وقصة أصحاب الأخدود مذكورة في كتب التفسير بشكل مطول، وتتلخص فيما يلي: أن ملكاً ظالما كافراً أسلم أهلُ بلدةٍ فأمر بالأخدود فشُقَّ في أفواه السِّكَك، وأضرم فيها النيران، ثم أمر زبانيته وجنوده أن يأتوا بكل مؤمن ومؤمنة ويُعرَضُوا على النار، فمَن لم يرجع عن دينه فلْيُلْقُوهُ فيها، ففعلوا، حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أماه! اصبري فإنك على الحق ..
الحمد لله الناصر لأوليائه، المذل لأعدائه، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صَلَّى اللهُ وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه على الحق والهدى إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها المسلمون: في كتاب الله العِبَر والحِكَم، وسنتحدث هذا اليوم عن سورتين منه: سورة البروج، وسورة الطارق.
فسورة البروج هي السورة الخامسة والثمانون في ترتيب المصحف الشريف، وهي اثنتان وعشرون آية، وهي مكية بلا خلاف.
بدأت بأن اقسم الله بعدة أمور أولها: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ) [البروج:1]، قيل: البروج النجوم، والمعنى: والسماء ذات النجوم، وقيل: هي قصور في السماء، وقيل: هي المنازل للكواكب، وهي اثنا عشر برجاً، وهي الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت، والبروج في كلام العرب: القصور، وأصل البرج الظهور، سميت بذلك لظهورها.
وقوله: (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) [2]، أي: الموعود به، وهو يوم القيامة، (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) [3]، المراد بالشاهد من يشهد ذلك اليوم من الخلائق، أي: يحضر فيه، والمراد بالمشهود ما يشاهد يوم الجمعة، وأنه شاهد على كل عامل بما عمل فيه، والمشهود يوم عرفة؛ لأنه يشهد الناس فيه موسم الحج، وتحضره الملائكة، وقيل غيره.
(قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ) [4]، هذا جواب القَسَم، أي: لقد قُتِل، وقيل: قتل هنا بمعنى لُعِن، والأخدود: الشق العظيم المستطيل في الأرض، كالخندق.
(النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ) [5]، أي: ذات الحطب الذي توقد به، (إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ) [6]، أي: حين هم جلوس حول النار يتشفون بإحراق المؤمنين فيها، (وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) [7]، أي: على ما يفعلون بالمؤمنين من عرضهم على النار ليرجعوا إلى دينهم حضور يشهدون ذلك الفعل الشنيع.
(وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [8]، أي: ما أنكروا عليهم ولا عابوا منهم ذنباً إلا إيمانهم بالله، (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [9]، أي: شهيد على ما فعلوا بالمؤمنين.
ثم بيَّن سبحانه ما أعد لهم فقال: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيق) [10]، أي: الذين أحرقوهم بالنار، والعرب تقول: فتنت الشيء: إذا أحرقته، وقيل: معنى فتنوا المؤمنين: محنوهم في دينهم ليرجعوا عنه، ثم لمْ يتوبوا من قبيح صنعهم ويرجعوا عن كفرهم وفتنتهم، فلهم عذاب الحريق.
ثم بين الله سبحانه ما أعد للمؤمنين الذين أحرقوا بالنار فقال: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) [11]، أي: الذي لا يعدله فوز، ولا يقاربه ولا يدانيه.
ثم قال الله سبحانه: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) [12]، والخطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم-، والبطش: الأخذ بعنف، (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) [13]، أي: يخلق الخلق أولا في الدنيا، ويعيدهم أحياء بعد الموت.
(وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) [14]، أي: بالغ المغفرة لذنوب عباده المؤمنين لا يفضحهم بها، بالغ المحبة للمطيعين من أوليائه، وقيل: الودود: الرحيم، (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) [15]، أي: ذو الملك والسلطان، والمجيد هو النهاية في الكرم والفضل، وقوله: (فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) [16]، أي: لا يعجز عن شيء يريده، ولا يمتنع منه شيء طلبه.
ثم ذكر الله سبحانه خبر الجموع الكافرة فقال: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ) [17]، أي: الجموع الكافرة المكذبة لأنبيائهم، المتجندة عليهم، ثم بينهم فقال: (فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) [18]، أي: فرعون وقومه، وثمود وقومه.
(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ) [19]، أي: بل هؤلاء المشركون من العرب في تكذيب شديد لك يا محمد وبما جئت به، ولم يعتبروا بمن كان قبلهم من الكفار، (وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ) [20]، أي: يقدر على أن ينزل بهم ما أنزل بأولئك، والإحاطة بالشيء: الحصر له من جميع جوانبه، فهو تمثيل لعدم نجاحهم لبُعد فوت المحاط به على المحيط.
ثم رد سبحانه تكذيبهم بالقرآن فقال: (بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ) [21]، أي: متناهٍ في الشرف والكرم والبركة، لما شرعه الله فيه من أحكام الدين والدنيا، وليس هو -كما يقولون- شعراً أو كهانةً أو سحراً، (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) [22]، أي: مكتوب في لوح، وهو أم الكتاب، محفوظ عند الله من وصول الشياطين إليه.
وقصة أصحاب الأخدود مذكورة في كتب التفسير بشكل مطول، وتتلخص فيما يلي: أن ملكاً ظالما كافراً أسلم أهلُ بلدةٍ فأمر بالأخدود فشُقَّ في أفواه السِّكَك، وأضرم فيها النيران، ثم أمر زبانيته وجنوده أن يأتوا بكل مؤمن ومؤمنة ويُعرَضُوا على النار، فمَن لم يرجع عن دينه فلْيُلْقُوهُ فيها، ففعلوا، حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أماه! اصبري فإنك على الحق.
والقصة مفصلة في صحيح مسلم، وفي كثير من كتب التفسير، وغيرها، فسورة البروج تدور حول حادثة أصحاب الأخدود، وهي قصة التضحية بالنفس في سبيل العقيدة والإيمان.
أسأل الله أن أكون قد أعطيت لمحة عن معاني هذه السورة الكريمة، سورة البروج، أسأل الله أن ينفعنا بها وبهدي كتابه الكريم، وسنة خاتم المرسلين، وبما نقول ونسمع، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله المنزل في كتابه المعجزات الباهرات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وأصحابه وتابعيه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلن، وسورة الطارق هي السورة السادسة والثمانون في ترتيب المصحف الشريف، وهي سبع عشرة آية، وهي مكية بلا خلاف.
أخرج أحمد والبخاري في تاريخه وغيرهما عن خالد العدواني أنه أبصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سوق ثقيف وهو قائم على قوس أو عصا حين أتاهم يبتغي النصر عندهم، فسمعه يقرأ (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ) حتى ختمها، قال: فوعَيْتُها في الجاهلية، ثم قرأتُها في الإسلام. قال: فدعتني ثقيف فقالوا: ماذا سمعت من هذا الرجل؟ فقرأتها، فقال مَن معهم من قريش: نحن أعلم بصاحبنا، لو كنا نعلم ما يقول حقا لاتَّبعناه.
وقد بدأت بقسم الله تعالى: (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ) [الطارق:1]، فأقسم بالسماء والطارق، (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ) [2]، أي: وما أعلمك يا محمد ما الطارق؟ تفخيماً لشأنه، وفسَّره بقوله: (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) [3].
قال المفسرون: أقسم الله بالسماء والطارق، يعني بالكواكب تطرق بالليل وتختفي بالنهار، والنجم الثاقب: المضيء، وقيل: الطارق يقع على مل ما يطرق ليلاً، ولم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يدري ما المراد لو لم يُبِنْهُ اللهُ تعالى بقوله: (النَّجْمُ الثَّاقِبُ)، قال مجاهد: الثاقب المتوهِّج.
وقوله: (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ) [4]، هذا جواب القسم، وقيل الحافظ هم الحفَظة من الملائكة الذين يحفظون عليها عملها وقولها وفعلها، ويحصون ما تكسب من خير وشر، وقيل: الحافظ هو الله -عز وجل-.
وقوله: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ) [5]، أي: يتفكر في مبدأ خلقه ليعلم قدرة الله على ما هو دون ذلك من البعث، (مِمَّ خُلِقَ)، أي: من أيِّ شيءٍ خلقَه الله، ثم بيَّن سبحانه ذلك فقال: (خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ) [6]، الماء هو المني، والدفق: الصَّبُّ، والمراد ماء الرجل والمرأة؛ لأن الإنسان مخلوق منهما، ثم وصف الماء بقوله (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) [7]، أي: صلب الرجل وترائب المرأة.
ثم قال سبحانه (إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ) [8]، أي: إن الله سبحانه على إعادة الإنسان بعد الموت لقادر، (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) [9]، أي: يوم تختبر السرائر، والسرائر ما يسر القلب من العقائد والنيات وغيرها، والمراد هنا عرض الأعمال، ونشر الصحف، فعند ذلك يتميز الحسَن منها من القبيح، والغث من السمين، (فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ) [10]، أي: فما للإنسان من قوة في نفسه يمتنع بها من عذاب الله، ولا من ينصره مما نزل به.
(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ) [11]، هذا قسم من الله، والرجع: المطر؛ لأنه يجيء ويرجع ويتكرر، وقيل غيره، (وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ) [12]، هو ما تتصدع له. وجواب القسم قوله: (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) [13]، أي: إن القرآن لَقول يفصل بين الحق والباطل بالبيان عن كل واحد منها، (وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ) [14]، أي: لم ينزل باللعب، فهو جد ليس بالهزل.
(إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا) [15]، أي: يمكرون في إبطال ما جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الدين الحق، (وَأَكِيدُ كَيْدًا) [16]، أي: أستدرجهم من حيث لا يعلمون، وأجازيهم جزاء كيدهم. قيل: هو ما وقَع يوم بدر من القتل والأسر.
(فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) [17]، أي: أخِّرْهُم، ولا تسأل الله سبحانه تعجيل هلاكهم، وارْضَ بما يدبره لك في أمورهم، والإمهال: الإنظار، ورويدا:ً قريباً، أو قليلاً، أي: على مهل.
فسورة الطارق عالجت بعض الأمور المتعلقة بالعقيدة الإسلامية، خاصة الإيمان بالبعث والنشور؛ فإن الله سبحانه الذي خلق الإنسان من العدم قادر على إعادته بعد موته.
وبدأت بأن أقسم الله سبحانه بالكواكب الساطعة التي تطلع ليلا لتضئ للناس سبلهم، وليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر، على أن كل إنسان قد وُكِّل به من يحرسه ويتعهد أمره من الله -عز وجل-، وأخبرت عن كشف الأسرار، وهتك الأستار في الآخرة، حيث لا معين للإنسان ولا نصير.
ثم أكدت صدق المعجزة التي نزلت على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- لهداية الناس أجمعين، وأَوْعَدَت الكفرة الجاحدين بالعذاب الأليم.
عباد الله: هذه بعض معاني سورة الطارق، أرجو من الله تعالى أن ينفعنا بها وبكتابه الكريم، وآمل من كل منكم العودة إلى كتب التفسير للاستيضاح والزيادة.
داعيا الله سبحانه أن يوفقنا جميعاً لفهم كتابه وتدبره والعمل به، إنه سميع قريب مجيب الدعاء.
وصلُّوا وسلِّموا -عباد الله- على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي