سورة الأعلى وسورة الغاشية

مسفر بن سعيد بن محمد الزهراني
عناصر الخطبة
  1. فضل سورتي الأعلى والغاشية .
  2. تعريف بهما .
  3. تفسيرهما .
  4. تلخيص لمحتوى سورة الأعلى .
  5. عظمة القرآن الكريم وضرورة قراءته وتدبر آياته .

اقتباس

وختمت ببيان فوز من طهر نفسه من الذنوب والآثام، وزكاها بصالح الأعمال، وأذكركم بأن صحف موسى غير التوراة، وقد ورد أنه أعطى عشر صحف، وكانت كلها عبراً ، قال أبو ذر -رضي الله عنه-: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن صحف موسى ما كانت؟ قال: "كانت عِبَراً كلها"

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبيَّنا محمداً عبده ورسوله، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

فيا أيها المسلمون: قراءة كتاب الله القرآن الكريم، وتفهُّم معانيه، والعمل به، يجب أن تكون أهمَّ ما يعمَلُهُ المُسْلم، ويُطَبِّقه في حَيَاتِه، وفي كتاب الله سورتان حثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على قراءتهما في صلاة الجمعة وفي صلاة العيدين هما سورتي الأعلى والغاشية وكان يقرأ بهم في الجمعة والعيدين إذا اجتمعتا في يوم واحد.

وسورة الأعلى كما في قول الجمهور أنها مكية، أي نزلت بمكة، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحبها، وكان يقرأ في الوتر بالأعلى والكافرون وقل هو الله أحد، وأحياناً قل هو الله أحد والمعوذتين، وترتيبها في المصحف السابعة والثمانون، وعدد آياتها تسع عشرة آية.

بدأت بقوله تعالى: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى:1]، أمْرٌ للرَّسول -صلى الله عليه وسلم- ولأمته بتنزيه الله عما لا يليق به، وتعظيمه، والأعلى صفة للرب سبحانه، (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) [2]، أي: خلق الإنسان مستويا، وقيل عدَّل قامته، (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) [3]، صفة أخرى للرب سبحانه.

قال المفسرون: قدر خلق الذكر والأنثى من الدواب، فهدى الذكر للأنثى كيف يأتيها. وقال مجاهد: هدى الإنسان لسبيل الخير والشر والسعادة والشقاوة. وقيل: للرشد والضلالة. وقيل: هدى الأنعام لمراعيها. وقيل: دَرَّ أرزاقهم وأقواتَهم.

(وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى) [4]، صِفَةٌ أُخْرَى للربِّ سبحانه، أي: أنبت العشب وما ترعاه النَّعَم من النبات الأخضر، (فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى) [5]، أي: فجعله بعد أن اخْضَرَّ غُثَاءً، أي: هشيماً جافاً كالغثاء الذي يكون فوق السيل، وأحوى: أي أسود بعد اخضراره، وذلك أن الكلأ إذا يبس اسْوَدَّ.

(سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى) [6]، أي: سنجعلك قارئاً بأن نلهمك القراءة فلا تنسى ما تقرؤه، وفي هذا هداية خاصة للنبي -صلى الله عليه وسلم- بعد الهداية العامة وهي هداية لحفظ القرآن الكريم، (إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ)، أي: إلا ما شاء الله أن تنساه، قال الفرَّاء: وهو لم يشأ سبحانه أن ينسى محمد -صلى الله عليه وسلم- شيئاً، (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى) [7]، أي: إن الله يعلم ما ظهر وما بطَن، يعلم الإعلان والإسرار.

(وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى) [8]، قيل: معناه نهون عليك عمل الجنة، وقيل: نوفقك للطريق التي هي أيسر وأسهل، (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى) [9]، أي: عِظْ يا محمد الناس بما أوحينا إليك، وأرْشِدْهُم إلى سبيل الخير، واهدهم إلى شرائع الدين، وقيل: تذكرة للمؤمن، وحجة على الكافر، فهناك من الناس من تنفعه التذكرة، وهناك من لا تنفعه.

(سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى) [10]، أي: سيتعظ بوعظ من يخشى الله فيزداد بالتذكرة خشية وصلاحا، (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى) [11]، أي: ويتجنب الذكرى ويبعد عنها الأشقى من الكفار، لاضطراره على الكفر بالله، وانهماكه في معاصيه.

ثم وصف الله سبحانه الأشقى بقوله: (الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى) [12]، أي: يصلى النار العظيمة الفظيعة، لأنها أشد حراً من غيرها، وقيل النار الكبرى نار جهنم، والنار الصغرى نار الدنيا، وقيل هي السفلى من أطباق النار.

(ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا) [13]، أي: لا يموت في النار فيستريح مما هو فيه من العذاب، ولا يحيا حياة ينتفع بها، فالتردد بين الحياة والموت أفظعُ مِنْ صَلْيِ النَّارِ الكبرى.

ثم قال سبحانه بعد ذلك (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) [14]، أي: فاز من تطهر من الشرك فآمن بالله وحده، وعمل بشرائعه؛ وقيل: نزلت في صدقة الفطر، أي تزكى للفطر، وصلى صلاة عيد الفطر. وأصل الزكاة في اللغة: النماء والزيادة، وقيل: المرادُ زكاة الأموال كلها. وقيل: زكاة الأعمال.

وقوله: (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) [15]، قيل: معناه ذكَر اسم ربه بالخوف فعبده وصلى له، وقيل: ذكر اسم ربه بلسانه فصلى، أي: فأقام الصلوات الخمس.

(بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) [16]، هذا إضراب عن كلام مقدر يدل عليه السياق، أي: لا تفعلون ذلك، بل تؤثرون اللذات الفانية في الدنيا، والمراد بإيثار الحياة الدنيا هو الرضا بها، والاطمئنان إليها، والإعراض عن الآخرة بالكلية.

(وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [17]، أي: إن الدار الآخرة التي هي الجنة أفضل وأدوم من الدنيا، وقيل: لو كانت الدنيا من ذهب يفنى والأخرى من خزف يبقى لكان الواجب أن يؤثر خزف يبقى على ذهب يفنى، فكيف والآخرة من ذهب يبقى والدنيا من خزف يفنى؟.

(إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى) [18]، أي: كل ما تقدم في هذه السورة من فلاحِ مَن تزكَّى وما بعده ثابت في الصحف الأولى، وهي (صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) [19]، أي: تتابعت كتب الله -عز وجل- أن الآخرة خير وأبقى من الدنيا، وإبراهيم هو خليل الله، وموسى هو كليم الله عليهما السلام.

فسورة الأعلى تحدثت عن ذات الله العلية سبحانه، وبعض صفاته، والدلائل على القدرة والوحدانية، والوحي والقرآن المنزل على خاتم الرسل -صلى الله عليه وسلم-، وتيسير حفظه عليه، صلى الله عليه وسلم، والموعظة الحسنة التي ينتفع بها أهل القلوب الحية، ويستفيد منها أهل السعادة والإيمان.

وختمت ببيان فوز من طهر نفسه من الذنوب والآثام، وزكاها بصالح الأعمال، وأذكركم بأن صحف موسى غير التوراة، وقد ورد أنه أعطى عشر صحف، وكانت كلها عبراً ، قال أبو ذر -رضي الله عنه-: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن صحف موسى ما كانت؟ قال: "كانت عِبَراً كلها".

عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح، وعجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك، عجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، وعجبت لمن أيقن بالقدر ثم لا ينصب، وعجبت لمن أيقن بالحساب ثم لا يعمل.

وسورة الغاشية: سورة مكية، وترتيبها في المصحف الشريف الثامنة والثمانون، وعدد آياتها ست وعشرون آية، بدأت بقوله تعالى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ) [الغاشية:1]، قال جماعة من المفسرين: هل بمعنى قد، أي: قد جاءك يا محمد حديث الغاشية، وهي القيامة؛ لأنها تغشى الخلائق بأهوالها.

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ) [2]، أي: يوم غشيان الغاشية ترى الوجوه يومئذ ذليلة خاضعة، ناكسة رؤوسها، والمراد بالوجوه هنا أصحابها، (عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ) [3]، أي: تعمل عملا شاقا، وقيل هذا العمل هو جر السلاسل والأغلال والخوض في النار، (تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً) [4]، أي: تدخل ناراً متناهية في الحَر، (تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ) [5]، المراد بالعين الآنية: المتناهية في الحَر، والآني: الذي قد انتهى حَره، من الإناء بمعنى التأخر، قال المفسرون: لو وقعت منها نقطة على جبال الدنيا لذابت، هذا شرابهم.

وأما طعامهم فقال: (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) [6]، والضريع هو نوع من الشوك يقال له الشبرق في لسان قريش إذا كان رطباً، فإذا يبس فهو الضريع. وقيل: الضريع الحجارة، وقيل: هو شجرة في نار جهنم، ثم قال الله في وصف الضريع: (لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) [7]، أي: لا يسمن الضريعُ آكلَه، ولا يدفع ما به من الجوع.

ثم انتقل الكلام إلى ذكر وجوه المؤمنين فقال سبحانه: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ) [8]، أي: ذات نعمة وبهجة، أي صارت وجوه المؤمنين ناعمة لما شاهدوا من عاقبة أمورهم، وما أعده الله لهم من الخير الذي يفوق الوصف، (لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ) [9]، أي: لعملها الذي عملته في الدنيا راضية؛ لأنها قد أعطيت من الأجر ما أرضاها وقرت به عيونها.

(فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ) [10]، أي: عالية المكان، مرتفعة على غيرها من الأمكنة، ووصفها بقوله: (لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً) [11]، أي: لا تسمع فيها -أيها المخاطب- لاغية، واللغو: قيل المراد به الكذب والبهتان والكفر، وقيل: الشتم، وقيل: لا تسمع فيها حالفاً يحلف بكذب، وقيل: لا تسمع في الجنة حالفاً بيمين برة ولا فاجرة.

(فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ) [12]، أي: تجري مياهها وتتدفق بأنواع الأشربة المستلذة، (فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) [13]، أي: عالية مرتفعة السمك، أو عالية القدر، (وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ) [14]، فالأكواب: جمع كوب، وهو القدح الذي لا عروة له، ومعنى موضوعة: موضوعة بين أيديهم يشربون منها، (وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ) [15]، النمارق: الوسائد، أي وسائد مصفوفة بعضها إلى بعض، وقيل النمرق: الوسادة الصغيرة، (وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) [16]، الزرابي: هي البُسُط، والمبثوثة: المبسوطة، وقيل معنى مبثوثة أي: متفرقة مع كثرتها.

نسأل الله أن نكون من أهل الجنة، ونعوذ بالله أن نكون من أهل النار، وسنكمل إيضاح معاني ما تبقى من هذه السورة في الخطبة الثانية إن شاء الله، وأسأل الله أن ينفعني وإياكم بها وبآيات كتاب الله الكريم، وأن نكون من العاملين به، أقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، اللهم صَلِّ وسلِّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: عباد الله: اتقوا الله تعالى، واستكمالا لإيضاح معاني سورة الغاشية المتبقية نبدأ بقوله تعالى: (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) [17]؟ أي: أفلا ينظرون إلى الإبل التي هي غالب مواشيهم، وأكبر ما يشهدونه من المخلوقات كيف خلقها الله هذا الخلق البديع من عظيم جثتها، ومزيد قوتها، وبديع أوصافها؟ وقيل: إن الله خص الإبل بالذكر لأنها من ذوات الأربع، تبرك فتحمل عليها الحمولة، وغيرها من ذوات الأربع لا يحمل عليه إلا هو قائم.

(وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) [18]، أي: رفعت فوق الأرض بلا عمد على وجه لا يناله الفهم، ولا يدركه العقل، وقيل: رفعت فلا ينالها شيء، (وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) [19]، أي: تثبت على الأرض مرساة راسخة لا تميد ولا تزول، (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) [20]، أي: بُسطت، والسطْح بسطُ الشيء.

ثم أمر الله سبحانه رسوله -صلى الله عليه وسلم- بالتذكير فقال: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ) [21]، أي: عِظهم يا محمد وخوِّفهم، فليس عليك إلا ذلك، (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) [22]، أي: لست مسلطاً على الشيء لتشرف عليه وتتعهد أحواله، وقيل: المعنى لست عليهم بمسيطر حتى تكرههم على الإيمان، وهذا منسوخ بآية السيف.

ثم استثنى الله عز وجل فقال: (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) [23]، أي: مَن تولَّى عن الوعظ والتذكير فمصيره: (فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ) [24]، وهو عذاب جهنم الدائم.

ثم قال: (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ) [25]، أي: إلى الله رجوعهم بعد الموت، (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) [26]، أي: جزاؤهم بعد رجوعهم إلى الله بعد البعث، فهذه السورة الكريمة تتحدث عن القيامة وأهوالها، والأدلة على وحدانية رب العالمين، وقدرته الباهرة.

عباد الله: ما أعظم كتاب الله! وما أعظم أن نتكلم عنه! وما أعظم أن نتدبر معانيه ونعمل بها! وما أعظم هاتين السورتين التي كثيراً ما يقرأ بهما الإمام في صلاة الجمعة، وصلاة العيدين، وغيرها!.

وما ذكرناه معانٍ مختصرة، ومَن أراد الاستزادة فليعد إلى كتب التفسير ففيها مزيد إيضاح وبيان، وفقنا الله وإياكم للعمل بكتابه الكريم، إنه سميع قريب مجيب الدعاء.

وصلُّوا وسلِّموا -عباد الله- على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي