إنَّ كلَّ يوم يمضي، وكلَّ ساعةٍ تنقضي، وكل لحظة تمر، ليس بإمكان أي مخلوق على وجه الأرض -كائناً مَن كان- أن يستعيدها، ومن ثَمَّ فلا يمكن تعويضها البتة... إذا علم المسلم هذه الحقيقة عن الوقت أدرك أن الوقت أغلى ما يملك في هذه الدنيا، وأنفس ما عني الإنسان بحفظه، ومَن جهِل قيمة الوقت، من جهل قيمة الساعات، من جهل قيمة الدقائق واللحظات فسيأتي عليه حينٌ يعرف فيه قدر الوقت ونفاسته، ولكن، بعد فوات الأوان!
الحمد لله مكوِّر الليل على النهار، ومكور النهار على الليل، جاعل الليل سكَناً، والشمس والقمر حسبانا، ذلك تقدير العزيز الحكيم.
أحمدُه -سبحانه- على نعمه المتواليات، وخيراته المتعاقبات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك رب الأرض والسماوات، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ختَم الله به النبوات والرسالات، صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وأصحابه أهل الخير والبر والكرامات، والتابعين لهم بإحسانٍ على تعاقُب الأيام والساعات، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا عباد الله، إنَّ أثمنَ وصيةٍ عند ذوي البصائر اليقِظةِ، والقلوبِ الحيةِ، وصية المولى الكريم لعباده المؤمنين بلزوم طاعته وتقواه: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131].
إنَّ هذه الوصيةَ العظيمة التي ينبغي أن يجعلها المسلم نصب عينيه دائما في كل وقت وحين مُدْرِكَاً لمعناها، عاملا بمقتضاها؛ حتى تتحقق له السعادة الأبدية في حياته الدنيوية والأخروية، جعلني الله وإياكم ممن عمرت التقوى قلوبهم، وهذَّبَتْ جوارحهم، فعملوا بمقتضاها، إن ربي رحيم ودود.
أيها الإخوة المسلمون: إنَّ مَن ينظر لِواقعنا مع أوقاتنا يجد تفريطا كبيراً، وإهمالاً عظيماً، حيث تضييع، الأوقات وتبديد الساعات في غير ما يُرضي رب الأرض والسماوات.
ويزداد الأمر سوءا مع وسائل الاتصال ووسائل التقنية الحديثة، حيث يقضي كثيرٌ من الكبار والصغار والرجال والنساء أوقاتاً طويلةً وأجزاءً كبيرةً من يومهم وليلتهم مع هذه الأجهزة في أشياء أقل ما يمكن أن يقال فيها إنها أمورٌ مباحة لا تقرِّب من الله -عز وجل-، ولا تقوِّي الإيمان، ولا تزيد في التقوى واليقين.
أيها الإخوة المسلمون: إنَّ على كل مسلم يرجو مرضاة الله -سبحانه وتعالى-، ويستعد للقدوم على الله -عز وجل- في ساعة من ساعات الليل والنهار أن يراجع نفسه مع وقته وحياته وعمره، أن يتأمل حاله مع وقته الذي هو حياته، هو عمره، كيف يقضيه؟ وبماذا يعمره؟ بماذا يملؤه؟ بماذا يملأ ساعاتِ الليل والنهار التي يُنعم الله -عز وجل- بها عليه في كل يوم من الأيام؟.
إنها أسئلة مهمة، والأهم منها حسن التعامل مع الإجابة عليها، والتوفيق لاستثمارها؛ لبناء حياة أفضل، ومستقبل مشرق يوم القدوم على الله -عز وجل-.
إنَّ على كل مسلم أن يدرك أن الوقت سريع الانقضاء، فهو يمر مر السحاب، ويجري جري الريح، سواء أكان زمن مسرة وفرح، أم كان زمن اكتئاب وتَرَح، ومهما طال عمر الإنسان في هذه الحياة الدنيا، ومهما عُمر فيها من سنوات وعقود، فهو قصير، ما دام الموت نهاية كل حي.
عند الموت تنكمش الأعوام وإن طالت، عند الموت تتقلص العقود وإن امتدت، تنكمش العقود والأعوام كلها التي عاشها الإنسان، حتى لَكأنها لحظات مرت كالبرق الخاطف.
لقد عاش نبي الله نوح -عليه السلام- أكثر من ألف عام، فلما جاءه ملك الموت ليقبض روحه سأله: يا أطول الأنبياء عمرا، كيف وجدت الدنيا؟ فقال نوحٌ -عليه الصلاة والسلام: وجدتُّها كدارٍ لها بابان، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخَر.
فبالله عليكم ما المسافة الفارقة ببين الباب الأول والباب الآخر؟ وصدَق الله -عز وجل- إذ يقول (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) [النازعات:46].
إنَّ مما يزيدُ من إدراك هذه الحقيقة عن الوقت أيها -الإخوة المسلمون- أن تدرك وأن يدرك كل واحد منا أن الوقت على سرعة انقضائه ومروره كما مضى منه لا يعود أبداً ولا يعوض، ما مضى منه من أيام الشباب، من أيام الصحة، من أيام الفراغ، ما مضى منه لا يعود أبداً، ولا يعوَّض.
إنَّ كلَّ يوم يمضي، وكلَّ ساعةٍ تنقضي، وكل لحظة تمر، ليس بإمكان أي مخلوق على وجه الأرض -كائناً مَن كان- أن يستعيدها، ومن ثَمَّ فلا يمكن تعويضها البتة.
ورحم الله الحسن البصري إذ يصور هذا المعنى الدقيق فيقول: ما مِن يوم ينشق فجره إلا وينادي: يا ابن آدم، أنا خَلْقٌ جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني؛ فإني إذا مضيت لا أعود إلى يوم القيامة.
إذا علم المسلم هذه الحقيقة عن الوقت أدرك أن الوقت أغلى ما يملك في هذه الدنيا، وأنفس ما عني الإنسان بحفظه، ومَن جهِل قيمة الوقت، من جهل قيمة الساعات، من جهل قيمة الدقائق واللحظات فسيأتي عليه حينٌ يعرف فيه قدر الوقت ونفاسته، ولكن، بعد فوات الأوان!.
وفي الذكر الحكيم عرض لمشاهد الندامة والحسرة التي تمتلئ بها قلوب أقوام لم يعرفوا للوقت قيمته، لم يعرفوا للزمان أهميته، فكم يندم المفرط في استثمار ساعات يومه ودقائق نهاره! كم يندم المفرط في استثمار ساعات وقته حينما تحين ساعة الاحتضار، حينما يستدبر الإنسان، الدنيا، حينما يستقبل الآخرة، فيتمنى لو منح مهلة من الزمن، وأعطي فرصة من العمر، وأُخّر إلى أجل قريب؛ ليصلح ما أفسد، ويتدارك ما فات!.
وفي هذا يقول المولى -عز وجل- محذرا عباده من هذه الساعة من تضييع فرص الحياة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المنافقون:9-11]، هذا موقف من مواقف الندامة والحسرة، لمضيِّعي الأوقاتِ وقاتليها.
والموقف الآخَر من مواقف الحسرة والندامة موقفٌ عظيمٌ يوم الجزاء والحساب، يوم تُوَفَّى كلُّ نفسٍ ما عمِلَتْ، وتُجزَى كل نفس بما كسبت، يوم يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، في تلك اللحظات يتمنى أهل النار لو يعودون مرة أخرى إلى الدنيا، من أجل ماذا؟ ليبدؤوا عملا صالحا؛ ولكن أنى لهم ذلك، وقد انتهى زمن العمل، وبدأ وقت الحساب؟.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) [فاطر:36-37].
هذه -أيها الإخوة المسلمون- مشاهد من مشاهد الندامة والحسرة التي تمتلئ بها قلوب أقوامٍ أنعَمَ الله عليهم بنعمة الوقت والحياة، أنعم الله عليهم بنعمة الصحة والفراغ، وفتحت أمامهم مجالات العمل، مجالات التقرب إلى الرب الكريم، ففرطوا فيها وأضاعوها.
إن علينا -أيها الإخوة المسلمون- أن نحرص على المحافظة على أوقاتنا، ونسعى جادين للاستفادة التامة منها بما ينفعنا في ديننا ودنيانا وأخرانا؛ وإذا كان الليل والنهار يعملانِ في كُلِّ واحدٍ مِنَّا فإنَّ من الواجبِ العملَ فيهما، وإنَّ من علامات المــــَقْتِ إضاعةَ الوقتِ.
ورحم الله السلف الصالح حيث كانوا يحرصون كل الحرص على ألا يمر يومٌ أو بعض يوم أو برهة من الزمان، وإن قصُرت، دون أن يتزودوا فيها بعلم نافع، أو عملٍ صالح، أو مجاهدة للنفس، أو إسداء نفع للغير.
أيها الإخوة المسلمون: إن من العقوق للزمن أن يمضي على الواحد منا يوم لا يستفيد منه نموا في علمه، ولا زيادة في إيمانه وتقواه لربه، ولا يزيد فيه عملا صالحا يقربه من ربه، ورضي الله عن ابن مسعود إذ يقول: ما ندمتُ على شيء ندمي على يومٍ غربت شمسُه نقَصَ فيه أجَلي، ولم يزدد فيه عملي.
إخوة الإسلام: إنَّ مما يملأ القلوب أسفا وحزنا ما نراه في أوقاتنا من تضييعٍ للأوقات، وإهدارٍ للساعات، ولم يعد الأمر مقتصرا على الشباب والمراهقين وصغار السن والأحداث؛ وإنَّما تعدَّى الأمرُ ذلك فشمل الكبار والصغار، والرجال والنساء.
انظر بربك إلى فئات من الناس كبرت أعمارهم كم يقضون من أوقات ليلهم ونهارهم عكوفا على أجهزة اللهو وأجهزة الضياع في بيوتهم أو استراحاتهم أو أماكن تجمعاتهم، وكأن الوقت عبءٌ ثقيلٌ يجب التخلص منه وقتله.
ترى مَشَاهِدَ من ذلك في أقوام يعكفون الساعات الطويلة دون ذكر لله -عز وجل- في أعمالٍ قبيحةٍ، وعلى أمور منكرة، يصاحب ذلك تضييع للصلوات، وغفلة عن الواجبات والالتزامات، تمضي الشهور والأعوام، على فئام من الناس هذه حالتهم، هذا هو وضعهم، دون محاسبة للنفس على هذا التعامل السيئ مع الأوقات والحياة.
ووالله ليأتينَّ يومٌ يعضُّ فيها المفرِّطون المبدِّدون لأوقاتهم القاتلون لزمانهم، يعضون فيه أصابع الندم على ساعاتٍ مرَّتْ بهم دون ذكر لله، على أوقات مرت عليهم وهم في غفلة عن حقوق الله.
يوم تُعرَضُ عليهم صحائفُ أعمالهم، وسِجِلَّات أعمالهم، ودواوين أعمالهم، فلا يرون في تلك الصحف والسجلات والدواوين إلا ما يوجب الخزي والفضيحة، ويبعث على الألم والحسرة: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف:49].
نسأل الله -عز وجل- بمنِّه وكرمه أن يعاملنا بلطفه وكرمه، وأن يرزقنا حسن التعامل مع أوقاتنا، وأن يجعل يومنا خيرا من أمسنا، ومستقبلنا خيرا من حاضرنا، وأن يوفقنا لفعل الخيرات، وترك المنكرات، وأن يأخذ بنواصينا ونواصي ذريتنا وأحبابنا إلى ما يحبه ويرضاه، إن ربي لطيف رحيم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع جماعة المسلمين، ومن شذ عنهم شذ في النار.
أيها الإخوة المسلمون: أيها الأخوة المؤمنون: اتقوا الله -عز وجل-، واستعدوا لما أمامكم فإن هول المطلع شديد، خذوا عبرة مما يجري حولكم من أحداث في هذا الكون العظيم، واعلموا أنه لن يرحل الإنسان ومعه شيء من هذه الدنيا مهما طال عمره وعظم ماله، إلا عمله الصالح فقط، المؤنس له في بيت الوحدة والظلمة، في منزل الوحشة ومرتع الدود.
إنَّ من أعظم المعوِّقات لاستثمار الأوقات عدم التنظيم والتخطيط لقضاء الأوقات، وإذا كان أرباب الدنيا لا يستطيعون الوصول إلى ما يأملون من أهداف إلا بتخطيطٍ وتنظيمٍ دقيقٍ؛ فإن المسلم لن يستطيع تحقيق أهدافه الأخروية والوصول إلى مَحابِّ الله ومَراضيه إلا بحسن تعامله مع وقته تخطيطاً وترتيباً وتنظيماً.
وأولى خطوات الترتيب المحافظة على الواجبات في الليل والنهار، المحافظة على الفرائض، والبدء بالأهم فالمهم، والحذر من التسويف والتأجيل، وإنما المبادرة الجادة لاغتنام الوقت واستثمار ساعات الليل والنهار.
والحذرَ الحذرَ من صحبة البطَّالين! أهل الغفلة، الذين لا هَمَّ لهم إلا إشباع شهواتهم، وملء بطونهم، وكأن حياتهم حياة البهائم والحيوانات.
نسأل الله -عز وجل- أن يمن علينا جميعا بالتوفيق لاستثمار أعمارنا فيما يحبه ربنا ويرضاه -عز وجل-.
هذا وصَلُّوا وسلِّموا -رحمكم- الله على نبيكم محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي