شهر رمضان المعظم أنس المجتهدين، ورياض المتهجدين، وقرة عين الموحدين، صومه جُنَّة، وفيه تُغْلَق أبواب النار، وتفتح أبواب الجنة، يغفر لمن صامه وقامه إيمانا واحتسابا، جزاءً من ربك عطاء حسابا، أمل المسلمين عظيم في تحري ليلة القدر ليفوزوا بحط الأوزار، وعظيم الأجر، (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) ..
الحمد لله الذي جعل الليل والنهار مواقيت للأعمال، ومقادير للأعمار، أسبَلَ ذيل الليل فأظلم للسكون والاستتار، وأنار منار النهار للسعي والعمل والانتشار، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، أفاض على عباده بالنِّعَم، وتفضل بغفران الذنوب، فالسعيد من جمع بين الذكر والشكر والاستغفار.
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تحقيق وإخلاص تنجي من عذاب النار، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله جاء بالحنيفية السمحة فرفع الأغلال والآصار، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الأطهار، وأصحابه نجوم الأقطار، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما كثيرا ما تعاقب الصيام والإفطار.
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -عز وجل- فاتقوا الله -رحمكم الله- وعفِّروا بالسجود وجوهكم، واحتسبوا ظمأ الهواجر، أحِبُّوا المساكين واليتامى وأدنوهم من مجالسكم، صِلُوا أرحامكم ولو جفوكم، وقولوا الحق ولو كان مُرَّاً، وأحسنوا وأنفقوا فالقوة في كف الأذى، وبذل الندى، (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [البقرة:195].
أيها المسلمون: شهر رمضان المعظم أنس المجتهدين، ورياض المتهجدين، وقرة عين الموحدين، صومه جُنَّة، وفيه تُغْلَق أبواب النار، وتفتح أبواب الجنة، يغفر لمن صامه وقامه إيمانا واحتسابا، جزاءً من ربك عطاء حسابا، أمل المسلمين عظيم في تحري ليلة القدر ليفوزوا بحط الأوزار، وعظيم الأجر، (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [القدر:2-3].
إنه الشهر الكريم، يستبشر المسلمون بقدومه، ويتبادلون الدعوات والتهاني بشهوده، في مشاعرَ مشتركةٍ مِن الفرح والأعمال الكبار، باليُمن والخير والبركة والتوفيق والمغفرة والفوز بالجنة والعتق من النار، والحزن على فراقه ووداعه.
أيها المسلمون: ومع هذا الاستبشار والأمل وحلول مواسم الخيرات، وفُرَص النفحات، كم قلوب العباد بحاجة لذكرى وعظات، تلين لها قلوب المخبتين، وترق لها أفئدة الخاشعين، وتنقشع بها غيوم الغفلة عن الغافلين، وترتفع بها سواتر الحجب عن اللاهين والسادرين.
أين يفر الفارون من الله وكلهم في قبضته؟ وكيف يُشكر غير الله وما في الخلائق من نِعم فمن جوده وكرمه، وإلى مَن يلجأ الخائفون وكلهم محفوظ بعنايته ورحمته؟ لو علم القاعدون ماذا أضاعوا وكم أضاعوا! كم من قريب أبعده التباعد! ولا يزال أقوام يتأخرون حتى يؤخرهم الله.
يا عبد الله: لن تجد طعم العافية حتى تكون على الطاعة مقيما، ولذكر الله مديما، فعالِجْ مرض المخالفة بالتوبة، وداوِ داء الغفلة بالإنابة، لا يؤنس في وحشة القبر إلا العملُ الصالح، ولا يقي مِن عذاب النار إلا نورُ الإيمان، ولا تثبت القدم على الصراط إلا الاستقامة على الإسلام، مَن سَلَكَ سبيل أهل السلامة سلِم، ومَن لم يقبل نصح الناصحين ندم، الكرامة كرامة التقوى، والعز عز الطاعة، والأنس أنس الإحسان، والوحشة وحشة الإساءة، ومن أحسن الظن أحسن العمل.
أيها المسلمون: استعيذوا بالله أن تمر بكم مواسم الخيرات وساعات النفحات ثم لا تزدادوا هدى، ولا ترتدعوا عن الردى، وحذَارِ أن يكون المرء ممن طبع الله على قلبه وسمعه وجعل على بصره غشاوة! فمَن يهديه من بعد الله؟.
معاشرَ الأحبة: جعل الله لبعض الأيام فضلا، ولبعض الشهور منزلة، أقسَم بالعشر، وجعل ليلة القدر خيرا من ألف شهر، وما من موسم من هذه المواسم الفاضلة إلا ولله فيها وظيفة من وظائف طاعاته، ولطيفة من لطائف نفَحَاته، يُصيب بها مَن يمنُّ عليه بفضله ورحمته، والسعيد -وربّكم!- من اغتنم مواسم الفضل وأيام البركات، ونافس في الطاعات، فعسى أن يصيب نفحة وبركة يكتب الله له بها سعادة لا يشقى بعدها أبدا.
فأحيوا -أثابكم الله- هذه الليالي بقلوب خائفة راجية، وعيون باكية وآذان واعية، واطلبوا في همة عالية سلعة الله الغالية، فالغنائمَ الغنائمَ قبل الفوَات! والعزائمَ العزائمَ قبل الندم والحسَرات! شهركم هذا شهر عمارة المحراب، وتلاوة الكتاب، تعمر فيه المساجد، ويُغْبَطُ فيه الراكع والساجد، والحسرة للكسول القاعد، أيام خير وفضل وتعبّد، ترف فيها القلوب، وتغفر فيها الذنوب، وتتجافى عن المضاجع الجنوب.
ألَا فجِدُّوا -رحمكم الله-، أرُوا الله من أنفسكم خيرا؛ فإن شهركم قد أخذ في النقص والانصرام، فمن أحسن فعليه بالتمام، ومن فرط فعليه بالحسنى؛ فإنما العمل بالختام.
وإن من أفضل الأعمال أداء ما افترض الله، والورع عما حرم الله، وصِدق النية مع الله، وفي الحديث القدسي: "وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبّ إليَّ ما افترضتُه عليه"، ومن بعد الفرائض يكون التقرب بالنوافل، والبعد عن المكروهات بعد المحرمات، وفي الحديث: "وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه"، ومن أحبه الله أعانه على طاعته والاشتغال بذكره، فحصل له القربى منه والزلفى إليه، والحظوة عنده.
ومن أعظم ما يتقرب به إلى الله ذكره -سبحانه وتعالى- ذكر يتواطأ عليه القلب واللسان، وفي الحديث القدسي: "أنا عند ظن عبدي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه" متفق عليه. وفي التنزيل العزيز: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) [البقرة:195]. فيا لسعادة مَن لا يزال لسانه رطبا من ذكر الله!.
وتتقربوا رحمكم الله بقيام الليل فإن من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ، وعليكم بكثرة الإحسان والصدقة وقد كان نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم "أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في شهر رمضان " أخرجه مسلم .
وقال الإمام الشافعي -رحمه الله-: أحب للرجل الزيادة في الجود في شهر رمضان اقتداء برسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثير منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم. "ومَن فطَّر صائماً كان له مثل أجره، غير أنه لا يُنقِص مِن أجر الصائم شيئا" أخرجه الإمام أحمد.
عباد الله: ومما يجمَع لكم ذلك كله طهارة القلب، وسلامة الصدر؛ مما يورث محبة الله، ومحبة عباده، فإنك ترى أقواماً أطهاراً صالحين، بريئة أيديهم، طاهرة قلوبهم، يتحابون بجلال الله، يُنِيبون إلى ذكره، ويغضبون لمحارمه، ويتلطفون مع عباده، تمتلئ قلوبهم بمعرفة ربهم وخشيته، وعبادته ومحبته، وتعظيمه ومهابته، وإجلاله والأنس به والشوق إليه، قال بعض السلف: تعوَّدُوا حب الله وطاعته؛ فإن المتقين ألفوا الطاعة فانصرفت جوارحهم عن غيرها.
ألا فاتقوا الله -رحمكم الله-، فشهركم هذا نفيس لا قيمة له فيباع، ولا يستدرك منه ما ضاع، لقد جد الجادون فلا ترضوا لأنفسكم بالدون، واعملوا وجدوا وشمروا حسب الطاقة والاستطاعة، فمن عجز بالليل كان له بالنهار مستعتب، ومن عجز بالنهار كان له بالليل مستعتب، والمؤمن العاقل المحاسِب نفسه قد ينسى بالليل ويذكر بالنهار، وينسى بالنهار ويذكر بالليل، ولقد جاء رجل إلى سلمان الفارسي -رضي الله عنه- وقال له: لا أستطيع قيام الليل! قال: فلا تعجز بالنهار! والمغبون من غبن خير الليل وخير النهار.
فاستودعوا -رحمكم الله- أيامكم هذه الصالحة؛ فإن العمر منتقِصٌ وزائلٌ، ولا تفوتكم الفُرَص، فيا وبال الغافل! متى يُغفَر لمن لم يغفر له في رمضان؟! ومتى يشفى قلب من لم تشفه آيات القرآن؟! ومِن أنفع أيام المؤمن ما ظن أنه لا يدرك آخره، وحقيقة الزهد قِصَرُ الأمل، والموت معقود بالنواصي، والدنيا تطوى من ورائكم .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المنافقون:9-11].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد صلى الله عليه وسلم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله أرشد النفوس إلى هداها، وحذَّرَها من رَدَاها، (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس:9-10]، أحمده -سبحانه- وأشكره على نِعَمٍ لا تُحْصَى، وآلاء لا تتناهى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، رضينا به ربا وإلها.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، أعلى الخلق منزلة، وأعظمهم عنده جاها، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ما طلعت شمس وضحاها، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: أيها المسلمون ومع حديث الاجتهاد والمحاسبة والفرص والنفحات فإن شهر رمضان موسم عظيم من مواسم الخير، وزمن شريف من أزمنة النفحات، يغتنمه الأتقياء الصالحون بالاستزادة من صالح العمل، ويلقي بظله الظليل على العصاة الغافلين والمقصرين فيتذكرون ويندمون ويتوبون.
فالسعيد السعيد من كان شهره مجدداً للعزم والطاعة، وحافزاً للتمسك بحبل الله، وفرصة للتزود بزاد التقوى، حاديه في ذلك وسائقه همة عالية، ونفس أبية لا ترضى الدون من العزم والعمل، يقول ابن القيم -رحمه الله-: إذا طلع غيم الهمة في ليل البطالة وأردفه نور العزيمة أشرقت أرض القلب بنور ربها.
على أنه ينبغي -أيها المسلمون- لذوي الهمم العالية وطلاب الكمالات أن يعرفوا طبيعة البشرية والضعف الإنساني: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) [النساء:27-28].
وفي مثل هذا يقول بعض أهل العلم والحكمة: إن من الخطأ والخطل أن ينزع الرجل إلى خصلة شريفة من الخير، حتى إذا شعر بالعجز عن بلوغ غايته انصرف عنها، والتحق بالطائفة الكسولة التي ليس لها همة في هذه الخصلة ولا نصيب، ولكن الطريق الصحيح ونهج الحكمة ومنهج السعادة أن يذهب في همته إلى الغايات البعيدة، ثم يسعى لها سعيها، ولا يقف دون النهاية إلا حيث ينفذ جهده، ويستفرغ وسعه.
ألا فاتقوا الله -رحمكم الله-، واعلموا أن إدراك هذا الشهر والإحسان فيه نعمة عظيمة، وفضل من الله كبير، لا يحظى به، ولا يوفق إليه إلا مَن مَنَّ عليه بجوده وإحسانه، وفتح عليه أبواب الخيرات، فنافِسوا -رحمكم الله- في الطاعات، وازدادوا من الصالحات، وجِدُّوا وتحروا ليلة القدر، وتعرضوا لنفحات ربكم، تقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام وسائر الطاعات.
ثم صَلُّوا وسلِّموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، نبيكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم، فقال عَزَّ قائلا عليما في محكم تنزيله قولا كريما: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم صَلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمد، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، والخلق الأكمل، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين.
وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين، والأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك يا أكرم الأكرمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي