لهيب الأسعار

أحمد حسين الفقيهي
عناصر الخطبة
  1. مصيبة ارتفاع الأسعار .
  2. آثار الذنوب والمعاصي .
  3. تفشي الإسراف في المجتمع .
  4. فضل القناعة .
  5. كلمة للتجار .
  6. واجب ولاة الأمر .
  7. مفاسد المغالاة في الأسعار .
  8. المخرج من هذه المصيبة .

اقتباس

ارتفعت أسعار المواد الغذائية وغير الغذائية، ووصل جنون الأسعار إلى حليب الأطفال وأدوية المرضى، أما أسعار المساكن التي يأوي إليها الناس فقد وصلت إلى أرقام فلكية يصعب تصديقها ويعجز القادر عن مجاراتها، بل الجمعيات الخيرية التي تساعد الفقراء والمحتاجين تضررت من ظاهرة الغلاء المبالغ فيها، حيث أثّر ارتفاع أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية في ميزانيتها المتواضعة التي كانت مهددة بعجزها ..

عباد الله: تتعدد المصائب وتتنوع البلايا مع تعاقب الأيام والليالي، ولكن تبقى مصيبة النفس والمال والعرض من أكبر المصائب التي يقف معها الحليم حيران.

أيها المسلمون: منذ أيام بل منذ أشهر ليست بالبعيدة اجتاح العالم الإسلامي -وليس بلادنا فقط- وحش جديد كشر عن أنيابه لافتراس الفقراء وألحق بهم الطبقة الوسطى من المجتمع، تلكم المصيبة -عباد الله- هي غلاء الأسعار.

ارتفعت أسعار المواد الغذائية وغير الغذائية، ووصل جنون الأسعار إلى حليب الأطفال وأدوية المرضى، أما أسعار المساكن التي يأوي إليها الناس فقد وصلت إلى أرقام فلكية يصعب تصديقها ويعجز القادر عن مجاراتها، بل الجمعيات الخيرية التي تساعد الفقراء والمحتاجين تضررت من ظاهرة الغلاء المبالغ فيها، حيث أثّر ارتفاع أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية في ميزانيتها المتواضعة التي كانت مهددة بعجزها أمام تغطية تكاليف معيشة الفقراء والمحتاجين الذين تكلفهم وترعاهم.

لقد كان الفقراء في الماضي هم الطبقة الأكثر تذمرًا وتمردًا من غلاء الأسعار لأنهم لم يمتلكوا ما يمكن من خلاله مسايرة تعقيدات وصعوبات الحياة، أما اليوم وفي ظل هذا الغلاء الفاحش والارتفاع اليومي للأسعار وتحول جميع السلع بما فيها السلع الترفيهية لسلع مدفوعة الثمن وخصخصة كافة الخدمات والتنافس بين الشركات العملاقة لاحتكار السلع بكافة أنواعها، وتحولها لصراع اجتماعي اقتصادي ضحيتها المواطن العادي، فإننا -عباد الله- بحاجة إلى بعض الوقفات نلقي من خلالها الضوء على هذه المصيبة التي نسأل الله سبحانه أن يكشفها عن أمة محمد عاجلاً غير آجل:

الوقفة الأولى: أن نعلم -عباد الله- أن ما أصابنا إنما هو بسبب ذنوبنا، وإلا فالرحمن -جل جلاله- أرحم بعباده من الوالدة بولدها: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41].

إنها سنة الله تعالى الماضية في الأمم الغافلة المعرضة عن الله سبحانه المقصية لشرعه المنتهكة لحدوده: (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) [فاطر: 43]. قال بعض السلف: "جزاء المعصية الوهن في العبادة والضيق في المعيشة والتعسر في اللذة، قيل: وما التعسر في اللذة؟! قال: لا يصادف لذة حلالاً إلا جاءه من ينغصها عليه".

إذا كنت فِي نعمة فارعها *** فإن المعاصي تزيل النعم
وحطها بطاعة رب العباد *** فرب العباد سريع النقم

الوقفة الثانية: عباد الله: إن مما يعاب علينا في ظل تقلّبات أحوالنا الاقتصادية تفشّي الإسراف في حياتنا على كافة المستويات؛ حيث تحول الإسراف من سلوك فرديّ لدى بعض التجار والواجدين إلى ظاهرة عامة تجتاح الأمة كلّها، فالواجد يسرف، والذي لا يجد يقترض من أجل أن يسرف ويلبي متطلبات أسرته من الكماليات وما لا يحتاجون إليه، وهذا كلّه من إفرازات العولمة التي أقنَعت الناس بذلك عبر الدعاية والإعلان في وسائل الإعلام المختلفة.

أيها المسلمون: إن الناس -إلا من رحم الله وقليل ما هم- اعتادوا على مستوى من العيش فيه من السرف ما فيه؛ في مآكلهم ومشاربهم وملابسهم ومراكبهم، وكثير من متطلباتهم لا تصل إلى مستوى الحاجات فضلاً عن الضرورات، وأكثرها من التحسينات والكماليات وما هو دونها مما يصل إلى حدّ الإسراف المذموم، وأضحى الواحد منهم يشكو من قلّة دخله ولو كان كثيرًا، ومن كثرة مصروفاته ولو كان أكثرها ليس محتاجًا إليه.

كم حدَّث التاريخ -عباد الله- عن بيوت عامرة أسّسها آباء مقتدرون صارت إلى أبناء غلب عليهم الإسراف، فأفسدوا وأتلفوا ما ورث آباؤهم، ثم التحق أولئك بطبقات المعدمين الذين لا يجدون ما ينفقون، كم خربت -أيها المسلمون- بسبب الإسراف بيوت تحكمت فيها نساء وأشباه نساء في حليّ وحلل، يتكلّفون ما لا يطيقون، وينافسون على ما لا يقدرون، وتناسى أولئك أن المبذرين كانوا إخوان الشياطين، وكان الشيطان لربه كفورًا.

عباد الله: إن الإسراف منهيّ عنه ومَعيب في كلّ شيء كما يقول عطاء بن أبي رباح -رحمه الله تعالى-، وشاهد ذلك عموم قوله سبحانه: (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأنعام: 141]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة". رواه النسائي وابن ماجه.

إن هذا التشديد في النهي عن السّرف ما كان إلا لأجل الحفاظ على الأموال والموارد التي يسأل عنها العبد يوم القيامة، فهو يسأل عن ماله: من أين اكتسبه؟! وفيم أنفقه؟!

أيها المسلمون: إن مما يوصى به في ظل تفشّي غلاء الأسعار أن يلزم المرء القناعة، وهي الاجتزاء باليسير من الأغراض المحتاج إليها. إن الناس إذا قلّت القناعة فيهم ازداد التسخّط بينهم، وافتقدوا الرضا بما رزَقهم الله، وحينئذ لا يرضيهم طعام يشبعهم، ولا لباس يواريهم، ولا مراكب تحملهم.

لقد كان نبيكم -صلى الله عليه وسلم- يسأَل ربه أن يمنّ عليه بالقناعة فيقول -عليه الصلاة والسلام-: "اللهم قنّعني بما رزقتني، وبارك لي فيه". أخرجه الحاكم. بل كان المصطفى يوصي أصحابه بالقناعة وعيش الكفاف، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا هريرة: كن ورعًا تكن أعبدَ الناس، وكن قنعًا تكن أشكر الناس". أخرجه ابن ماجه.

عباد الله: من عمر قلبه بالقناعة نعم بالراحة، وعاش الحياة الطيبة، وأبشر بالعز والغنى، فسَّرَ علي وابن عباس والحسن -رضي الله عنهم- قوله سبحانه: (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) [النحل: 97]، فقالوا: الحياة الطيبة هي القناعة، وفي هذا المعنى قال ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-: "من قنع طاب عيشه، ومن طمع طال طيشه".

خذ القنـاعة من دنياك وارض بِها *** لو لَم يكن لك منها إلا راحة البدن
وانظر لمن ملك الدنيـا بأجْمعهـا *** هل راح منها بغير القطن والكفن؟!

عباد الله: ليس في الدنيا أحد لا يجد من هو أفضل منه ومن هو أقل منه، إن كنت فقيرًا ففي الناس من هو أفقر منك، وإن كنت مريضًا ففيهم من هو أشد منك مرضًا، فلماذا ترفع رأسك لتنظر من هو فوقك ولا تخفضه لتبصر من هو دونك؟!

إن الطريق -أيها المسلمون- للقناعة والرضا بما قسم الله هو في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه"، وفي رواية لمسلم: "انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم".

وإليكم -عباد الله- نموذجًا عمليًّا لذلك، قال عون بن عبد الله بن عتبة: "كنت أصحبُ الأغنياء، فما كان أحد أكثر همًّا مني، كنت أرى دابّة خيرًا من دابتي، وثوبًا خيرًا من ثوبي، فلما سمعت هذا الحديث صحبت الفقراء فاسترحت".

عباد الله: إن بين القناعة والسياسة الرّشيدة للاستهلاك علاقة وثيقة، تتمثل في عدم الاغترار بما تبثّه الشركات الإعلامية ودور التجارة ومراكزها من صور لما يحتاجه وما لا يحتاجه المستهلك. لقد أثبتت الدراسات أثَر الإعلام والإعلان على أنماط الاستهلاك وتزايد الشراء العشوائي لدى كثير من الأفراد والهوس التسوّقي لدى النساء خاصة، حيث يصوّر الإعلام مقتنيات السوق على أنها لذّة الحياة التي تتيح للإنسان التمتّع بالحياة بأرقى وسائل العيش والترفيه، ولقد ذكرت الإحصاءات أن ثلث ما يتمّ وضعه في عربة المشتريات هو من الكماليات التي يمكن الاستغناء عنها، ويكون مصيرها غالبًا إلى سلة النفايات.

أيها المسلمون: إلى متى سيبقى بعض الناس عاجزًا عن تحديد الكمّيات المشتراة من الأغذية حسب حاجة الأفراد والأسرة الضرورية والفعلية؟! وإلى متى سنبقى عاجزين عن إدراك أن الزيادة عن الحاجة في المشتريات قد تتلف أثناء التخزين وتذهب فائدتها الفعلية؟! أبصر أبو الدرداء -رضي الله عنه- حبًا منثورًا في غرفته فقال: "إن من فقه الرجل رفقه في معيشته"، وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "الخرق في المعيشة أخوف عندي عليكم من العوز، لا يقل شيء مع الإصلاح، ولا يبقى شيء مع الفساد". يقول أحمد بن محمد البراثي: "قال لي محمد بن بشر بن الحارث لما بلغه ما أنفق من تركة أبينا: قد غمني ما أنفق عليكم من هذا المال، ألا فعليكم بالرفق والاقتصاد في النفقة، فلأن تبيتوا جياعًا ولكم مال أعجب إليّ من أن تبيتوا شباعًا وليس لكم مال، ثم قال له: اقرأ على والدتك السلام وقل لها: عليك بالرفق والاقتصاد في المعيشة".

الوقفة الثالثة: عباد الله: إن دور التجار في هذه الأزمة التي تحيط بالمجتمع لا يخفى، فإما أن يكونوا معول هدم يزيد من معاناة الفقراء والمحتاجين، وإما أن يكونوا أداة بناء يسهمون في تخفيف الضراء عن المتضررين.

يا معشر التجار، يا معشر التجار: بهذا النداء رفع المصطفى صوته، فاشرأبت إليه أعناقهم استجابة لنداء النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال لهم: "إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارًا، إلا من اتقى وبر وصدق".

إن أصدق الكسب -عباد الله- كسب التجار الذين إذا حدّثوا لم يكذبوا، وإذا ائتمنوا لم يخونوا، وإذا وَعَدوا لم يخلفوا، وإذا اشتروا لم يندموا، وإذا باعوا لم يخدعوا، وإذا كان عليهم لم يماطلوا، وإذا كان لهم لم يعسروا.

أيها المسلمون: هل يعلم التاجر الذي رفع أسعار بضاعته نهبًا وجشعًا بأنه يكاد يقتل أكثر من أسرة بالدَّين والهم والنكد؟! وهل يستشعر التاجر أن ضررَ إبقائه الأسعار دون زيادة: انخفاضُ أرباحه السنوية، أما زيادته في الأسعار فعاقبته المزيد من الديون والحرمان التي تكتوي بها العديد من الأسر ولا ناصر لهم ولا مغيث سوى الله وكفى به حسيبًا؟!

معاشر التجار: أذكركم بحديث نبيكم -صلى الله عليه وسلم-: "من يأخذ مالاً بحقه يبارك له فيه، ومن يأخذ مالاً بغير حقه فمثله كمثل الذي يأكل ولا يشبع". رواه مسلم.

إن إرخاص الأسعار على المسلمين ووضع الإجحاف بهم وترك استغلالهم لا يفعله إلا ذوو القلوب الرحيمة التي امتلأت عدلاً وصدقًا وتقوى وإحسانًا، وأولئك هم الموعودون بالبركة في أرزاقهم والسعة في أموالهم والصحة في أبدانهم.

عباد الله: إن الواجب على من تولى أمر المسلمين أن يتدارك أمرهم في ظل هذه المعاناة التي حلّت بهم، وذلك بالبحث عن الأسباب الحقيقية للأزمة ووضع الحلول المناسبة لها، وإذا رأى الإمام تضرّر أكثر الناس بالغلاء وأرهق الفقراء وأثقل كاهل المحتاجين والضعفاء، فإن الصحيح من أقوال العلماء جواز التسعير، وهو تحديد ثمن للسلع لا يزاد عليه ولا ينقص حتى في حال غلاء الأسعار وارتفاعها، وإذا أخذ ولي الأمر بالتسعير لمصلحة المسلمين وأمر أهل الأسواق أن لا يبيعوا إلا بسعر محدّد بلا زيادة ولا نقصان لم تجز مخالفته، ومن خالف استحق التعزيز، وذلك عقوبةً له على مخالفة الأمر.

الخطبة الثانية:

عباد الله: إن للمغالاة في الأسعار آثارًا سيئة على الفرد والمجتمع؛ حيث يعجز الفقير عن شراء ما لا غنى له عنه، وقد يتحمّل آخرون ديونًا يعجزون عن أدائها، وتكثر الضغوط الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، ويلجأ البعض إلى طرق غير مشروعة للحصول على المال وتوفير ما يحتاجون، وحينها لا يبالي ضعيف الإيمان أمن حلال أخذ المال أم من حرام، وتنشأ الأنانية والشحّ والبخل، وتتعمّق الفجوة بين الناس، وتضعف الروابط وتنقطع الصلات؛ ولذا جاء الوعيد الشديد لمن دخَل في شيء من أسعار المسلمين ظُلمًا وعدوانًا ليغلِيَه عليهم، عن معقل بن يسار -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم فإن حقًّا على الله أن يقعده بعظم من النار يوم القيامة". أخرجه الإمام أحمد.

أيها المسلمون: ومع عظم المصيبة التي حلّت بكم إلا أننا نحمد الله ونشكره أن جاءت مصيبتنا أهون من مصيبة غيرنا، ولئن ابتلينا بالزيادة في أسعارنا فإنّ العديد من البلدان حولنا ابتلوا بفقد طعامِهم وأمنهم واستقرارهم بسبب الفيضانات والحروب وأساليب الحصار الماكرة.

عباد الله: الصبر مفتاح الفرج، وبالاستغفار يعود الازدهار، وإن من أسباب تحويل المولى سبحانه الضراء إلى السراء أن نتفقد -وخاصة هذه الأيام- الفقراء؛ لأنهم في ازدياد وكثرة، وحاجتهم وفاقتهم أكثر، نظرًا لمتطلبات العصر الذي نعيشه، ولنتذكر ونحن نواسي أولئك قول النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه -عز وجل-: "أنفق -يا ابن آدم- أنفق عليك"، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "ما نقص مال من صدقة".

اللهم يا من يعلم السر وأخفى، يا من له الآخرة والأولى، نسألك باسمك الأعظم أن تدفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم فرج هم المهمومين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين...
 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي