الأضحية

عبد الله المؤدّب البدروشي
عناصر الخطبة
  1. شعيرة الأضاحي بين الابتلاء والطاعة .
  2. وقت ذبح الأضحية .
  3. صفات الأضاحي المجزئة .
  4. آداب الأضحية .

اقتباس

فهي سُنَّة أبينا إبراهيم عليه السلام سنَّها لنا حبيبُنا محمد -عليه الصلاة والسلام- تخليدًا للطاعة والبرِّ والفِداء، وهي من بَهيمة الأنعام، جَذع الضأْن، وثَنِي غيرها، فجَذع الضأْن ما له ستة أشهر فصاعدًا، وثَنِي الْمَعْز ما دخَلَ في السنة الثانية، والبقر في الثالثة، والإبل في السادسة، وأفضلها الغَنم والذَّكَر؛ روى ابن ماجه بسند صحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يضحِّي ..

الحمدُ لله الذي شرَع الشرائع وفصَّل الأحْكَام، وسنَّ الأعياد وفضَّل الأيام، أشهد أنْ لا إله إلا الله وحْدَه لا شريك له، أفاضَ علينا من نِعَمه وهَدَى، وتوالتْ علينا نفحات أيَّامه أمدًا، وأشهد أن سيِّدَنا وحبيبَنا محمدًا عبدُه ورسوله، اهتمَّ بالأُضْحية وأعْلَى مقامَها، وبيَّن أجورَها وشَرَح أحكامها، اللهمَّ صلِّ عليه في الأوَّلين والآخرين، وأعْلِ مقامَه في أعلى عِلِّيين، واجْمَعْنا به على حَوْضه مع أصفياء أُمَّته المقرَّبين، واجعله شفيعَنا وقائدَنا إلى جوارك الأمين.

أمَّا بعدُ:

إخوة الإيمان والعقيدة: من دلائل الإيمان، وتعظيم هذه الأُمة لشعائر الله في هذه الأيام: اعتناء المؤمنين بشعيرة الأضاحي، وهي قُدوة وذِكرى، هي قدوة تفتح لنا بابَ تاريخنا البَهِي؛ لنعيش من خلالها مع جَدِّنا إبراهيم -عليه السلام- فتتجلَّى لنا قمةُ الطاعة، ومنتهى الإذعان لله على جبلٍ من البرِّ والإحسان، مِنْ وَلَدٍ في ريعان الشباب، وهو إسماعيل -عليه السلام-، إلى والد عزَم بيقينٍ على التضحية بالنفيس؛ من أجْل الخالق الأنْفس.

شعيرة الأضاحي تجسِّم لنا جَدَّنا إبراهيم وأبانا إسماعيل -عليهما السلام- بين الابتلاء والطاعة المطلقة، وبَهجة الفداء: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) [الصافات: 102 - 107].

ليمضي ذلك الفداء مَنسكًا من مناسك ديننا العظيم إلى يوم القيامة؛ جاء في مسند الإمام أحمد أنَّ الصحابة -رضوان الله عليهم- سألوا حبيبَ هذه الأُمة -صلى الله عليه وسلم- قالوا: يا رسول الله: ما هذه الأضاحي؟! قال: "سُنَّة أبيكم إبراهيم"، قالوا: ما لنا منها؟! قال: "بكلِّ شعرة حَسَنة"، قالوا: يا رسول الله: فالصوف؟! قال: "بكلِّ شعرة من الصوف حَسَنة".

فهي سُنَّة أبينا إبراهيم -عليه السلام- سنَّها لنا حبيبُنا محمد -عليه الصلاة والسلام- تخليدًا للطاعة والبرِّ والفِداء، وهي من بَهيمة الأنعام، جَذع الضأْن، وثَنِي غيرها، فجَذع الضأْن ما له ستة أشهر فصاعدًا، وثَنِي الْمَعْز ما دخَلَ في السنة الثانية، والبقر في الثالثة، والإبل في السادسة، وأفضلها الغَنم والذَّكَر؛ روى ابن ماجه بسند صحيح عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا أراد أن يضحِّي اشترى كبشين عظيمين، سمينين أقرنين، أمْلَحين موجوءين، والكبش الأملح: ما اختلط لونُه بسواد وبياض، وهو الذي ينظر ويأكل ويمشي في سواد، والكبش الموجوء: هو الكبش الخَصِي، وفضَّله علماء المالكيَّة على الكبش الفَحْل إنْ كان الخَصي أسمنَ.

ووقتُ ذَبْح الأُضْحية: هو يوم النحر بعد صلاة الإمام وذَبْح أضحيته؛ روى الإمام البخاري عن البَرَاء قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب فقال: "إنَّ أوَّل ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلِّي، ثم نرجع فننحر، فمن فعَلَ ذلك، فقد أصاب سُنَّتنا، ومن نَحَر قبل الصلاة، فإنَّما هو لحمٌ قدَّمه لأهله، ليس من النُّسُك في شيء.

ولا تجوز الأضحية إذا ذُبِحَتْ قبل ذبح أضحية الإمام، فإنْ تعطَّل الإمام لسببٍ، كأن لم يجدْ سكِّينًا، أو لم يجدْ مَن يذبح عنه، انتظرَ المؤمنُ قدرًا من الوقت يكفي لذَبْح أضحية، ثم يذبح، فإن تحرَّى مقدار ذَبْح الإمام لأضحيته لكنَّه أخطأ وسبَقَه، أجْزَأتْه الأضحية، وكذلك أهل البوادي: مَن لا جامعَ ولا إمامَ لهم، فإنَّهم يتحرَّون صلاة أقربِ الأئمة إليهم وذَبْحه أضحيتَه، فيذبحون بعده؛ قال ابن القاسم: "فإنْ تحرَّوا فذبحوا قبله، أجْزَأهم".

وجاء في مُدَوَّنة الإمام مالك حول وقت ذَبْح الأضحية، قال: الأيام التي يضحَّى فيها هي يوم النحر، ويومان بعده إلى غروب الشمس من آخرها، وإذا غابتِ الشمس من اليوم الثالث، فقد انقضى الذبح وفاتَ، ولا يضحَّى بليلٍ في شيء من هذه الأيام، أمَّا عن سلامة الأضحية من العيوب، فقد صحَّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: "أربع لا تجوز في الأضاحي"، فقال: "العوراء بَيِّنٌ عورُها، والمريضة بَيِّنٌ مرضُها، والعرجاء بَيِّنٌ ظَلْعُها، والكسيرة التي لا تَنْقى".

والكسيرة: هي شديدة الْهُزال التي لَيْسَ لَهَا مُخٌّ، والعور البيِّن: هو الذي تبرز معه العين عن موضعها، أو تزال منه، أمَّا إن كانتْ لا تُبصر بها، ولكن لا يظهر العور فيها، فإنَّها تُجزئ مع الكراهة، والمرض البَيِّن: هو الذي يظهر أثرُه على الأضحية، فيحبسها عن الأكل أو المشي، وأما المرض الخفيف، كالتي بها رشْحٌ بالأنف أو كُحَّة، فإنها تجزئ، وكذلك العَرج البيِّنُ: فهو الذي لا تستطيع معه مسايرة الصحيحات، أمَّا إن كان العرج خفيفًا لا يعوقها ولا يظهر إلا بالتأمُّل، فإنَّها تجزئ، كذلك لا تُجزِئ مشقوقة أكثر الأذن، والمقطوعة الذَّنَب، أو التي لا ذَنَب لها، والبكماء والمتغيِّرة رائحة الفم والجَرْباء، والتي بها بَشَمٌ؛ أي: تخمة من أكْلٍ غَير مُعتَاد.

أما إذا انكسَرَ قرنُها وبَرِئ أو انقطع دمُه، فإنَّها تجزئ، وكذلك الجمَّاءُ التي ليس بها قرون، فإنها سليمة وتُجزِئ، وفي العموم فإنَّ العيبَ الخفيف في الأضاحي معفوٌّ عنه، والذي يُجْتَنَب هو العيب الظاهر، والأفضل أن يقوم بالذَّبْح صاحب الأُضْحية؛ جاء في الصحيحين عن أنس -رضي الله عنه- قال:" ضحَّى النبي -صلى الله عليه وسلم- بكبْشين أمْلَحين أقْرَنين ذَبَحهما بيده". وأن يسمِّي الله ويُكبِّر، فيقول: بسم الله، والله أكبر، هذا عنِّي وعن أهْل بيتي، وكل مَن تَلْزمه نفقتي، فيشرك زوجته وأبناءه، ومَن كانوا تحت كفالته؛ من أبوين وإخوة وأقرباء، وتكون نيَّة مشاركتهم عند ذَبْح الأُضْحية وليس بعدها، فيشتركون في الأجْر، وفضل الله واسع، ولكن لا يجوز الاشتراك في ثمنها؛ لأنها رمزُ فداء، وأساسها فردي، يشتريها صاحبُ الأسرة بمفرده، وله أن يُشْرِك في أجْرها مَن هم تحت كفالته؛ فقد ورد في صحيح الإمام مسلم عن أُمِّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمَرَ بكبشٍ أقرنَ يطأ في سواد، ويَبْرُك في سواد، وينظر في سواد، فأتَى به ليضحِّي به، فأضجعه ثم ذَبَحه، ثم قال: "باسم الله، اللهمَّ تقبَّل مِن محمدٍ وآلِ محمد"، وهو حبيب الأُمة -صلى الله عليه وسلم-، وهو الذي خبَّأ شفاعته لأُمَّته، فقال وحديثه في صحيح الجامع: "إنَّ لكلِّ نبيٍّ دعوة قد دعا بها في أُمَّته، فاستُجيبَ له، وإنِّي اختبأتُ دعوتي؛ شفاعةً لأُمَّتي يوم القيامة". هذا هو الحبيب.

أوردَ الإمام أحمد أنَّ الصحابي جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: صليتُ مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عيد الأضحى، فلمَّا انصرفَ أتى بكبشٍ، فذبَحه فقال: "بسم الله، والله أكبر، اللهم هذا عنِّي وعمَّن لم يضحِّ مِن أُمتِي".

فهو حبيب الفقراء، ادَّخَر لهم أجورَهم، فسبقتْهم عند الله.

فإن لم يستطعْ صاحبُ الأُضْحية أن يذبحَ بيده، أنابَ عنه غيره، وعند الذبح يقول صاحب الأضحية: "بسم الله، والله أكبر، هذا عنِّي وعن أهل بيتي"، فإنْ كان غائبًا وجَبَ على الوكيل أن يقول: "بسم الله، والله أكبر، هذا عن فلان وأهْل بيته".

ودليل ذلك ما صحَّ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنَّه أهْدى مائة بَدَنة في حَجَّة الوداع، ذبَح منها ثلاثًا وستين بَدَنة بيده، ثم أعطى السكين لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فنَحَر الباقي.

فالأضحية قُرْبة يتقرَّب بها المؤمن إلى الله -عز وجل- والله طيِّب لا يَقبل إلا طيِّبًا، فينبغي أن تكونَ الأُضْحية طيِّبة وجميلة وسمينة، وخالية من كلِّ العيوب، تلك سُنَّة حبيبِنا -صلى الله عليه وسلم- في الأُضْحية، نقتدي فيها بقُدْوتنا -صلى الله عليه وسلم- ونذكر من خلالها الأبوين الكريمين؛ إبراهيم وإسماعيل -عليهما الصلاة والسلام-.

تقبَّل الله من جَمْعنا، ومن جميع المؤمنين خالص الأُضْحيات، وجعَلَها -صلى الله عليه وسلم- توسعة ومَودَّة لجميع العائلات، وادَّخَر الله أجورَها في موازين الحسَنات.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الكريم لي ولكم، ولوالدي ووالديكم من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العَلِي العظيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي وَسِع كلَّ شيء برحمته، وعمَّ كلَّ حيٍّ بنعمته، أشهد أنْ لا إله إلا الله وحْدَه لا شريك له، له الحمد على سوابغ آلائه وجلائل مِنَّته، وأشهد أنَّ سيدنا وحبيبَنا محمدًا عبده ورسوله، وخِيرته من بريَّته ومصطفاه لرسالته، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته، وعلى مَن اهتدى بِهَدْيه واقتدى بسُنَّته.

أما بعدُ:

أيها المؤمنون والمؤمنات، عبادَ الله: أورَدَ الإمام مسلم في صحيحه عن أُمِّ المؤمنين أُمِّ سَلَمة -رضي الله عنها- أنَّها قالتْ: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن كان له ذِبْحٌ يذبحه، فإذا أهَلَّ هلالُ ذي الحجة، فلا يأخُذَنَّ من شَعره ولا من أظفاره شيئًا حتى يُضَحِّي".

فمن السُنَّة النبويَّة عندنا -معاشر المالكية- قول صاحب "التاج والإكليل في شرح مختصر خليل": يُسْتَحبُّ لِمَن أرادَ أن يضحِّي إذا رأى هلال ذي الحجة أن لا يقصَّ شيئًا من شَعره، ولا يقلِّمَ أظفارَه حتى يُضحِّي، ويبدأ الامتناع من أوَّل ليلة من دخول شهر ذي الحجة إلى العاشر منه؛ أي: إلى يوم العيد بعد الصلاة وذَبْح الأُضْحية، وهذا أسوة بحجَّاج بيت الله، ورجاء نيل الأجْر والثواب مثل أجْرِهم وثوابهم، فإنْ لم يأخذ المؤمن بهذا المستحبِّ، فلا إثْم عليه، وإن تأسَّى بسُنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فله أجرٌ عظيم.

اللهم اهْدنا للعمل بشرائع هذا الدين، واجعلنا من عبادك السامعين الطائعين المقتدين بسُنَّة سيِّد المرسلين، اللهم اغفر لآبائنا وأُمَّهاتنا، واجعلنا وإيَّاهم برضوانك من الفائزين، اللهم افتح علينا حِكْمتك، وانشر علينا رحمتك، واجعلنا ممن توكَّل عليك فكفيتَه، واستهداك فهديتَه، واستغفرك فغفرتَ له، ودعاك فأجبتَه، يا مُجيبَ الدعاء، يا عظيم الرجاء، يا كريم العطاء، يا رحمن الدنيا والآخرة، نسألك اللهم عِزَّة ورِفعة للإسلام والمسلمين، وتثبيتًا لقلوب المؤمنين على شرائع هذا الدِّين، وتأييدًا ونَصْرًا لإخواننا في فلسطين.

اللهم أمِّنَّا في دورنا، ووفِّق إلى الخير والصلاح ولاة أمورنا، واجعل اللهم بلدنا آمنًا مُطْمَئنًا وسائر بلاد المسلمين، وآخرُ دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي