وفي إخفاء خاتمة العبد حكمة بالغة وعظيمة، وذلك أن العبد إذا عرف حسن خاتمته أصابه التواكل والعجب والكسل وفتور الهمة، وكذلك إذا عرف العبد سوء خاتمته أصابه اليأس والقنوط من رحمة الله، وازداد عُتوَّاً ونفوراً في الأرض؛ فأُخفيت عنه حتى يبقى بين الخوف والرجاء لله، يرجو رحمة ربه، ويخشى عذابه ..
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومَن يُضْلِلْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله.
يقول الحقُّ -سبحانه وتعالى-: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) [إبراهيم:27]، وجاء في الحديث الصحيح عنه -صلى الله عليه وسلم- انه قال: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا".
وفي إخفاء خاتمة العبد حكمة بالغة وعظيمة، وذلك أن العبد إذا عرف حسن خاتمته أصابه التواكل والعجب والكسل وفتور الهمة، وكذلك إذا عرف العبد سوء خاتمته أصابه اليأس والقنوط من رحمة الله، وازداد عُتوَّاً ونفوراً في الأرض؛ فأُخفيت عنه حتى يبقى بين الخوف والرجاء لله، يرجو رحمة ربه، ويخشى عذابه.
وهذه هي حال المؤمنين: (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا) [الإسراء:57]، لأجل ذلك كان خوف الصالحين من سوء الخاتمة عند كُلِّ خطوة وخطرة وحركة، يقول أبو الدرداء: ما أحد أمن على إيمانه ألَّا يُسلب منه عند الموت إلا سلب منه، ولما حضرت الوفاة سفيان الثوري أخذ يبكي، فقيل له: يا أبا عبد الله! أوَمِن كثرة الذنوب؟ قال لا، ولكن أخاف أن يسلب الإيمان مني قبل الموت.
فمِن هذا خاف السلف الصالح من أن تكون الذنوب حاجبا وحجابا بينهم وبين حسن الخاتمة، يقول ابن القيم: وهذا من أعظم الفقه، أن يخاف الرجل أن تخدعه ذنوبه عند الموت فتحول بينه وبين حسن الخاتمة.
وقال: إذا نظرت إلى حال كثير من المحتضرين وجدتهم يُحَال بينهم وبين حسن الخاتمة عقوبةً لهم على سوء أعمالهم، وسوء الخاتمة لا يكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه، وإنما لمن عنده فساد في العقيدة، أو إصرار على كبيرة، وإقدام على معصية، وغلب ذلك عليه، وسبَى عقله، وملك قلبه، وسيطر على تفكيره حتى نزل به الموت قبل التوبة، فكان خاتمةً له عند موته؛ لأن قلبه غير سليم.
يقول ابن رجب: وان خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس، فهذه الدسيسة توجب سوء الخاتمة عند الموت، وكذلك الرجل يعمل بعمل أهل النار وفي باطنه خصلة خفية من الخير، فتغلب عليه تلك الخصلة.
وكما قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لا ينظر إلى صُوركم ولا إلى ألوانكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم واعمالكم"، فينظر الله إلى قلب العبد، فإذا كان نظيفا من الشرك وأمراض القلوب والكبائر هداه للتوبة، واختار له أفضل أعماله فجعلها خاتمة له عند الموت، وإذا كان على عكس ذلك لم يوفق للتوبة، واختار الله من سوء أعماله فجعلها خاتمة له عند موته.
ومن أسباب سوء الخاتمة، كما ذكرها أهل العلم:
أولا: التسويف بالتوبة، والاستمرار على المعاصي، والتهاون في الواجبات، فبعضهم يقول: حتى أتزوج، والآخَر: حتى أتخرج، وآخَر: حتى أكبر، وذاك: حتى أزوج الأولاد، وآخَر: حتى أستغني! فيحددون موعدا للتوبة! مَن الذي يضمن لك أن تحقق هذه الأمنيات؟ وإذا حققتها؛ فمَن الذي يضمن لك أنْ تُوفَّقَ للتوبة؟ فتكون قد أمضيت عمرك بالأهواء والشهوات والمعاصي التي تكون غالبا سببا في انقلاب القلوب وانتكاسها، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الأنفال:24]، وقال تعالى: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصاَرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أوَّلَ مَرَّة) [الأنعام:110]، أي: بسبب ردِّهم للحق أول مرة، ولذلك كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكثر في سجوده من الدعاء: "اللهم، مصرِّف القلوب، صرِّف قلبي على طاعتك".
وقد ذمَّ اللهُ أقواماً طالَت آمالهم حتى ألْهَتْهُم عن الآخرة ففاجأهم الموت على حين غفلة، (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) [الحجر:2]، وقال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: إنما أخشى عليكم اثنتين: طول الأمل، واتِّباع الهوى؛ فأما طول الأمل فانه يُنسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فانه يصد عن الحق.(أقول): فيتخبط الإنسان في أموره وتصرفاته وحركاته فيفقد التوفيق والسداد من الله فيموت على غير طاعة الله.
ثانيا: ومن أسباب سوء الخاتمة حب المعصية، فإن الإنسان إذا داوم على المعاصي ولم يسارع إلى التوبة منها ألفها قلبه فاستولت على تفكيره في اللحظات الأخيرة من عمره عند سكرات الموت، وينطق بها لسانه؛ فيموت عليها، ويبعث عليها، والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول، فيما رواه عنه جابر -رضي الله عنه-: "يُبعَث كلُّ عبدٍ على ما مات عليه"، وقال ابن كثير: إن الذنوب والمعاصي والشهوات تخذل صاحبها عند الموت مع خذلان الشيطان له، فيجتمع عليه الخذلان مع ضعف الإيمان فيقع في سوء الخاتمة.
ومن صور ذلك ما رُوي من أن رجلا حضرته الوفاة، فقيل له: قل لا اله الا الله! فقال في آخر كلامه: إني كافرٌ بما تقول، فقبض الله روحه على ذلك، فسئل عنه، فقيل إنه مدمن خمر. فاتقوا الذنوب! إنها هي التي أوقعَتْه وخذَلَته فمات على ذلك، ويبعث من قبره على هذه الحال.
وقيل لآخر عند سكرات الموت: قل: لا اله الا الله! فراح يُغني حتى قبضت روحه، فمات على ذلك، ويبعث من قبره يوم القيامة وهو يغني.
وقيل لآخر عند سكرات الموت: قل: لا اله الا الله! فقال: آه! آه! لا أستطيع أن أقولها! فقبض الله روحه على ذلك، ويبعث مِن قبره وهو على هذه الحال.
وقيل لآخَر عند سكرات الموت: قل: لا اله الا الله! فأخذ يسبُّ الذات الإلهية؛ لأن لسانه كان ينطق بها في الدنيا؛ فجعلت على لسانه عند خروج روحه، ويبعث من قبره يوم القيامة وهو ينطق بها.
يقول ابن القيم -رحمه الله-: وسبحان الله! كم شاهَد الناس من هذا عِبَراً! والذي يخفى عليهم من أحوال المحتضرين أعظم وأعظم، فإذا كان العبد في حال حضور ذهنه وقوته وكمال إدراكه قد تمكن منه الشيطان، واستعمله فيما يريده من معاصي الله، وقد أغفل قلبه عن ذكر الله تعالى، وعطل لسانه عن ذكره، وجوارحه عن طاعته، فكيف الظن به عند سقوط قواه، واشتغال قلبه ونفسه بما هو فيه من ألم النزع؟ وجمع الشيطان له كل قوته وهمته، وحشد عليه بجميع ما يقدر عليه لينال منه فرصته، فإن ذلك آخر العمل، فأقوى ما يكون عليه شيطانه ذلك الوقت، وأضعف ما يكون هو في تلك الحال، فمَن ترى يسلم على ذلك؟ فهناك: (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ) [إبراهيم:27].
فكيف يوفَّقُ لحسن الخاتمة مَن أغفل الله -سبحانه- قلبه عن ذكره، واتبع هواه، وكان أمره فرُطاً؟ فبعيدٌ مَن قلبُه بعيدٌ عن الله تعالى، غافل عنه، متعبد لهواه، أسير لشهَواته، ولسانه يابس من ذكره، وجوارحه معطلة من طاعته، مشتغلة بمعصيته، بعيدٌ أن يوفَّقَ للخاتمة بالحسنى.
نعم -عباد الله-، الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يُبعَث كلُّ عبدٍ على ما مات عليه"، نعَم، ويموت المرء على ما عاش عليه، يقول ابن قدامة: وإذا عرفتَ معنى سوء الخاتمة فاحذر أسبابها، وأعِدّ ما يصلح لها، وإياك والتسويف! فان العمر قصير، وكل نفس من أنفاسك يعد خاتمة؛ لأنه يمكن أن تخطف فيه روحك، والإنسان يموت على ما عاش عليه، ويحشر على مامات عليه.
فعلى العبد أن يبادر بالتوبة، وأن يُلِحَّ على الله بالدعاء بأن يحسن خاتمته بالحسنى، وأن يحسن الظن بربه -عز وجل-.
وعنه -صلى الله عليه وسلم- يقول فيما يرويه عنه عبد الله بن عمر: "إنَّ قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن -عز وجل- كقلبٍ واحدٍ، يصرفه حيث يشاء", ثم قال -صلى الله عليه وسلم- "اللهم مُصَرِّف القلوب، صرِّف قلوبنا على طاعتك".
ومن الأمور التي تؤدي بالإنسان إلى حسن الخاتمة أو سوئها، ويستدل بها على ذلك، حب الله لذلك الإنسان أو بغضه له، وبالتالي يورث ذلك محبة الخلق له أو بغضهم له، والتي هي علامة من علامات محبة الله له أو العكس، وهذا يتبع التقوى وطاعته، أو يتبع البعد عنه، وكما جاء في الحديث، في رواية لمسلم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ الله -تعالى- إذا أحَبَّ عبداً دعا جبريل، فقال: إني أحب فلانا، فأَحْبِبْه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القَبول في الأرض؛ وإذا أبغض عبداً دعا جبريل، فيقول: إني أبغض فلانا، فأبغِضْه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً، فأبْغِضُوه، فيُبغضه أهل السماء، ثم توضع له البغضاء في الأرض".
وفي صحيح البخاري، عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يوماً جالساً بين أصحابه، فمرت جنازة من أمامهم، فأثنى الناس على صاحب هذه الجنازة خيراً، قال أحدهم: فلانٌ نِعْمَ الرجل! كان يشهد الصلاة مع الجماعة، قال الآخَر: كان محسناً إلى جيرانه، قال ثالث: كان وَصُولاً للرحم، وقال رابع وخامس وسادس، ويبدأ الثناء عليه من هذا وهذا، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "وَجَبَتْ وَجَبَتْ".
وما هي إلا لحَظاتٌ حتى تمر جنازة أخرى، وإذا بالمدح ينقلب ذماً، قال رجل: هذه جنازة فلان، بئس الرجل! كان لا يشهد الصلاة مع الجماعة، قال الآخر: كان مؤذياً لجيرانه، قال الثالث: كان قاطعاً لرحمه، عاقاً لوالديه، قال رابع: كان أكّالاً لأموال الناس بالباطل، وقال خامس وسادس وسابع، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَجَبَتْ وَجَبَتْ"، ويتساءل الصحابة -رضي الله عنهم-، فيسأله عمر بن الخطاب: يا رسول الله! ما وجبت؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أمَّا الأول فأثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وأما الثاني فأثنيتم عليه شراً فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في أرضه".
فكثير من الناس يجمعون ويجتمعون على بغض إنسان، فمثل هذا نخشى عليه من سوء الخاتمة، وإن كان عابدا، و كثيرٌ مِن الناس يجمعون ويجتمعون على محبة إنسان وهو غير عابد؛ فنقول له: نسأل الله لك الثباتَ وحسنَ الخاتمة، وكما قال انس -رضي الله عنه-: "إن العبد ليبلغ بحسن خلقه أعلى درجة في الجنة وهو غير عابد، وإن العبد لَيبلغ أسفل درك في النار بسوء خلقه وهو عابد"؛ فالله -عز وجل- ينظر إلى قلب العبد، فإن كان نظيفا من أمراض القلوب والنفوس، خاليا من الشِّرك، سليما عابدا له، جعل خاتمته على عملٍ صالح، وإن كان قلبه غير سليم جعل خاتمته على عمل سيء.
فإذا عرفت معنى وأسباب سوء الخاتمة فاحذر تلك الأسباب، واعمل لأسباب حسن الخاتمة، وألحَّ على الله بالدعاء لها، وأحْسِن الظن بالله؛ فالإنسان يموت على ما عاش عليه، ويُبعث على ما مات عليه، وكما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه عبد الله بن عمرو: "إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن عز وجل كقلب واحد، يقلبه كيف شاء"، ثم قال: "اللهم، مُصرِّف القلوب صرِّف قلوبنا على طاعتك".
واليك صورا من حسن وسوء الخاتمة عايشها وذكرها أهل العلم، علها تكون عبرة لمن يعتبر:
ذكر أحد المشايخ انه رأى في منامه رقم هاتف مكتوباً على جدار، فقيل له: اتصل على هذا الرقم، وخذ صاحبه إلى العمرة، قال: فاستيقظت وقلتُ: أضغاث أحلام، قال: ولكنها تكررت معي ثلاثة أيام حتى حفظت هذا الرقم.
فاتصلت بصاحبه، فرد عليَّ شاب، فقلت له: كيف أستطيع أن التقي بك؟ واتفقنا على موعد ومكان، والتقيت به، ولم أر عليه علامات الالتزام، وذكرت له الرؤيا، وضحك عندها وقال لي: كيف اذهب إلى العمرة وأنا مدمن خمر؟ وأقنعتُه بأن يذهب معي إلى العمرة بعدما رفض واشترط بأن يذهب على حسابي، فقبلت ذلك، وذهبنا إلى العمرة، في النهاية.
وبعد أن أدينا العمرة، وقبل أن نغادر الحرم، قلت له: قم وصلِّ ركعتين قبل أن نغادر، فدخل في الصلاة، وفي آخر ركعة، وفي السجدة الأخيرة قبض الله روحه وهو ساجد. إنها حسن الخاتمة! نعم، في أطهر بقاع الأرض كانت خاتمته، ودفن هناك، ورجع هذا الشيخ يسأل أهله عن سبب حسن الخاتمة له بهذه الطريقة، فإذا به مدمن خمر؛ ولكن له عمل صالح، كان يأخذ الطعام لأم أيتام تطعم أولادها، وكان هذا العمل بينه وبين الله، وكانت أم الأيتام تقول له، وتدعو له: اذهب، أحْسَنَ الله خاتمتك. فاستجاب الله لها.
أحد أساتذة التفسير يدخل المستشفى وهو على سرير المرض ولم يظهر عليه التعب الشديد، فطلب من زوجته أن تقرأ عليه سورة يس، فاستغربت من كلامه، وسورة يس تقرأ على من يُحتضَر، وأصر عليها، فبدأت زوجته بالقراءة عليه وعندما وصلت عند قوله تعالى: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) [يس:11]، فارقت روحه الحياة، نعَم، إنها حسن الخاتمة!.
رُوي أن احد السماسرة، وهم مَن يبيعون ويشترون للغير مقابل مبالغ من المال، تعلق قلبه بذلك وعزف عن الآخرة، فعند الاحتضار وعند سكرات الموت لُقِّن بلا اله الا الله، فراح يقول: كم ثمن هذه الشقة؟ وكم سعرها؟ و... و... و.... نعم! إنها خاتمة السوء، فيبعث من قبره على هذه الحال.
ورجل في رمضان قال لي شخصيا عند صلاة العصر في المسجد: قم يا شيخ، وأقم الصلاة، أريد أن اذهب وأختم المصحف، وصلينا العصر، حيث كنت إماما للمسجد، وذهب إلى البيت وختم المصحف، وأفطر عند المغرب، وفي طريقه لصلاة التراويح بالقرب من المسجد خرجَتْ روحه وهو يسعى للصلاة! نعم! إنها حسن الخاتمة عباد الله؛ فيبعث من قبره وهو يسعى للصلاة.
نعم عباد الله، فكل عبد يبعث على ما مات عليه، فمن مات وهو يقرأ القرآن يبعث وهو يقرأ القرآن، ومن مات وهو ساجد بُعث وهو ساجد، ومَن مات وهو يشرب الخمر بعث وهو يشربها، ومن مات وهو يلبي في الحج بعث وهو يلبي، نعم! وإنما الأعمال بخواتيمها. أقول قولي هذا وأستغفر الله...
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ أحدَكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعٌ فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار؛ فيدخلها، و إن أحدكم لَيعمل بعمل أهل النـار حتى ما يكون بينه و بينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة؛ فيدخلها".
و هذا الحديث فيه سؤال: كيف يعمل العامل بعمل أهل الجنة، يصلي المصلي، و يزكي المزكي، ويصوم الصائم، و يحج الحاج، فكيف يعمل العامل و يتقي المتقي، ويجتهد المجتهد، فإذا بلغت الروح الحلقوم، سبق عليه الكتاب وخسر عمله؟ وكيف يفجر الفاجر، ويظلم الظالم وينتهك الأعراض، ويلعب بالدمـاء، و يضيّع الصلوات، و يلعب بالمحرمات، فإذا وصل الى السكرة أُدخل الجنـة؟ أليـس هذا بإشــكال؟!.
لكن الله يقول: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) [فصلت:46]، (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [النحل:118]، والجواب أن يُقال: معنى الحديث: أنه يعمل بعمل أهل الجنة فيما يظهر للناس، و إلَّا ففي باطنه حيّات وعقارب وظلم أسود؛ وذاك يعمل بعمل أهل النـار فيما يظهر للناس، وإلا ففي قلبه خير كثير، وله خُفْية من عمل صالح يكشفها الله في سكرة الموت.
فالمعنى أن بعض الناس أظهر للناس جميلاً والله أظهر الخبيث، فلما حصحص الحق و أتت ساعة الصفر ظهر القبح؛ وآخر صالح، ولكن ظن الناس أنه سيء، لكنه تاب و عمل خيراً فالله لم يخذله، والله يقول: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69]، ويقول -سبحانه-: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ) [فصلت:30]، قال أهل العلم، كما روى ذلك الحافظ ابن كثير وغيره: أي: وقت سكرات الموت.
إذاً، فالخواتيم بيد الله سبحانه وتعالى، ولا ندري بما يؤول إليه العبد.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي