله- ما يعاينه الناس في هذه الأيام من استعار الأسعار واشتعالها وغلاء الأثمان وارتفاعِها، حتى غدا بعض الفقراء والمعدمين لا يستطيعون الحصول على الأشياء الضرورية إلا بمشقة فادحة. فما أسبابُ ارتفاع الأسعار؟! وما الموقفُ الصحيحُ حيالَ ذلك؟!
إنه قد يكون وراء ذلك أسباب اقتصادية أو أسباب أخلاقية أو غيرُها من الأسباب، إلا أن السبب الأعظم الذي تنتج عنه الشدائد والمصائب -ومنها القحطُ والغلاء والفتنُ والبلاء- هو معصية الله -عز وجل- والبعد عن طاعته، كما قال الله -تبارك وتعالى-: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى: 30]، وقال سبحانه: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران: 165]، وقال -عز وجل-: (فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63].
وبعد أن عرفنا هذه النصوص الكريمة فكيف يستغرب الغلاء وأصناف الأطعمة تجمع في المناسبات فوق الحاجة ثم يكون مصيرها إلى النفايات والمزابل؟! أم كيف يستغرب الغلاء وقد كثر الربا والمعاملاتُ الماليةُ المحرمة؟! أم كيف يستغرب الغلاء وقد ضيعت الصلاة وتركت الزكاة وشربت الخمور وقطّعت الأرحام وكثر الزنا وانتشرت الموسيقى والمعازف وكثر الجهل وتُرك الأمرُ بالمعروفِ والنهي عن المنكر؟!
إنه ما نزل بلاء إلا بذنب، وإن لنا في سير الغابرين عبرةً وذكرى، فهؤلاء آل فرعون ابتلاهم الله بالسنين والمجاعات ونقصِ الثمرات لعلهم يذَّكَّرون، لكنهم عصوا واستمروا في طغيانهم يعمهون، فأرسل الله عليهم الطوفان الذي يغرق أشجارهم، والجراد الذي يأكل ثمارهم، والقمّل الذي يؤذيهم ويزعجهم، والضفادع التي تملأ أوعيتهم ويجدونها على فرشهم وملابِسهم، والدم فإذا أراد أحدهم أن يشرب ماءً انقلب دمًا، فلا يشربون إلا دمًا ولا يطبخون إلا في دم، ولم يزجرهم ذلك عن معصية الله، بل استكبروا في الأرض وكانوا قومًا مجرمين، فانتقم الله منهم وأغرقهم في اليم بأنهم كذبوا بآيات الله وكانوا عنها غافلين.
وهؤلاء قوم سبأ في اليمن أنعم الله عليهم بالأرزاق الكثيرة، وساق عليهم النعم الوفيرة، وجعل لهم جنتين عظيمتين يأكلون من ثمارهما المتنوعة من غير كدّ ولا تعب، يقول قتادة -رحمه الله-: "كانت المرأة تمشي تحت الأشجار وعلى رأسها زنبيل، فيتساقط الثمر في الزنبيل حتى يمتلئ من غير أن تحتاج إلى قطفه؛ وذلك لكثرته ونضجه واستوائه"، لكنهم أعرضوا وكفروا بأنعم الله، فانتقم الله منهم وأرسل عليهم سيلاً عَرِمًا شديدًا، فبدل الثمار النضيجة والمناظر الحسنة بشجرٍ كثير الشوك قليل الثمر، ومزقهم الله كل ممزق، وجعلهم أحاديث للناس: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) [لقمان: 31].
هذه سنة الله في الأمم السابقة، ليس بينه وبين أحدٍ من عباده نسب إلا بطاعته، فالكريم عنده من أطاعه واتقاه، والذليل من أعرض عنه وعصاه، فاتقوا الله -أيها المؤمنون-، وتوبوا إلى الله لعلكم تفلحون، واحذروا من أسباب سخطه وعقابه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
الحمد لله الذي قدّر فهدى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الخلق ثم يميتهم ويحييهم كما بدا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله دعا أمته إلى كل خير وحذرهم من أسباب الردى، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته ومن سار على منهجه واستن بسنته.
أما بعد:
فاتقوا الله -أيها الناس-، واستقيموا كما أمرتم.
واعلموا -رحمكم الله- أن أول ما يُدفع به الغلاء ويرفع به البلاء هو التوبة إلى الله -عز وجل-، فإنه ما رفع بلاء إلا بتوبة، وإن التوبة هي سبب نزول البركات كما أن المعاصي هي سبب القحط والغلاء، كما قال الله سبحانه: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف: 96]، فليراجع كل منا نفسهَ، وليحاسبها على تقصيرها، ولينزع عما هو فيه من الغفلة، وليعلم أنه مقبل على رب كريم ودودٍ رحيم، وسعت رحمته كل شيء، وعمّت كل حي، يقول لعباده متحببًا إليهم: (قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر: 53].
ثم إنه -يا عباد الله- يجب التعاون والتكافل في ظلّ غلاء الأسعار، ورحمةُ اليتامى والأراملِ والفقراءِ والضعفاء، فالغني في دين الإسلام يحمل الفقير، والقوي يحمل الضعيف، ويخفف معاناتَه وآلامَه، والصدقةُ يعظم ثوابها في أوقات الحاجات، كما يعظم ثوابها في الأزمنة الفاضلة والأمكنة الفاضلة.
كما أنه يجب الاقتصادُ في النفقة، وعدمُ الإسرافِ والتبذير، وعدمُ البخل والتقصير، كما قال الله -عز وجل-: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان: 67]، وكان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى".
وليحذر التجار من الجشع والطمع والأنانية، وليرحموا الفقراء والمعوزين، وليجعلوا غلاء الأسعار فرصةً للإحسان إلى الناس، وسيجدون بركةَ ذلك -إن شاء الله- في أموالهم وأحوالهم، وقد جاء في مسند الإمام أحمد عن معقل بن يسار -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقًا على الله أن يُقعده بعَظمٍ من النار يوم القيامة". يعني: يقعده في مكان عظيمٍ منها، وهذا وعيد شديد وزجر أكيد عن إغلاء الأسعار ورفِعها؛ لأن من مقاصد الشريعة المطهرة في البيع والشراء أن تسير الأسعار في طريق تحصل به مصلحةُ التجار ومصلحةُ بقية الناس، من غير إضْرارٍ بأحدٍ على حساب الآخر، وهذا من عدل الشريعة ومراعاتها لجلب المصالح ودرء المفاسد.
كما أنه ينبغي مخاطبة المسؤولين في هذه البلاد وتذكيرُهم بحقوق الرعية ومناصحتُهم، كما قال -صلى الله عليه وسلم- في حديث تميم الداري -رضي الله عنه-: "الدين النصيحة"، قلنا: لمن؟! قال: "لله، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم"، وولاة الأمر في هذه البلاد -بحمد لله- حريصون على تحقيق مصالح الناس ورفع الضراء عنهم، نسأل الله أن يعليَ كلمته، ويعزَّ دينه وأولياءَه، إنه سميع مجيب.
ألا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي