وسميت الأحقاف لأنه ذكر فيها مساكن عاد، الذين أهلكهم الله بطغيانهم وجبروتهم، وكانت مساكنهم بالأحقاف من أرض اليمن... قال تعالى: (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ) ، والأحقاف تلال عظيمة من الرمال في بلاد اليمن، وهو جمع حقف، وهو ما استطال من الرمل العظيم وأعوج.
الحمد لله منزل الكتاب يدخل من يشاء الجنة بغير حساب، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله وخشيته، ورجاء ثوابه، والخوف من عقابه، وسنتحدث اليوم عن سورةِ الأحقاف، السورةِ السادسة والأربعين في ترتيب المصحف الشريف، وهي خمس وثلاثون آية.
وهي سورة مكية، وأهدافها نفس أهداف السور المكية التي تهتم بالعقيدة في أصولها الكبرى: الوحدانية والرسالة والبعث والجزاء. ومحور السورة يدور حول "الرسالة والرسول"؛ لإثبات صحة رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم-.
وسميت الأحقاف؛ لأنه ذكر فيها مساكن عاد، الذين أهلكهم الله بطغيانهم وجبروتهم، وكانت مساكنهم بالأحقاف من أرض اليمن، في الآيات من (12-26)، قال تعالى: (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ)، والأحقاف تلال عظيمة من الرمال في بلاد اليمن، وهو جمع حقف، وهو ما استطال من الرمل العظيم وأعوج.
وقد تحدثت السورة في البدء عن القرآن العظيم المنزل من عند الله بالحق، وأن الله سبحانه لم يخلق السماوات والأرض وما بينهما من المخلوقات عبثاً وإنما خلقها لتدل على وحدانيته، وكمال قدرته، وإلى زمن معين هو زمن فنائها يوم القيامة، مع إعراض الكفار عما خوَّفَهم الله به من العذاب وهو أهوال الآخرة، وهذا في الآيات من (1-3).
ثم تناولت السورة، الأوثان التي عبدها المشركون وزعموا أنها آلهة مع الله تشفع لهم عنده، فبينت ضلالهم وخطأهم في عبادة ما لا يسمع ولا ينفع، حيث أنكر الله سبحانه عليهم عبادتها من دونه، وقال لهم ما معناه: أخبروني ماذا خلقوا من أجزاء الأرض؟ أو هل لهم مشاركة في خلق السماوات مع الله؟ وهل ذلك موجود في كتاب من الكتب المنزلة من عند الله؟ يأمر بعبادة الأصنام مع الله؟ وهو أمر تعجيز؛ لأنهم ليس لهم كتاب يدل على الإشراك بالله، بل الكتب كلها ناطقة بالتوحيد وإبطال الشرك. أو بقية أمر من علوم الأولين شاهدة بذلك تدل على صدقهم.
ثم أخبر سبحانه أنه لا أحد أضل ممن يعبد أصناماً لا تسمع دعاء الداعين، ولا تعلم حاجات المحتاجين، ولا تستجيب لمن ناداها أبداً؛ لأنها جمادات لا تسمع ولا تعقل، وهم لا يسمعون ولا يفهمون دعاء العابدين، وإذا جمع الله سبحانه الناس للحساب يوم القيامة كانت الأصنام أعداء لعابديها حيث تتبرأ من عابديها، وهذه معاني الآيات من (4-6).
ثم تحدثت السورة عن شبهة المشركين حول القرآن، فردت عليهم بالحجة البالغة، والبرهان الناصع، حيث يقول الكفار عن القرآن الحق الذي جاء من عند الله: هذا سحر ظاهر لا شبهة فيه، وقالوا إن محمداً اختلقه وافتراه من تلقاء نفسه، ورد عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن قال لهم: إن افتريته -على سبيل الفرض- فالله حسبي في ذلك، وهو الذي يعاقبني على الافتراء عليه ولا تقدرون أنتم أن تردوا عني عذاب الله، فكيف أفتريه من أجلكم وأتعرض لعقابه والله -جل وعلا- أعلم بما تخوضون في القرآن وتقدحون به من قولكم إنه شعر أو هو سحر أو هو افتراء، كفى أن يكون الله تعالى شاهداً بيني وبينكم، يشهد لي بالصدق ويشهد عليكم بالجحود والتكذيب.
وأمر الله عز وجل رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يقول لهم: إنه ليس أول رسول طرق العالم، ولا جاء بأمر ما جاء به أحد من قبله، وأنه لا يدري بما يقضي الله عليه وعليهم، فإنه قدر مغيب، وأنه لا يتبع إلا ما ينزله الله من الوحي، وما هو إلا رسول منذر لهم من عذاب الله بين الإنذار بالشواهد الظاهرة.
ثم أمره الله أن يسألهم إن كان القرآن من عند الله وقد كذبوا به كيف يكون حالهم وقد شهد رجل من علماء بني إسرائيل على صدق القرآن فآمن به واستكبرتم أنتم عن الإيمان؟ فإن الله لا يوفق للخير والإيمان من كان فاجراً ظالماً.
قال المفسرون: والشاهد من بني إسرائيل هو عبد الله بن سلام، وذلك حين قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، جاء إليه ابن سلام ليمتحنه، فلما نظر إلى وجهه علم أنه ليس بوجه كذاب، وتأمله فتحقق أنه هو النبي المنتظر فقال له: إني أسألك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟.
فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبرني به جبريل آنفاً، قال ابن سلام: ذاك عدو اليهود من الملائكة، قال: أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع الولد. قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. قال ابن سلام: يا رسول الله! إن اليهود قوم بُهت، فأسألهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي.
فجاءت اليهود، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وأفضلنا وابن أفضلنا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك. فأعاد عليهم فقالوا مثل ذلك. فخرج عليهم عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فقالوا: شرنا وابن شرنا، وتنقَّصُوه. قال: هذا ما كنت أخاف يا رسول الله. صحيح البخاري، وقيل هذه الآية مدنية.
ثم رد الله تعالى على شبهة أخرى من شبه المشركين حيث قال كفار مكة في حق المؤمنين: لو كان هذا القرآن والدين خيراً ما سبقنا إليه هؤلاء الفقراء الضعفاء. يعنون بلالا وعماراً وصهيباً وخباباً وغيرهم ممن أسلم وآمن بالنبي -صلى الله عليه وسلم-. والكفار لم يهتدوا بالقرآن مع وضوح إعجازه، ومن قَبْله التوراة كتاب موسى قدوة يؤتم بها في دين الله وشرائعه كما يؤتم بالإمام، ورحمة لمن آمن به، والقرآن عظيم الشأن مصدق للكتب قبله بلسان عربي فصيح، فكيف ينكرونه وهم أفصح بياناً؛ ليخوف كفار مكة من عذاب الجحيم، ويبشر المؤمنين المحسنين بجنات النعيم؟!.
ولما بين الله تعالى أحوال المشركين المكذبين أردفه بذكر أحوال المؤمنين، حيث بيَّن أنَّ مَن جمع بين الإيمان والعمل الصالح والاستقامة على شريعة الله فلا يلحقهم مكروه في الآخرة يخافون منه، ولا هم يحزنون على ما خلفوا في الدنيا وهم أهل الجنة خالدين فيها أبداً، جزاء لهم على أعمالهم الصالحة، وذلك في الآيات (13-14).
ولما كان رضا الله عز وجل في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما حث الله تعالى العباد عليه، وأمر الإنسان أمراً جازماً مؤكداً بالإحسان إلى الوالدين، وأن السبب أن أمه حملته بكُرْه ومشقة ووضعته بكره ومشقة، وأن مدة حمله وفصاله ثلاثون شهراً، أي عامان ونصف، فهي لا تزال تعاني التعب والمشقة طيلة هذه المدة.
والطفل إذا عاش وكبر وبلغ كمال قوته وعقله وبلغ أربعين سنة وهي نهاية اكتمال العقل والرشد، دعا ربه أن يلهمه شكر نعتمه التي أنعم بها الله عليه وعلى والديه، وأن يوفقه ليعمل صالحاً يرضى الله عنه، وأن يصلح ذريته، وأنه تاب إلى الله من جميع الذنوب، وأنه من المتمسكين بالإسلام وأن الموصوفون بذلك هم الذين يتقبل الله سبحانه منهم طاعتهم، ويجازيهم على أعمالهم بأفضلها، ويصفح عن خطيئاتهم وزلاتهم في جملة أصحاب الجنة الذين يكرمهم الله بالعفو والغفران بذلك الوعد الصادق الذي وعدهم الله به على ألسنة رسله.
ولما مثَّل الله تعالى حال الإنسان البار بوالديه وما آل إليه حاله من الخير والسعادة، مثَّل لحال الإنسان العاق لوالديه وما يؤول إليه أمره من الشقاوة والتعاسة، فالولد الفاجر الذي يقول لوالديه إذا دعواه إلى الإيمان: أُفٍّ لَكُمَا! أي قبحاً لكما على هذه الدعوة! وأنكر عليهما أن يعداه بالبعث بعد الموت، ويقول قد مضت قرون من الناس قبلي ماتوا ولم يبعث منهم أحد، وأبواه يسألان الله أن يغيثه ويهديه للإسلام، قائلين له: ويلك! آمِن بالله، وصدِّقْ بالبعث والنشور وإلا هلَكْتَ، فيقول ذلك الشقي: ما هذا إلا أباطيل الأولين، سطروها في الكتب مما لا أصل له، فرد الله عليه وعلى أمثاله بأنه من الذين حق عليهم قول الله بأنهم أهل النار، وأنه في جملة أمم من أصحاب النار من الجن والإنس والكفرة الفجار، لذلك ضاع سعيهم وخسروا دنياهم وآخرتهم.
ثم بيَّن الله سبحانه أن لكل من المؤمنين والكافرين مراتب بحسب أعمالهم، فمراتب المؤمنين في الجنة عالية، ومراتب الكافرين في جهنم سافلة، وأن الله يجزيهم أعمالهم وافية كاملة من غير نقصان في ثواب المؤمنين، ولا زيادة في عقاب الكافرين.
ثم ذكر الله سبحانه حال الأشقياء فقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ).
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وسنة خاتم رسله، وأسأل الله أن نكون ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين، أنزل القرآن العظيم وجعله هدى ورحمة للمؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صَلَّى اللهُ عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: استكمالاً للحديث عن سورة الأحقاف فقد ذكر الله عز وجل قصة عاد الذين أهلكهم الله بطغيانهم، مع ما كانوا عليه من الشدة والقوة، تذكيراً لكفار قريش بعاقبة التكذيب والطغيان، في الآيات من (21-26)، وهم أهل الأحقاف الذين سميت بهم السورة كما ذكرنا، وعاد هم قوم هود عليه السلام.
وورد في السورة الكريمة قصة النفر من الجن الذين آمنوا بالقرآن حين سمعوه، ودعَوا قومهم إلى الإيمان به، في الآيات من (29 إلى 33)، وفيها تذكير للمعاندين من الإنس بسبق الجن لهم إلى الإسلام.
ثم ختمت السورة الكريمة بذكر الله تعالى الأدلة على قدرته ووحدانيته، حيث إنه الذي خلق السماوات والأرض من غير مثال ولم يضعف ولم يتعب بخلقهن، وأنه قادر على أن يعيد الموتى بعد الفناء، ويحييهم بعد تمزق الأشلاء.
وأمر الله رسوله أن يذكر المشركين بعرضهم على النار، وسؤالهم عن العذاب الذي يذوقونه، بأنه حق وأن الكفار يعترفون بذلك ويؤكدونه بالقسم طمعاً في الخلاص، ولكن يقال لهم: ذوقوا العذاب الأليم بسبب كفركم فلا خلاص لكم منه.
وفي آخر آية في السورة يأمر الله عز وجل رسوله محمداً -صلى الله عليه وسلم- بالصبر على أذى المشركين كما صبر أولو العزم من الرسل، وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، وأن لا يستعجل بالدعاء على كفار قريش بأن ينزل الله العذاب عليهم فإنه نازل بهم لا محالة، وإذا رأوه في الآخرة كأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة واحدة من النهار لما يشاهدونه من شدة العذاب وطوله، وأن ذلك بلاغ وإنذار، ولا يهلك الله سبحانه إلا الكافرين الخارجين عن طاعته.
عباد الله: هذه بعض معاني سورة الأحقاف ومواعظها باختصار، وفي كتب التفسير إيضاح واسع، أسأل الله أن ينفعنا بما نقول ونسمع، إنه سميع قريب مجيب الدعاء.
وصلوا وسلموا على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي