ألا وإن من الواجب على كل مسلم ان يحاسب نفسه حسابا شديداً؛ فيتفكر وينظر في الآثار الصالحة، والحِكَم العظيمة لكل عبادة يقوم بها، وطاعة يعملها، هل زكت بها نفسه؟ وهل استقامت بها أخلاقه؟ وهل أناب قلبه إلى دار الخلود وحذر من دار الغرور؟ وهل تاب إلى الله من المظالم والمحارم؟ وهل أعد للقاء الله ما يرضى به عنه؟ فإن وجد للعبادات الآثار الطيبة الصالحة في قلبه وفي عمله فلْيَحْمَد الله، ولْيلزم، فإن هذا العابد نفعه الله ..
الحمد لله ذي الجلال والإكرام، الملك القدوس السلام، أحمد ربي وأشكره على الفضل والإنعام، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له يضاعف الثواب على الطاعات ويغفر الذنوب العظام، وأشهد أن نبينا محمد عبده ورسوله الهادي لكل بِرٍّ وخير بما أرساه من قواعد الإسلام، اللهم صَلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه الكرام.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى بالمُسارعة إلى الخيرات، وهجر المحرمات، فقد أقام الله الحجة على المكلفين، ويسَّر أسباب القرُبات للطائعين.
أيها المسلمون: إنَّ لكلِّ حسنةٍ ثواباً، ولكل سيئة عقابا، قال الله تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47].
ألا وإن حق ربنا -جل وعلا- علينا عظيم، ولا نقدر أن نعبده حق عبادته، ولا نقدر أن نشكره على نعمه حق شكره، وقد علم الله تعالى ضعفنا فرحمنا ورضي منا بهذه الفرائض، ونهانا عن أسباب غضبه وقال: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الحشر:7].
فكانت الطاعاتُ كلُّها غذاءً ونماءً للإيمان والروح وزكاةً للأبدان بمنزلة غذاء الأجسام، وكانت المعاصي والمحرمات ضارة للإيمان والإسلام، إما ببطلانه أو بنقصه، بمنزلة السموم والأمراض للأبدان، وقد قال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَا أمرتُكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه" رواه البخاري ومسلم.
أيها المسلمون: اعلموا أنَّ العبادات تعطي ثمارها، وتزكِّي صاحبها، وينال ثوابها في الدارين إذا كانت مصحوبة بإخلاص النية لله تعالى، وكانت موافقة لسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإن ترك المعصية خوفا من الله وتقربا إليه يعظم الله به الأجر.
وأما فعل العبادات بلا إخلاص، أو فعلها بلا موافقة للسنة، فإن العبد يعذبه الله بفقد الإخلاص ومخالفة السنة بأفعاله، قال الله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) [الغاشية:2-7]. قال المفسرون : هؤلاء الآيات في العباد الذين لا يعبدون الله بسنة.
ألا وإن من الواجب على كل مسلم ان يحاسب نفسه حسابا شديداً؛ فيتفكر وينظر في الآثار الصالحة، والحِكَم العظيمة لكل عبادة يقوم بها، وطاعة يعملها، هل زكت بها نفسه؟ وهل استقامت بها أخلاقه؟ وهل أناب قلبه إلى دار الخلود وحذر من دار الغرور؟ وهل تاب إلى الله من المظالم والمحارم؟ وهل أعد للقاء الله ما يرضى به عنه؟ فإن وجد للعبادات الآثار الطيبة الصالحة في قلبه وفي عمله فلْيَحْمَد الله، ولْيلزم، فإن هذا العابد نفعه الله بالقرآن والسنة بعمل الصالحات، كالأرض الطيبة التي نزل عليها الغيث فأخر الله منها طيب الثمرات، ومن لم ير للعبادات آثارها الطيبة الصالحة فليبك على خطيئته؛ فإن قلبه شبيه بالحجر، والمطر لا تلين به الحجارة، وليضرع إلى الله مقلب القلوب أن يصلح قلبه.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: إن للطاعة نوراً في القلب، وبهاء في الوجه، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وسعة في الرزق؛ وإن للمعصية ظلمة في القلب، وكآبة في الوجه، ووهناً في البدن، وبغضاً في الخلق، ومحقا في الرزق.
عباد الله: أنتم في رمضان، وقد شرعه الله لاكتساب التقوى الجامعة لكل خير، المنجية من كل شر، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183].
فما أعظمَ سعادةَ وفوزَ من اكتسب بصيام رمضان تقوى الله -عز وجل-! وما أعظم خسارة وخيبة من حُرم تقوى الصيام، وكان حظه من رمضان الجوع والعطش! قال الله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت:46].
ألا وإن للطاعات آثاراً حسنة جميلة، وإصلاحاً وصلاحاً وبركة على الطائعين وعلى الكون كله، قال الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف:56]، وقال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل:97].
ألا وإن للمعاصي شؤما وشرا وعقابا وفسادا يصيب العاصين، ويتضرر منه الكون، قال تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) [النساء:123].
وقال -تعالى- عن القرون الهالكة: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [العنكبوت:40].
وقال -عز وجل-: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) [المؤمنون:71]، وقال -عز وجل-: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم:41].
وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: إن شر الليالي والأيام والشهور والأزمنة أقربها إلى الساعة. ذكَرهُ في كنز العمال؛ ويشهد له ما رواه الإمامان أحمد والبخاري عن أنس -رضي الله عنه- أنه قال: "لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم"، سمعتُهُ من نبيِّكُم -صلى الله عليه وسلم-.
أيها المسلمون: اختموا شهركم بالاجتهاد في الطاعات في بقيته؛ فإن الأعمال بالخواتيم، وتحروا ليلة القدر في لياليه المقبلة، فقد أخفاها الله ليجتهد العبد كل ليلة من العشر، وفي الحديث: "مَن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه"، وأفضل ما ختم به رمضان توبة نصوح من كل ذنب، في السِّر أو العلن، فيوم التوبة أفضل أيام العمر، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لكعب بن مالك يهنئه بالتوبة: "أبشِرْ بخير يوم مَرَّ عليك منذ ولدتك أمك!" رواه البخاري ومسلم.
أيها المسلم: إياك أن يخدعك الشيطان! فكثيراً ما يأتي بعض الناس فيوسوس له بأن الشهر مضى أكثره وفاتت فرصة التوبة والاجتهاد في العمل، ويسوف في التوبة فيحرم من خير عظيم، وقد يخترمه وهو بِشَرِّ حال؛ فيشقى الشقاء الأبدي. فمَن يحول بينك وبين التوبة؟ وهل يضيع الله عملا صالحا؟!.
أيها المسلمون: أكثروا من تلاوة كتاب الله في السنة كلها، واعملوا به، فقد جمع الله الخير كله لمن آمن بكلامه وعمل به، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر:29-30]، وجعل الله الخزي والعذاب في الدنيا والآخرة لمن كذب بكلام الله تعالى وأعرض عنه، قال تعالى: (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [الجاثية:7-8].
وتاريخ الرسل -عليهم الصلاة والسلام- مع أممهم شاهد صدق على فوز المؤمنين، وخزي المكذبين، قال تعالى: (يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [الأعراف:35-36].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفَعَني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وقوله القويم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له القوي المتين، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبده ورسوله، بعثه الله بالهدى واليقين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله حق التقوى.
عباد الله: إن الله قد شرع زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو، وجبراً للصوم، وقد قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) [الأعلى:14-15].
عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: كنا نخرج زكاة الفطر ورسول الله -صلى الله عليه وسلم-" فينا عن كل صغير وكبير من ثلاثة أصناف: صاعاً من تمر، صاعاً من أقط، صاعاً من شعير" رواه البخاري ومسلم. وفي الحديث الآخر: صاعاً من بُر. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر؛ طُهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين. رواه النسائي. ويجزئ صاع من قوت البلد غير هذه الأصناف، كالأرز والذرة.
ووقت إخراجها قبل صلاة العيد ويجزئ قبل العيد بيوم أو يومين، ومن أداها بعد الصلاة فليست زكاة وإنما هي صدقة من الصدقات.
عباد الله: (إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمَاً) [الأحزاب:56]، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا"؛ فَصَلُّوا وسلِّموا على سيد الأولين والآخرين، وإمام المرسلين.
اللهم صَلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وسلِّم تسليما كثيراً.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي