وقد جعل الله عز وجل لكسْبِ هذا المطلب، والوصول إلى هذه الغاية العظيمة، جعَل لها الربُّ أسباباً دينية، وأسباباً طبيعية، وأسباباً عملية، ولا يمكن اجتماع الأسباب كلها إلا للمؤمنين؛ وأما مَن سِواهم من البشر فإن راحةَ القلب، وطمأنينة القلب، والحياة السعيدة في هذه الدار -وإن حصَلت لغير المؤمنين من بعض الوجوه- فإنها لا يمكن أن تحصُل لهم على الوجه الأكمل والأتم؛ بل يفوتهم من جوانب السعادة ..
الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلْقَه ثم هدى، خلق الإنسان في أحسن تقويم، وهداه إلى الطريق المستقيم، فمنهم من سلكه ففاز بالجنات والنعيم، ومنهم فريقٌ تنكَّبَهُ فباء بالخسران والجحيم.
أحمده -سبحانه- وهو للحمد أهل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله، عباد الله، واعلموا -رحِمَكُمُ اللهُ- أنَّ المـــُوفَّقَ في هذه الدار من هُدِيَ إلى الصراط المستقيم، والتزم طاعة الرب العظيم.
أيها الإخوة المسلمون: إنَّ مِنْ أعظم المطالب، وأسمى المقاصد التي يسعى جميع الناس لتحصيلها وكسبها سعيَهم لراحة القلب، وتحصيل سروره، وزوال هُمُومِه وغمومه.
هذا المطلب العظيم الذي هو أمنيةُ المتمنِّين، وغاية الطالبين، وما ذاك إلَّا لأن به تحصل الحياة الطيبة، ويتم السرور والابتهاج.
وقد جعل الله -عز وجل- لكسْبِ هذا المطلب، والوصول إلى هذه الغاية العظيمة، جعَل لها الربُّ أسباباً دينية، وأسباباً طبيعية، وأسباباً عملية، ولا يمكن اجتماع الأسباب كلها إلا للمؤمنين؛ وأما مَن سِواهم من البشر فإن راحةَ القلب، وطمأنينة القلب، والحياة السعيدة في هذه الدار -وإن حصَلت لغير المؤمنين من بعض الوجوه- فإنها لا يمكن أن تحصل لهم على الوجه الأكمل والأتم؛ بل يفوتهم من جوانب السعادة ووجوهها ما هو انفع وأثبت لهم في الدنيا والآخرة.
ولا شك -أيها الإخوة المسلمون- أنَّ من أعظم الأسباب التي يحصِّل بها المرء السعادة الإيمانَ والعملَ الصالح، بل لا يمكن أن تحصل سعادة حقيقة للعبد بدونهما، يقول الله -عز وجل-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل:97]؛ فوعَد -سبحانه-، ووعده الحق الذي لا يخلف، مَن جمع بين الإيمان والعمل الصالح وعده الله بالحياة الطيبة في هذه الدار، وبالجزاء الحسَن في هذه الدار، ودار القرار.
ومردّ ذلك ومبعثه أن المؤمنين بالله الإيمان الصحيح، الإيمان المثمر للعمل الصالح، الإيمان المصلح للقلوب والأخلاق والدنيا والآخرة، أن هؤلاء المؤمنين معهم أصول يتلقون بها جميع ما يرد عليهم في حياتهم من صور الفرح والحزن، فيتلقون المحابّ والمسارّ إن حصلت لهم يتلقونها بقبولها، وشكر الله عليها، واستعمالها فيما ينفع؛ فيحصل لهم بذلك ابتهاج بها، وطمعٌ في بقائها وبركتها، ورجاء لثوابها، ورجاء ثواب شكرها أعظم من المسرَّة في ذاتها.
وإذا حصل للمؤمن مكروه في حياته من هَمٍّ وغَمٍّ قاوَمه بما يمكنه من مقاومة، واستعان بالصبر الجميل على ما لا يمكنه مقاومته، فيحصل له بذلك من الصبر واحتساب الأجر ما تضمحل معه المكاره، وتتلاشى معه الغموم والمكدِّرات.
وقد عبَّر الرسولُ الكريمُ -صلَّى الله عليه وآله وسلم- عن ذلك بقوله: "عجَباً لأمْرِ المؤمن! إن أمره كله له خير، إن أصابتْه سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وليس هذا لأحد إلا للمؤمن".
فأخبر -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث أن المؤمن وحده يتضاعف خيره وثمرات أعماله في كل ما يدركه في هذه الدنيا من السرور والمكاره، وهذا بخلاف الكافر أو ضعيف الإيمان، فإنهما يلاقيان المسارَّ بالأشَر والبطر والطغيان، فيُحدث لهما ذلك هلعا وخوفا من فقدها، وجشعا في السعي للازدياد منها.
كما أنهما يتلقيان المكاره والأحزان بقلق وفزع وخوف وضجر، فلا تسأل عما يُحدث لهما ذلك في حياتهما من شقاء وتعاسة، وأمراض فكرية ونفسية، وكل هذا مُشاهد بالتجربة، ترى الفرق واضحاً بين المؤمن والكافر، إن الكافر -وإن اشترك مع المؤمن في جلب الشجاعة المكتسبة، وفي الغريزة التي تلطِّف المخاوف وتهونها- إلا أن المؤمن يتميز بقوة إيمانه، بقوة صبره وتوكُّله على خالقه، واعتماده على مولاه، واحتسابه لثواب الله -عز وجل-، مما لا يكون مثلها عند غير المؤمنين.
أيها الإخوة في الله: إنَّ مِن الأسباب التي يحصِّل بها العبد سعادة الحياة وراحة النفس وطمأنينة القلب واستقراره الإحسانَ إلى خلق الله بالقول والفعل، فبالإحسان يدفع الله عن البَر والفاجر، والمؤمن والكافر.
يدفع الله بالإحسان إلى الخَلق الهموم والغموم، ولكن للمؤمن من ذلك من إحسانه لخلق الله له القدح المعلى في دفع الهموم والغموم وزوال الكروب، له من ذلك القدح المعلى والنصيب الأوفى؛ لأنه يتميز عن غيره بأنه -أي المؤمن- إذا أحسن إلى الخَلق فإن إحسانه إليهم صادر عن إخلاصه لمولاه واحتسابه لثوابه وأجره، فيهون الله عليه بذل المعروف لما يرجوه من الخير، ويدفع عنه المكاره بإخلاصه واحتسابه.
يقول الله -عز وجل- مبيِّناً في كتابه الكريم أن الإحسان إلى الخلق سببٌ لدفع الهموم والغموم: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:114]، فأخبر -سبحانه- أن هذه الأمور كلَّها التي ذكرها في هذه الآية الكريمة كلها خير ممن صدرت منه، مؤمنا كان أو كافرا، والخير يجلب الخير ويدفع الشر؛ لكن المؤمن المحتسب يؤتيه الله أجرا عظيما؛ ومن جملة الأجر العظيم زوال همومه، وزوال غمومه، وتفرُّق أقداره، وسَعة صدره، وطمأنينة قلبه.
ومن أكبر الأسباب وأعظمها في تحصيل السعادة وانشراح الصدر وطمأنينة القلب الإكثار من عبادة عظيمة لا تستغرق من المسلم شيئا وجهدا عظيما، ألا وهي الإكثار من ذكر الله تعالى؛ فإن لذلك تأثيرا عجيبا في انشراح الصدر وطمأنينته، وزوال غمه وهمه، (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد:28].
ومما يُعِين المسلم على تحصيل السعادة، وهو أمرٌ يغفل عنه كثيرٌ من الناس، التحدث بنِعَمِ الله الظاهرة والباطنة، أو التحدث بجُمَلٍ منها؛ فإن معرفتها والتحدث بها يدفع الله بها عن العبد الهم والغم، ويحث العبد على الشكر الذي هو أرفع المراتب وأعلاها، حتى ولو كان العبد في حالة فقر أو مرض أو غيرهما من أنواع البلايا التي تصيب الناس في الدنيا جميعا.
فإنه إذا قابل بين نِعَمِ الله عليه التي لا تحصى ولا تعدُّ وبين ما أصابه من مكروه من فَقر أو مرض، لم يكن بين المكروه الذي أصابه والنعم العظيمة نسبة أو مقارنة، بل إن المكروه والمصيبة إذا أدى فيها وظيفة الصبر والرضا والتسليم، هانت عليه وطأتها، وانقلبت نعمةً أخرى من الله يرفع بها درجته، ويحط عنه خطيئته، فتنسيه حلاوةُ الأجر مرارةَ الصبر على المصيبة والمكروه.
ومن أنفع الأشياء في هذا ذلك استعمال ما أرشد إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ؛ فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ".
إن العبد إذا نصب بين عينيه هذا المــَلْحَظ الجليل، رآه يفوق غيره، رأى نفسَه يفوق غيره من الخلق في العافية وتوابعها، وفي الرزق وتوابعه، مهما بلغت به الحال في المرض والفقر، فيزول بذلك قلقه وهمه، ويذهب غمه وكدره، ويزداد سروره واغتباطه بنعم الله العظيمة التي فاق فيها غيره من الناس ممن هم دونه.
وكلما طال تأمل العبد في نِعَم الله الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، رأى العبد المؤمن أن ربه الكريم قد أعطاه خيراً كثيراً، ودفع عنه شروراً متعددة، وصدق الله -عز وجل- إذ يقول: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [إبراهيم:34].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفَعَنِي وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه، وأشهد أن محمدا عبدُه ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلَّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع جماعة المسلمين، ومن شذ عنهم شذ في النار.
أيها الإخوة في الله: اتقوا الله -عز وجل- بفعل أوامره، واجتناب نواهيه يحصل لكم ما وعدكم به -سبحانه- من الخير العظيم، والنعيم المقيم.
أيها الإخوة المسلمون: إنَّ مِن أعظم الأسباب الموجبة للسرور وزوال الهموم والغموم السعيَ في إزالة الأسباب الجالبة للهموم والغموم، والسعي في تحصيل الأسباب الجالبة للسرور، وذلك بنسيان ما مضى على الإنسان من المكاره التي لا يمكنه ردها، ومعرفته أن اشتغال فكره بذلك من باب العبث والمحال؛ فيجاهد قلبه على التفكر فيها، ويجاهد قلبه عن القلق لما يستقبله مما يتوهمه في مستقبل حياته من فَقْرٍ أو خوف أو ضعف أو غيرها من المكاره التي يتخيلها في مستقبل حياته.
إنَّ المستقبل وما يقع فيه من خير وشر مجهول للعبد حتى يقع، فهو بيد العزيز الحكيم، ليس بيد العباد منه شيء إلا السعي في تحصيل خيراته، ودفع مضراته؛ فيعلم العبد المؤمن أنه إن صرف فكره عن قلقه من أجل مستقبل أمره، واتكل على ربه في إصلاحه، واطمأن إليه في ذلك، إذا فعل العبد ذلك اطمأن قلبه، وصلحت أحواله، وزال عنه همه وقلقه.
ومما يعين المسلم على ذلك ملازمة الدعاء النبوي الذي أرشد إليه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي...".
وكلما تخلق المسلم بهذه الأخلاق، وعمل بهذه الأسباب، كلما قوي إيمانه، وطابت حياته، وانشرح صدره، وتنحت عنه الغموم والهموم، وزالت الكآبة والتعاسة، وعاش حياة مطمئنة، حياة هنيئة.
أيها الإخوة المسلمون: إن ما نسمعه بين فترة وأخرى ونقرؤه على صفحات الجرائد من حوادث انتحار، وقتل نفس، مرد ذلك في الحقيقة البعد عن الأسباب الشرعية الجالبة للسعادة والحياة الطيبة والسرور، الطاردة للهموم والغموم.
وما أعظمها –والله!- من جريمة حين يقدم المسلم على قتل نفسه تخلصا من ضغوط الحياة كما يزعم، إنها لجريمة نكراء، وفعلة شنعاء، فنسأل الله -عز وجل- أن يلهمنا وإخواننا المسلمين رشدنا، وأن يقينا شر نفوسنا، وأن يوفقنا للعمل بما يرضيه، إن ربي رحيم ودود.
هذا وصلُّوا وسلِّموا -رحمكم الله- على نبيكم محمد بن عبد الله، فقد أمركم ربكم -عز وجل- بذلك في كتابه، فقال -عَزَّ مِن قائل-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك علي نبينا محمد...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي