سورة الحاقة

مسفر بن سعيد بن محمد الزهراني
عناصر الخطبة
  1. تعريف بسورة الحاقة .
  2. تفسيرها .
  3. تلخيص لمحتواها .

اقتباس

الحاقة هي القيامة؛ فالأمر يحق فيها، وهي الحق في نفسها من غير شك، وأعاد الله سبحانه الاستفهام عنها لتعظيمها، أي: أيُّ شيءٍ هي في حالها أو صفاتها؟ وما أعلمك يا محمد ما هي؟ أي: كأنك لست تعلمها إذ لم تعاينها وتشاهد ما فيها من الأهوال، فكأنها خارجة عن دائرة عِلم المخلوقين ..

الحمد لله رب العالمين، بيَّن لنا أهوال يوم القيامة لنحذر منها، ونستعد لها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه واتبع هداه يوم الدين.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل- في السر والعلن والعمل بكتابه الكريم، وسنتحدث في هذا اليوم عن سورة الحاقة: (الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ) [الحاقة:1-3].

الحاقة هي القيامة؛ فالأمر يحق فيها، وهي الحق في نفسها من غير شك، وأعاد الله سبحانه الاستفهام عنها لتعظيمها، أي: أيُّ شيءٍ هي في حالها أو صفاتها؟ وما أعلمك يا محمد ما هي؟ أي: كأنك لست تعلمها إذ لم تعاينها وتشاهد ما فيها من الأهوال، فكأنها خارجة عن دائرة عِلم المخلوقين.

وسورة الحاقة هي السورة التاسعة والستون في ترتيب المصحف الشريف، وهي اثنتان وخمسون آية، وهي مكية، قال تعالى: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ) [4]، أي بالقيامة، سميت بذلك لأنها تقرع الناس بأهوالها.

(فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) [5]، ثمود: هم قوم صالح، والطاغية الصيحة التي أهلكهم الله بها، وهي التي جاوزت الحد، (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ) [6]، عاد: قوم هود، والريح الصرصر: هي الشديدة البرودة، مأخوذة من الصِّر، وهو البرد، وقيل هي الشديدة الصوت، وقيل الشديدة السموم، (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا)، أي: سلَّطَها عليهم، والتسخير استعمال الشيء بالاقتداء، والحسوم: التتابع، فإذا تتابع الشيءُ ولم ينقطعْ أوَّلُه عن آخره قيل له الحسوم.

والمعنى: أهلكتهم واستأصلتهم ولم تبق منهم أحداً، قيل: حسمت الأيام والليالي حتى استوفتها؛ لأنها بدأت بطلوع الشمس من أول يوم وانقطعت بغروب الشمس من آخر اليوم الثامن، لذلك زادت الأيام عن الليالي بيوم واحد، (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٌ) [7]، أي: كأنهم أصول نخل ساقطة أو بالية، قيل: إنما قال خاوية لأن أبدانهم خلت من أرواحهم مثل النخل الخاوية، (فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ) [8]؟ أي: من فرقة باقية، أو من نفس باقية. قال ابن جرير: أقاموا سبع ليالي وثمانية أيام أحياء في عذاب الريح، فلمَّا أمسَوا في اليوم الثامن ماتوا، فاحتملتهم الريح فألقتهم في البحر.

(وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ) [9]، أي: من الأمم الكافرة فرعون وقومه، والمؤتفكات هي قرى قوم لوط، أي جاءت بالفعلة الخاطئة، والمراد بها بالشرك والمعاصي، (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ)، أي: فعصت كل أُمَّةٍ رسولها المرسل إليها، (فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً) [10]، أي: فأخذهم الله أخذةً بالغةً في الشدة إلى الغاية. ورابية: مضاعفة وزائدة على ما أخذت به الأمم الأخرى.

(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ)، أي: تجاوَزَ في الارتفاع والعلو، وذلك في زمن نوح -عليه السلام-، لما أصر قومه على الكفر وكذبوه، (حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ) [11]، أي: في أصلاب آبائكم، والجارية سفينة نوح، سميت جارية لأنها تجري في الماء.

(لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً)، أي: لنجعل هذه الأمور المذكورة يا أمَّةَ محمد عبرة وعظة تستدلون بها على عظيم قدرة الله، وبديع صنعه، (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) [12]، أي: تحفظها بعد سماعها أذن حافظة لما سمعت.

(فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ) [13]، هذا شُروعٌ في بيان الحاقة، وكيفية وقوعها، بعد بيان شأنها بإهلاك المكذبين؛ قال عطاء: يريد النفخة الأولى، (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً) [14]، أي: رُفِعَت الأرض والجبال من أماكنها، وقلعت من مقارِّها بقدرة الله، فضرب بعضها ببعض حتى تتفتت وتصير كثيباً مهيلاً عليها، (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ) [15]، أي: قامت القيامة الكبرى.

(وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ) [16]، أي: انشقَّت بنزول الملائكة منها، فهي في ذلك اليوم ضعيفة مسترخية، (وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) [17]، أي: جنس الملَك على أطرافها وجوانبها، ويحمل عرش الرحمن فوق رؤوسهم يوم القيامة ثمانية، قيل: ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله -عز وجل-.

(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) [18]، أي: تعرض أعمال العباد على الله لحسابهم لا يخفى على الله سبحانه من ذواتكم وأقوالكم وأفعالكم خافية كائنة ما كانت، ثم بدأ الله سبحانه بذكر حال السعداء فقال: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ)، أي: أُعطِيَ كتابه الذي كتبته الحفظة عليه "كتاب أعماله" بيده اليمنى، (فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ) [19]، يقول ذلك سروراً وابتهاجاً، (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ) [20]، أي: علمت وأيقنت في الدنيا على أني محاسب في الآخرة، (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ) [21]، أي: في عيشة مرضية لا مكروهة.

(فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ) [22]، أي: مرتفعة المكان؛ لأنها في السماء، أو مرتفعة المنازل، أو عظيمة في النفوس، (قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ) [23]، أي: أن ثمارها قريبة ممن يتناولها من قائم أو قاعد أو مضطجع، والقطوف: ما يقطف من الثمار، (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) [24]، أي: كلوا أكلا وشربا هنيئاً لا تكدير فيه ولا تنغيص بسبب ما قدمتم من الأعمال الصالحة في الدنيا، وقال مجاهد: هي أيام الصيام.

ثم أعقبه بذكر حال الأشقياء فقال: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ) [25]، أي: يقول مَن أعطي كتابه بشماله حزناً وكربا لما رآه فيه من سيئاته: ليتني لم أعط كتابيه، (وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ) [26]، أي: لم أدْرِ أي شيء حسابي؛ لأنه كله وبال عليه، (يَا ‎لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ) [27]، أي: ليت الموتة التي متها كانت القاضية ولم أحيَ بعدها، (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ) [28]، أي: لم يَدْفَع عني مالي من عذاب الله شيئاً، (هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) [29]، أي: هلَكَتْ عَنِّي حُجَّتي، وضلت عني.

وحينئذ يقول الله -عز وجل-: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ) [30]، أي: اجمعوا يده إلى عنقه بالأغلال، (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) [31]، أي: أَدْخِلوه الجحيم، والمعنى: اصلوه بالجحيم، وهي النار العظيمة، (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ) [32]، السلسة: حِلَقٌ مُنْتَظِمَةٌ وذَرْعُها طولُها، قيل: كل ذراع سبعون باعاً، قال مقاتل: لو أن حلقة منها وُضعت على ذروة جبل لذابت كما يذوب الرصاص، ومعنى (فَاسْلُكُوهُ): فاجعلوه فيها.

لماذا؟ التعليل أو السبب قوله تعالى: (إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) [33-34]، أي: لا يصدق بالله العظيم ولا يحث على إطعام المسكين من ماله، أو لا يحث الغير على إطعامه، (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ) [35]، أي: ليس له يوم القيامة في الآخرة قريب ينفعه أو يشفع له؛ لأنه يفر القريب من قريبه، (وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) [36]، أي: وليس له طعام يأكله إلا من صديد أهل النار وما يتفضل من أبدانهم من القيح والصديد، (لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ) [37]، صفة لغسلين، والمراد أصحاب الخطايا، وأرباب الذنوب.

(فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ) [38-39]، هذا رَدٌّ لكلام المشركين، كأنه قال: ليس الأمر كما يقولون، فأقسم بما تشاهدونه وما لا تشاهدونه، (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) [40]، أي: إن القرآن لَتلاوة رسول كريم، وهو محمد -صلى الله عليه وسلم-، (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ) [41]، أي: ليس من أصناف الشعر كما تزعمون بسبب قلة إيمانكم، (وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) [42]، أي: إنه ليس من الكهانة، وإنه أمر آخَر لا جامع بين هذا وهذا، فقليلاً ما تَذَكَّرُون، أو: لا تذكرون أصلا! (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [43]، أي: من عند الله -عز وجل-.

(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ) [44]، أي: لو تقوَّلَ علينا ذلك الرسول، وهو محمد -صلى الله عليه وسلم-، أو جبريل -عليه السلام-، والتقوُّل: التكلف، والمعنى: لو تكلف ذلك وجاء به من جهة نفسه، والأقاويل: جمع أقوال، والأقوال: جمع قول، (لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) [45]، أي: بيده اليمين، (ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) [46]، الوتين: عرق يجري في الظهر حتى يتصل بالقلب، وهو تصوير لإهلاكه بما يفعله الملوك بمن يغضبون عليه، (فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ) [47]، أي: ليس منكم أحد يحجزنا ويدفعنا عنه.

(وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) [48]، أي: إن القرآن لتذكرة لأهل التقوى؛ لأنهم المنتفعون به، (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ) [49]، أي: يكذب بعضكم بالقرآن، فنحن نجازيه على ذلك، وفي هذا وعيد شديد، (وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ) [50]، أي: وإن القرآن لحسرة وندامة على الكافرين يوم القيامة عند مشاهدتهم لثواب المؤمنين، (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) [51]، أي: وإن القرآن حق فلا يحوم حوله ريب، ولا يتطرق إليه شك، (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [52]، أي: نَزِّهْهُ عما لا يليق به من السوء والنقائص، واشكره على ما أعطاك من النعم العظيمة، التي من أعظمها نعمة القرآن.

عباد الله: هذه لمحة عن بعض معاني سورة الحاقة، أسأل الله أن ينفعنا بمواعظها وعبرها، وأن ينفعنا بهدي كتابه، وسنة خاتم المرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، أحمده سبحانه وأشكره، بين لنا طريق النجاة من النار، وطريق الوصول إلى جنات النعيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

عباد الله: إن الحاقة هي القيامة، سميت حاقة لأنها حق مقطوع بوقوعها، وقد اهتمت سورة الحاقة بتثبيت العقيدة والإيمان، تحدثت عن القيامة وأهوالها، والساعة وشدائدها، وتحدثت عن المكذبين من الأمم السابقة، وما جرى لهم من العذاب الشديد، مثل قوم عاد وثمود وقوم لوط وفرعون وقوم نوح وغيرهم من الطغاة المفسدين في الأرض.

كما تناولت الوقائع والفجائع التي تكون عند النفخ في الصور، النفخة الأولى، من خراب العالم، واندكاك الجبال، وانشقاق السماوات؛ ثم ذكرت حال السعداء وحال الأشقياء في ذلك اليوم المفزع، حيث يُعْطَى المؤمن كتابه بيمينه، ويعطى الكافر كتابه بشماله، ويلقى المؤمن الإكرام، ويلقى المشرك العذاب، وصِدق ما جاء به من الله، ورد افتراءات المشركين الذين زعموا أن القرآن الكريم سحر أو كهانة.

ثم ذكرت البرهان القاطع على صدق القرآن، وأمانة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في تبليغه الوحي، كما نزل عليه بذلك التصوير الذي يهز القلب هزاً، ويثير في النفس الخوف والفزع من هول الموضوع.

ثم ختمت السورة الكريمة بتمجيد القرآن الكريم، وبيان أنه رحمة للمؤمنين، وحسرة على الكافرين، نسأل الله أن يرحمنا بالقرآن العظيم، وأن نكون ممن يستمع القول فيتبع أحسنه إنه سميع قريب مجيب الدعاء.

وصلُّوا وسلِّموا -عباد الله- على خاتم رسل الله نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي