استقبال رمضان والتهنئة بشهر رمضان

خالد بن سعود الحليبي

عناصر الخطبة

  1. منة الله على الأمة بشهر رمضان
  2. منزلة شهر رمضان وفضله وفوائده
  3. استعداد أهل الفساد لشهر رمضان
  4. مسؤولية أولياء الأمور تجاه أسرهم في رمضان

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي جعل شهر رمضان موسمًا للطاعات، وأفاض على الصائمين بنعم الرضوان والنفحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله تفرد بالكمال والتمام، وتقدس عن مشابهة الأنام، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فاتقوا الله -عباد الله-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

أيها الإخوة المؤمنون: قريبًا يطل علينا هلال شهر عظيم، شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ [البقرة: 185].

نسأل الله -تعالى- أن يبلغنا صيامه وقيامه، وأن يتقبل ذلك كله منا إنه سميع مجيب.

وإني لأهنئكم كما أهنئ نفسي وجميع أحبابي المسلمين بهذه المنة العظيمة، ولِمَ لا وقد روى أَبو هُرَيْرَةَ -رضيَ الله عنه- أنه كَانَ رَجُلَانِ مِنْ بَلِيٍّ مِنْ قُضَاعَةَ، أَسْلَمَا مَعَ النَّبِيِّ -صَلى الله عليه وسلم- وَاسْتُشْهِدَ أَحَدُهُمَا وَأُخِّرَ الْآخَرُ سَنَةً، قَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ: فَأُرِيتُ الْجَنَّةَ فَرَأَيْتُ فِيهَا الْمُؤَخَّرَ مِنْهُمَا أُدْخِلَ قَبْلَ الشَّهِيدِ، فَعَجِبْتُ لِذَلِكَ فَأَصْبَحْتُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوْ ذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “أَلَيْسَ قَدْ صَامَ بَعْدَهُ رَمَضَانَ وَصَلَّى سِتَّةَ آلَافِ رَكْعَةٍ أَوْ كَذَا وَكَذَا رَكْعَةً صَلَاةَ السَّنَةِ” (رواه الإمام أحمد وحسنه الألباني).

وفي الحديث الصحيح عن رسولنا -صَلى الله عليه وسلم-: “أتاكم شهر رمضان، شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تُفتح فيه أبواب السماء، وتُغلق فيه أبواب الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرم خيرها فقد حرم“، وفي رواية ينادي مناد: “يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر” (رواه أحمد وصححه الألباني)، وفي حديث آخر: “إن هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حرمها فقد حرم الخير كله، ولا يحرم خيرها إلا محروم” (رواه ابن ماجة وصححه الألباني)، ويقول صَلى الله عليه وسلم-: “إن لله -تبارك وتعالى- عتقاء (يعني من النار) في كل يوم وليلة (يعني في رمضان)، وإن لكل مسلم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة” (رواه الطبراني في الأوسط وحسنه الألباني).

وقد امتن الله علينا بفرضية الصوم فيه، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183].

دعا رسول الله -صَلى الله عليه وسلم- أصحابه يومًا إلى حضور المنبر، فلما حضروا ارتقى درجة فقال: “آمين“، فلما ارتقى الدرجة الثانية قال: “آمين“، فلما ارتقى الدرجة الثالثة قال: “آمين“، فلما نزل قال الصحابة رَضي الله عنه-: لقد سمعنا منك اليوم شيئًا ما كنا نسمعه، قال: “إن جبريل عرض لي فقال: بعُد من أدرك رمضان فلم يغفر له، قلت: آمين، فلما رقيت الثانية قال: بعُد من ذكرتَ عنده فلم يصل عليك، فقلت: آمين، فلما رقيت الثالثة قال: بعد من أدرك أبويه الكبر عنده أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، قلت: آمين” (رواه الحاكم، وقال: “صحيح الإسناد”).

رمضان شهر البركات، نهاره صيام، وليه قيام، والمؤمن فيه دائم التعلق بالله، قد خفف عن قلبه أثقال الأرض، وتبعات الدنيا، وألجم الصوم شهواته ونزواته، وتعلق بالمسجد، فإذا دخله لم يرد الخروج منه إلا لحاجاته، وإذا خرج فإن قلبه يبقى معلقًا به.

وما أجل هذا الوصف الندي الذي ارتبط بك -أخي المسلم- في الشهر الكريم الصائم، بكل ما تحمل هذه الكلمة من أحاسيس وإيحاءات.

صائم طاعة لله -تعالى-، وليس رياء ولا سمعة، فما أبعد الصوم عن الرياء؟ ألم يقل المولى -جل وعلا- في الحديث القدسي: “كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ” (رواه الشيخان وغيرهما).

صائم تعبد لله -تعالى-، وأي عز أعظم من ذلك:

ومما زادني شرفا وتيها *** وكدت بأخمصي أطأ الثريا

دخولي تحت قولك يا عبادي *** وأن صيرت أحمد لي نبيا

صائم تستشعر بها أنك داخل في عبادة تستمر ساعات طوالاً، لا تعيقك عن نشاط، ولا تمنعك من راحة، بل تضفي على جوارحك خشوعًا، وعلى شخصك وقارًا، وعلى فؤادك راحة كم كنت تنشدها، وأنت تشق بحر الحياة المتلاطم.

الصيام مدرسة روحية لتهذيب النفس، وتوجيه السلوك، وتدريب الجسد والروح على العزائم، لا يكون ذلك بقوة الأمر والنهي، ولكن بالحب والطاعة المختارة، بل بالشوق الذي لا حدود له، فقبل أن يفد الشهر الكريم بأشهر، تتطلع النفوس المؤمنة بلهف شديد إلى هلال رمضان، فإذا هلَّ بالبركة والأمان تبادل المسلمون التهاني بينهم، وكأن العيد قد حلَّ قبل أوانه، فيا طيب روائح تلك التباريك الفرحة وهي تعطر الأفواه الصائمة، والمجالس العامرة، مصحوبة بابتسامة الرضا والقبول والتسليم.

عندها ترسخ في نفس المسلم عزيمة ثابتة لا يتطرق إليها أدنى تردد: أن تستقيم على هدى الله -تعالى- وهدي رسوله -صَلى الله عليه وسلم- في كل شؤون هذه العبادة، مهما تعارضت مع الهوى الشخصي، والرغبة الخاصة، وهذا هو ميدان ترويض مهرة النفس الشموس، على خُلق الإرادة، وتحقيق المراد دون ضعف أو تخاذل، وهو درس لا تقتصر حاجتنا إليه في رمضان فقط، بل في جميع لحظات حياتنا حتى نلقى ربنا -تعالى-.

فما أحوجنا إلى الإرادة الراسخة حين تعرض علينا رشوة مغرية لإبطال حق أو إحقاق باطل؟ وما أحوجنا إلى الإرادة القوية حين ندعى إلى مجلس فحش، أو مصاحبة رفقة سوء؟ وما أحوجنا إلى وقفة شامخة حين تستذلنا إيماءة من شهوة دنيئة؟!

وإذا كنا أعزة حقًّا في داخل نفوسنا، فلماذا نخجل من إعلان إرادتنا العليا تلك، وتأبّينا على كل المراودات السلوكية الهابطة، بصوت مسموع؟!

لماذا لا نصرخ بكل شجاعة في وجه مفاتيح الشر؟

لا، لن نسمح لكم أن تقتربوا من سياج مروءاتنا.

لا، لن نسمح لأنفسنا أن تكون فرائس سهلة لأنيابكم الشرسة.

لا، لن نسمح لأعصابنا وبطوننا أن تستجرنا إلى الهاوية بعد أن أعلى الله قدرنا.

إننا حين نرفض كل دعوة إلى انحراف، فإننا نرتفع بمستوى إنسانيتنا إلى السمو الذي أراده الله -تعالى- لها، وهو ما نستشفه من قول الله –تعالى-: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ﴾ [محمد: 12]، فتساوي القدر بين الإنسان والبهيمة في هذه الآية ليس لأنهما يشتركان في الحاجة إلى الطعام، ولكن لفقدان ضابط الإرادة عند الإنسان، فالكافر حين عرض عليه الإيمان اختار غيره، وحين عرض عليه ضبط سلوكه بما يصلح شأنه، وليس غير خالقه يقدر أن يختار له: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14]، ولكنه أبى إلا أن يكون كالبهيمة لا حدود لحرية إرادته.

فلله الحمد كله أن جعلنا مسلمين، وله الحمد حين من علينا أن نثني ركبنا بين يدي رمضان نتعلم منه شيئا مما يعيننا على كسب إرادة تحررنا من قيود شهواتنا، مختارين حامدين شاكرين.

وله الحمد أن بلغنا شهرًا “من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه“.

عباد الله: التائب من الذنب كمن لا ذنب له، توبوا إلى الله واستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على عظيم فضله وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فيا أيها الأحبة: فكما أن أهل التقى والصلاح يتأهبون لشهر رمضان المبارك بما هم أهله، فإن أهل الفساد والإفساد يستعدون له بما هم أهله، فهم يحشدون له كل إمكاناتهم، بل إنهم يستعدون له منذ أن ينقضي في عامه لمثيله في العام الذي يليه.

وها أنت ذا ترى كيف بدأت بعض الصحف والمجلات والمحطات التلفازية تفصل فيما سوف تقوم بتقديمه عبر فضائياتها المدمرة عربيها وأجنبيها على السواء، وهي عروض تشي بعمق الدراسة لبعض الشرائح في مجتمعات العرب والمسلمين، فتحاول أن تقدم كل ما يصل بسرعة إلى التأثير على سلوك الفرد والمجتمع؛ حتى تستطيع أن تؤثر فيه، فتزلزل عقيدته، وتهز أفكاره، وتغيّر سلوكه، وتلهيه عن طاعة ربه في موسم عبادة عظيمة، هو في أمس الحاجة إلى نفحاتها؛ ليغسل صحائف لطّخها بسواد المعاصي والذنوب طوال العام، وكلنا ذوو خطأ، وكلنا أصحاب ذنوب.

أيها الأحبة: ليس عجبي من قوم ضلوا عن طريق الحق، ووقفوا حياتهم على إضلال الخلق، وصدهم عن سبيل الله وصراطه المستقيم، فذلك شأن الشيطان وحزبه: ﴿أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [المجادلة: 19]، ولكن عجبي من أولياء الأمور في البيوت المسلمة، الآباء والأمهات ومن ينوب منابهم، كيف لا يقفون سدًّا منيعًا أمام بوابات المرض والرسوب والجوع والعري أن تفتح على بيوتهم، ويفتحون أبواب المنكر والبغي والفجور على أولادهم، ناسين أو متناسين أن صلاح الدين أولى من صلاح الدنيا، وأن فساد الخلق والدين نتيجته عقوق الوالدين، وفشل الأولاد، وتعلق بالمخدرات والأفلام والأغاني والمنكرات، وضياع أيّ ضياع للدين والدنيا معًا.

أين وقفة الآباء الراشدين مع أولادهم مع إطلالة رمضان، يعلّمونهم فضله، ويدخلون عليهم السرور بحلول وقته، ويشرحون لهم ما أعده الله للصائمين فيه.

أليس جديرًا بنا -كما نهرول للمحلات التجارية لنشتري ما نحتاجه من المواد الغذائية وما لا نحتاجه لإفطارنا- أن نعد برنامجًا يوميًّا لأولادنا وزوجاتنا، بل لآبائنا إذا كانوا في بيوتنا، يشتمل على قراءة القرآن الكريم، وتدبر معانيه، وقراءة في بعض الأحاديث الشريفة والسيرة النبوية العطرة، كما يشمل زيارة الأرحام، والنزهات اليسيرة التي لا تخلو من ذكر لله، وتذكير بالطاعات والنوافل.

أليس جديرًا بنا أن نتابع حضورهم للصلوات في المساجد، بدل أن يجلس الكبار في المسجد يمسكون بالمصاحف، وأولادهم تحت بطانياتهم قد فاتتهم الصلوات تلو الصلوات.

أليس مريرًا أن يتخلى الأب عن أمانته ومسؤوليته تجاه أولاده، وخصوصًا في هذا الموسم الكريم، فنراه يهرب من بيته إلى أصحابه في الديوانيات والاستراحات المليئة بما يغضب الله، بعد أن يكون قد وضع الحطب على النار، حيث يلقي زوجته في السوق، ويسلم أولاده وبناته بين يدي القنوات الفضائية، تنهشهم الشهوات المغرية، والفتن المضلة “كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته” (رواه البخاري).

رمضان مدرسة للتعلم والتعليم، رمضان فرصة للتوبة والإنابة، رمضان محطة للتزود بالطاعة والنوافل في زحمة غفلات الحياة في سائر العام، رمضان خلوة مع الخالق، وبعد عن بهارج الحياة.

شعارات نتمنى أن نرفعها في وجوه المفسدين الذين أعدوا العدة لحربنا في شهرنا المبارك بكل فتنتهم ومكرهم عبر شاشات تربعت في أعز مكان في بيوتنا، جلبناها نحن بأيدينا.

اللهم نعوذ بك أن نكون ممن ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ﴾ [الحشر: 2].

فلنعظم الله في نفوسنا، ولنكرم ضيفنا الذي يطرق الأبواب بالطاعات، والبعد عن المعاصي مهما كانت حبيبة لنا، عسى الله أن يعمنا بعظيم رحمته وواسع مغفرته وجميل حلمه، إنه جواد كريم.

اللهم بلغنا رمضان، وبلغنا فيه الصيام والصدقة والقيام، وسائر الأعمال الصالحة، وتقبلها منا، واحمنا واحم ذرارينا وأمة الإسلام من كل حاقد يريد بنا الشر.

اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر إخواننا المجاهدين، وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين.

اللهم آمنا في أوطاننا، واحفظ علينا ديننا وأمننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، وارزقهم البطانة الصالحة المصلحة، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك.

اللهم فك أسرى المسلمين، واقض الدين عن المدينين، واهد ضالهم، وهيئ لأمة الإسلام أمرًا رشدًا يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.

اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين، وعنا معهم برحمتك وفضلك ومنك يا أكرم الأكرمين.


تم تحميل المحتوى من موقع