الصفحة الأخيرة ووفاة عائشة (20)

إبراهيم الدويش

عناصر الخطبة

  1. الميراث الضخم الذي تركته لنا عائشة أم المؤمنين
  2. احتضارها ووفاتها ودفنها
  3. وجْد الناس عليها وحزنهم لفراقها
  4. تمكُّن حبها من قلوب المسلمين
  5. جريان أجرها بعد وفاتها بتطاول الروافض الشيعة عليها

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وعلى صحابته الكرام الذين اهتدوا بهديه، واقتدوا بسنته، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. 

أما بعد: فهذه آخر حلقات هذه السلسلة المباركة عن أم المؤمنين -عائشة رضي الله عنها-، والتي عشنا معها عشرين خطبة مليئة بالأحداث والمواقف والتجارب الحياتية الرائعة لامرأة أنموذج للجميع، فحياتها وتجاربها تُعَدُّ وبجدارة منهجًا تربويًّا وعمليًّا للفتاة المعاصرة اليوم؛ فعائشة -رضي الله عنها- شخصية نسائية فذة جمعت خصالاً كثيرة، حتى أصبحت قدوة ومعلمة للرجال والأجيال.

وها نحن اليوم نصل إلى المحطة النهائية، ونتناول الصفحة الأخيرة، فعائشة وإن رحلت عن هذه الدنيا إلا أن لها من اسمها نصيبًا، فهي عائشة بيننا، حية بعلمها وفقهها وتجاربها، هي عائشة وحاضرة وبقوة بذكراها، وبما قدمت من أياد بيضاء لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وبما نقلته من سنن الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.

نعم، وإن ماتت فهي مازالت بيننا بأنفاسها وتوجيهاتها وأحاديثها وحبها، وستبقى كذلك في قلوبنا وقلوب أمة الإسلام كلها إلا مَن في قلبه مرض، وفي دينه خلل، هي أمنا في ضمائرنا، وذكرياتنا وأحاديثنا، وفي منتديات العلم ومجالس العلماء، وفي محاريب الزُّهَّاد والعُبَّاد، فاسمها على كل لسان، يُذكر، ويُترحم عليها كل لحظة، فرضي الله عنها وأرضاها، ورفع ذكرها وذكراها.

أيها المؤمنون والمؤمنات: مهما بلغ الإنسان من السؤدد والعطاء، ومهما كان الحب والثناء، فلا يُمكن له البقاء، هكذا سنة الله في الخلق، وربما أن هذا هو سر الإبداع، وسر مجاهدة النفس والعطاء، وسر العزيمة والإرادة، أن النفَس معدود ومحدود، وتُقطعه المصائب والأمراض والظروف، ولا يصفو لك منه إلا القليل.

ولعل هذا هو السر عند العقلاء، استثمار العمر بما ينفع ويبقى، فالموت ليس نهاية كل شيء، بل بداية الحياة الأخرى، الحياة الحقيقية، سعادة أو شقاء، جنة أو نار، ليس هناك واسطات ولا احتيال، فقط: إيمان وأعمال.

هكذا جرت سنة الله في خلقه، وقضاؤه في مخلوقاته، شئنا أم أبينا، فرحنا أم جزعنا، ساءنا أم أعجبنا، حكم مسطور في كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه:﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ(27)﴾ [الرحمان:26-27]، إنه قرار لا رجعة فيه: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ [الأنبياء:35]، رفعت الأقلام وجفت الصحف.

لقد أدركت عائشة هذه المعاني فأوقفت حياتها كلها لله! وبعد عمر دام نحو ستة وستين عامًا، لكنه مثمر حافل بالإنجازات العظيمة، وزاخر بالخير والعمل والإيمان، مليء بالذكر والتسبيح والصلاة والصدقة وتلاوة القرآن، ومشرق بنور العلم والمعرفة، بعد هذه السنين جاءت نهاية الأجل، فآن للفارسة أن تترجل، وآن لها أن تنتقل من دار الجفاء إلى دار الوفاء، آن لها أن ترحل، وكلنا راحلون، لكن شتان شتان!.

فهي رحلت بعد أن احتلت أعظم المكانة في قلوب الأمة، وبعد أن خلَّفت إرثًا ضخمًا مباركًا من العلم والفقه، وبعد أن تركت أعمق الآثار في شتى مجالات الحياة، في الحياة الفقهية، وفي الحياة الاجتماعية، وفي الحياة الفكرية، وفي الحياة السياسية، لقد أرّثت كنوزاً للمسلمين.

رحلت بعد أن قرت عيناها بجيل تلاميذها من التابعين: كعروة بن الزبير، الإمام الكبير، القُدوة، عالِم المدينة، وأحَد فقهائها السَّبعة؛ والقاسم بن محمد بن أبي بكر، الإمام العلم، الذي كان من أعْلم الناس بحديثِ عائشةَ، وكمسروق بن الأجدع الإمام الجهبذ، والمجتهد الفقيه، وكعمرة بنت عبد الرحمن الأنصاريَّة، الفقيهة، مربوبة عائشة، وكمعاذة بنت عبد الله العدوية، أم الصَّهْباء البصريَّة، المرأة العابدة الزاهدة الفقيهة، وغيرهم كثير من أبناء وبنات عائشة من جيل التابعين، ممن تخرجوا في مدرستها، ورُبوا تربية جادة، وصاروا مستعدين لتولي المسئولية، والاضطلاع بالأمانة، ومواصلة الدرب بعدها.

إنها أمة الإسلام، أمة وَلود، فيذهب سيدٌ ويجيء أسياد وأسياد، لكن السعيد من ورّث عقولاً وعلماً، وهكذا كانت عائشة، حتى قال تلميذها وابن أختها عروة أثبت الناس في عائشة: لقدْ رأيتُني قبل موْت عائشة بأربع حِجج، أو خمْس حجج، وأنا أقول: لو ماتتِ اليومَ ما ندمتُ على حديث عندَها إلا وقد وَعَيْتُه.

فهذه شهادة من عروة بأن أم المؤمنين لم تدخر جهدًا في نشر العلم الذي أودعه إياها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأنها نشرته كاملاً، عند ذلك أراد الله أن تترك الفارسة الساحة لجيل قادم يحمل توجهاتها وأفكارها، وعلمها وعملها، ومنهجها وطريقتها؛ جيل مسلح بالسلاح الشرعي، يحل محلها في التعليم والتربية والجهاد في سبيل الله.

نعم ترجلت الفارسة بعد أن قضت حياتها كلها مجاهدة في سبيل الحق، ومدافعة عن المظلومين والمستضعفين، ومناضلة في سبيل العلم وإعلاء كلمة الدين؛ توفيت -رضي الله عنها- بعد أن مرضت مرضها الأخير، وعندما سمع الناس بمرضها سارعوا إلى عيادتها والاطمئنان عليها، فرفعوا أكف الضراعة والدعاء بأن تبقي حبيبة حبيب الله سنين أخرى لينهلوا مِن مَعين علمها وفقهها، ولكنه قضاء الله، ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [يونس:49].  

هُوَ المـــَوْتُ مَا مِنْهُ مَلَاذٌ وَمَهْرَبُ *** مَتَى حُطَّ ذَا عَنْ نَعْشِهِ ذَاكَ يَرْكَبُ نُشَاهِدُ ذَا عَيْنَ اليقينِ حقيقـةً *** عَلَيْهِ مَضَى طِفْلٌ وَكَهْلٌ وَأَشْيَبُ وَلَكِنْ عَلَا الرَّانُ القُلوبَ كَأنَّنَا *** بِما قَدْ عَلِمْنَاهُ يَقِينًا نُكَذِّبُ نُؤَمِّلُ آمالاً وَنَرْجُو نِتَاجَهَا *** وَعَلَّ الرَّدَى مِمَّا نُرَجِّيهِ أَقْرَبُ

لقد كان العُوَّاد يسألونها: كيف أصبحت يا أماه؟ فما تزيد على قولها: "صالحة، الحمد لله". وكل من يعودها يثني ويبشرها فترد: يا ليتني كنت حجرًا! يا ليتني كنت مدرة!.

لقد شعرَت -رضي الله عنها- بدنو الأجل، وقرب الرحيل، وأدركت أنها لن تنجو هذه المرة من مخالب الموت، مع عظيم أملها بالله، وكبير رجائها بعظيم رحمته، ومع إيقانها الشديد بأن حبيبها الصادق المصدوق قد بشرها بأنها زوجته في الدنيا والآخرة، إلا أن الخوف قد انتابها وتملكها، وخافت مما هي مقبلة عليه، كحال أي إنسان مقبل على الموت، إنه الموت، وسكرات الموت، ولذا تمنت أن لو كانت نسيًّا منسيًّا.

وعندما عَلم ابن عباس بالنبأ أسرع لعيادتها اعترافًا بحق أمومتها، فوجد عند الباب ذكوان، فطلب إليه أن يستأذن له منها في الدخول، ودخل ذكوان، فوجد عند رأسها أخاها عبد الرحمن، فقال ذكوان: هذا ابن عباس يستأذن. فأكبّ عليها ابن أخيها فقال: هذا عبد الله بن عباس يستأذن. ولكنها كانت في لحظاتها الأخيرة، مشغولة بمناجاة ربها، وكانت تعلم أن ابن عباس يثني عليها وهي تكره الثناء والإطراء، فقالت لابن أخيها: دعني من ابن عباس، لاَ حَاجَةَ لِي بِهِ.

وألح عليها ابن أخيها فقال: يا أماه! إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ مِنْ صَالِحِي بَنِيكَ جَاءَكِ يَعُودُكِ. قَالَتْ: فَأْذَنْ لَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: يَا أُمَّاهُ أَبْشِرِي! فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَكِ وَبَيْنَ أَنْ تَلْقِي مُحَمَّدًا -صلى الله عليه وسلم- وَالأَحِبَّةَ إِلاَّ أَنْ تُفَارِقَ رُوحُكِ جَسَدَكِ، كُنْتِ أَحَبَّ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ يُحِبُّ رَسُولُ اللَّهِ إِلاَّ طَيْبَةً.

قَالَتْ: وَأَيْضًا؟ قَالَ: هَلَكَتْ قِلاَدَتُكِ بِالأَبْوَاءِ، فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَلَمْ يَجِدُوا مَاءً، فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا، فَكَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِكِ وَبَرَكَتِكِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ الرُّخْصَةِ، وكَانَ مِنْ أَمْرِ مِسْطَحٍ مَا كَانَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَرَاءَتَكِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، فَلَيْسَ مَسْجِدٌ يُذْكَرُ فِيهِ اللَّهُ إِلاَّ وَشَأْنُكِ يُتْلَى فِيهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ.

فَقَالَتْ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، دَعْنِي مِنْكَ وَمِنْ تَزْكِيَتِكَ، فَوَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا!. ثم دخل عليها ابن الزبير فقالت له: أثنى عليَّ عبد الله بن عباس، ولم أكن أحب أن أسمع أحدًا يُثني علي، لوددت أني كنت نسيًا منسيًّا، ياليتني كنت شجرة أسبِّح وأقضي ما علي!.

ودخل عليها ابن أبي عتيق فأراد أن يُهون عليها مازحًا فقال: يا أمَّهْ! كيف تجدك؟ فردت عليه قائلةً: هو والله الموت. فقال: فلا إذًا. فقالت: لا تَدَع هذا على حال؟(تعني مزاحه)، وأوصت رضي الله عنها- بوصيتها الأخيرة، فأوصت أن تدفن مع صواحباتها من سائر أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم بالبقيع، وألا تدفن في حجرتها مع النبي -صلى الله عليه وسلم-.

ففي صحيح البخاري عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا أَوْصَتْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: لَا تَدْفِنِّي مَعَهُمْ (يقصد النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر وعمر)، وَادْفِنِّي مَعَ صَوَاحِبِي بِالْبَقِيعِ، لَا أُزَكَّى بِهِ أَبَدًا.

وفي رواية عنها قَالَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: ادْفِنِّي مَعَ صَوَاحِبِي وَلَا تَدْفِنِّي مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي الْبَيْتِ فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُزَكَّى. وقولها: لَا أُزَكَّى بِهِ أَبَدًا، أي لا يُثنى علي بسببه، وهذا من تواضعها الجم -رضي الله عنها-، فهي ترى أنها أحدثت بعد رسول الله أموراً فلا يجب أن تُدفَن معه، كما جاء في مستدرك الحاكم عن قيس بن أبي حازم قال: قالت عائشة -رضي الله عنها-: وكانت تحدث نفسها أن تدفن في بيتها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر فقالت: إني أحدثت بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حدثًا، ادفنوني مع أزواجه. فدُفِنَتْ بالبقيع.

وعلق الذهبي على قولها بقوله: تَعْنِي بِالحَدَثِ: مَسِيْرَهَا يَوْمَ الجَمَلِ، فَإِنَّهَا نَدِمَتْ نَدَامَةً كُلِّيَّةً، وَتَابَتْ مِنْ ذَلِكَ، عَلَى أَنَّهَا مَا فَعَلَتْ ذَلِكَ إِلاَّ مُتَأَوِّلَةً، قَاصِدَةً لِلْخَيْرِ،كَمَا اجْتَهَدَ طَلْحَةُ بنُ عُبَيْدِ اللهِ، وَالزُّبَيْرُ بنُ العَوَّامِ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الكِبَارِ-رَضِيَ اللهُ عَنِ الجَمِيْعِ.

وكانت وفاتها-على الأرجح- ليلة الثلاثاء لسبع عشرة مضين من رمضان المبارك سنة سبع وخمسين كما جاء في الاستيعاب والإصابة. الموافق لشهر يونيو عام 678من الميلاد.

وعندما شاع النبأ المحزن بين الناس أسرعوا إلى بيتها، فلم تُر ليلة أكثر ناسًا منها، وحزنوا حزنًا شديدًا، وتوجهوا زرافات ووحدانًا صوب حجرتها، وطبقًا لوصيتها أن تدفن من ليلتها، أمَّ الناسَ في الصلاة عليها أبو هريرة –رضي الله عنه-، حيث كان أمير المدينة بالنيابة، وكان أميرها مروان قد غادرها قاصدًا مكة للعمرة.

وكانت عائشة قد أوصت أن يصلَّى عليها ليلاً، وأن تُدفَن ليلاً، وذلك -والله أعلم- لكون الليل أستر، وما أحبت أن يُرى جثمانها وهي محمولة، وأوصتهم أيضًا قائلة: لا تتبعوا سريري بنار، ولا تجعلوا تحتي قطيفة حمراء. فأنفذت وصيتها، ودفنت بالبقيع مع أمهات المؤمنين ممن سبقنها وفاة، ونزل معها في قبرها خمسة من أعز أبنائها يودعونها الوداع الأخير، عبد الله بن الزبير، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وعبد الله بن محمد بن أبي بكر، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر.

قال الذهبي: وقد قيل إنها مدفونة بغربي جامع دمشق، وهذا غلط فاحش، فلم تَقدم إلى دمشق أصلاً، وإنما هي مدفونة بالبقيع.

عباد الله! نزل النبأ المفجع على المسلمين نزول الصاعقة، وانتشر الخبر بين الناس انتشار النار في الهشيم، وفي المستدرك بإسناد صالح أن أم سلمة لما سمعت البكاء على عائشة، قالت: والله لقد كانت أحب الناس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إلا أباها.

وتأثر الناس وبكوا على عائشة، بكوا على العلم الغزير الذي ذهب معها، والإيمان القوي الذي كانت تحمله، بكوا على الصدق والوفاء، والبذل والكرم والسخاء، بكوا على الجرأة الأدبية التي لا مثيل لها، بكوا على التي كانت تصدع بالحق مهما كانت الأخطار، بكوا على نصرة المظلومين في أحلك الظروف، وبكوا التقوى والزهد والورع.

بكوا امرأة كانت ملء السمع والبصر، في الجود مدرسة، وفي البذل مملكة، وفي العلم نابغـة، وفي التربية أستاذة الرجال والأجيال،حتى قال تلميذها الوفي مسروق: لولا بعض الأمر لأقمت المناحة على أم المؤمنين. وذلك لعظيم وجده عليها، وحزنه لفراقها، والأمر الذي منعه من إقامة المناحة هو دينه وإيمانه الذي غلب وجده وحرقته.

إِلَى اللهِ نَشْكُو قَسْوَةً فِي قُلُوبِنَا *** وَفِي كُلِّ يَوْمٍ وَاعِظُ المـَوْتِ يَنْدُبُ وَنَبْنِي القُصُورَ المـُشْمَخِرَّاتِ فِي الهَوَى *** وَفِي عِلْمِنَا أنَّا نَموتُ وَنخربُ فللهِ كَم غَادٍ حبيبٍ ورائحٍ *** نُشَيِّعُهُ للقَبْرِ والدَّمْعُ يُسْكَبُ نُهِيلُ عَلَيْهِ التُّرْبَ حَتَّى كَأَنَّهُ *** عَدُوٌّ وَفِي الأَحْــشَاءِ نَارٌ تَلَهَّبُ

سُئل رجل من أهل المدينة: كيف كان وَجْد الناس على عائشة؟ فقال:كان فيهم وكان. قال: أما إنه لا يحزن عليها إلا مَن كانت أمه. صدق والله! فكل أهل الحق والإيمان ممن آمنوا بصدق بالنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- يحبون عائشة من قلوبهم.

وكيف لا يحبون أمهم وحبيبة حبيبهم، وزوجة نبيهم في الدنيا والآخرة، إلا مِن عددٍ ممَّن اتبعوا أهواءهم، ممن ﴿ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ [الكهف:104]، يسبون عائشة، وينالون منها، ويتقربون إلى الله بزعمهم بمعاداتها! فهؤلاء قد كذبوا والله في محبتهم لنبي الله! فكيف يستقيم في العقل أن تدَّعي حب شخص ثم تتهم أهله وزوجه؟ وترميها بالعظائم والبهتان؟ فهذا لا يقبله عقل عاقل أبداً!.

ونجزم أن مثل هذه الأذية وغيرها لا تخلو من حِكَم، يكفي منها: أن يرفع الله ذكرها ومواقفها كلما نسيها الناس أو غفلوا عنها، مع أن الله أراد ألا ينقطع أجرها وإن انقطعت أعمالها بموتها، فرضي الله عن عائشة أم المؤمنين وأرضاها، ورفع درجتها وأعلاها.

وهنا نكون قد طوينا آخر صفحة من حياة حافلة بالأحداث والمواقف والتجارب، وبالعلم والعمل والعطاء والبناء، فياضة بالإيمان، لقد أهيل التراب على جثمان امرأة هي أعلم امرأة، وأعقل امرأة، وأعظم امرأة في تاريخ الإنسانية تأثيرًا في نفوس أبنائها.

انتقلت إلى جوار ربها بعد أن انشغل التاريخ -وحتى اليوم- برصد دقائق أخبارها وحياتها، فهي منذ أن كانت في السادسة من عمرها، والتاريخ يكتب ويُسجل حركاتها وسكناتها، وأحداثها وكلماتها، وهكذا هم الكبار! فالكل يموت، لكن شتان بين موت وموت، فموت تهتز له الدنيا بأسرها، وموت كموت البعير، فكم من إنسان يموت كل يوم، بل كل ساعة، بل وكل دقيقة، لكن؛ هل الناس يشعرون برحيلهم؟ أم يَحسون بفراقهم؟ بل كم من ملوك وطواغيت وسلاطين جبابرة ماتوا ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ﴾ [الدخان:29].

نسأل الله أن يُحسن لنا ولكم الختام، وأن يغفر لنا أجمعين، ويرفع درجاتنا في عليين؛ ولعلي قبل الختام لهذه السلسة المباركة أُذَكّرُ بأسماء أمهات المؤمنين، زوجات الحبيب -صلى الله عليه وسلم-، فأولهن خديجة، تزوجها النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة، وعندها كان عمره خمسًا وعشرين سنة، وعمرها أربعين سنة.

ثم تزوج بسودة في السنة العاشرة من البعثة، ثم بحفصة السنة الثالثة من الهجرة، وكذلك زينب بنت خزيمة أم المساكين تزوجها السنة الثالثة من الهجرة، وأم سلمة في السنة الرابعة، وجويرية بنت النضر، وزينب بنت جحش في السنة الخامسة كلتاهما، وأم حبيبة بنت أبي سفيان في السادسة، وميمونة وصفية بنت حيي في السنة السادسة من الهجرة. رضي الله عنهن أجمعين، ففي حياتهن دروس وعبر، لكل من قرأ ونظر.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.


تم تحميل المحتوى من موقع