تذكروا -أيها المضحون- هذا الموقف العظيم في التسليم لله تعالى وابتغاء رضوانه، أيها المضحون: تقربوا إلى الله بإسالة الدماء، وذبح الأضاحي، والأكل والتصدق منها، وقد قال -سبحانه وتعالى-: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ -أي الفقير الذي لا يسأل- وَالْمُعْتَرَّ -أي السائل- كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ..
الحمد لله القائل في محكم كتابه: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ) [الممتحنة: 4]، نحمده سبحانه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالها، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أفضل من صلى وزكّى وصام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليمًا.
أما بعد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا) [الأحزاب: 70].
عباد الله: نقف في هذه الخطبة مع شعيرة من شعائر الله، بل عدة شعائر عظيمة، في أعظم أيامه، وفي خير بقاعه، ومع نبي من خيرة أنبياء الله، اختاره الله لبناء بيته الحرام.
عباد الله: نعود إلى الوراء وقبل أكثر من سبعة آلاف عام في قصة عظيمة ترددت في كتاب الله تعالى، نقرؤها إلى يوم القيامة، في عبر وعظات، ودروس ووقفات، نقف عند نبي عظيم يصفه المولى -سبحانه وتعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [النحل: 120]، إنه أمة، اتخذه الله من بين البشر خليلاً: (وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) [النساء: 125]، وكما قال اليهود والنصارى للنبي -صلى الله عليه وسلم-: اتبع ملتنا، مع ما طرأ عليها من الشرك والتحريف فهي الأقوم، عدل إلى جواب لا شبهة فيه، وحجهم بالقرآن بأن عليهم هم أن يتأسوا بالدين الأول، وهو دين إبراهيم الذي يعترفون به: (وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [البقرة: 135]، فليس في دين إبراهيم الذي هو أبو الجميع ومعترف به من الجميع ليس فيها أي مظهر للشرك أو التثليث أو حلول الإله في البشر.
وأخبر الله أن دين جميع الأنبياء هو الإسلام، بمعنى الاستسلام لله تعالى: (قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة: 136]، إبراهيم الخليل أبو الأنبياء، إنه أمة، تأملوا -عباد الله- إلى الأمر القرآني لهذه الأمة: (قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [آل عمران: 95]، وقال -سبحانه وتعالى-: (وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) [البقرة: 130]، وقال -سبحانه وتعالى-: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ) [الممتحنة: 4]، فلنتأمل سيرة الخليل -عليه السلام-، لن نتعرض لمواقفه العظيمة في الدعوة والتوحيد ومحاجة النمرود، وكسر الأصنام، وإنجائه من النار، فلتلك مناسبات أخرى.
وإنما سنقتصر لما يتعلق بالبيت العتيق، وسيرته -عليه الصلاة والسلام- في مكة، وفيها حكم وعظات، وعندها تسكب العبرات، وعمر إبراهيم الخليل -عليه السلام- ولم يأته ذرية، فدعا الله تعالى: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ) [الصافات: 100، 101]، هو إسماعيل -عليه السلام-، وقد أمره الله أن يدعه مع أمه في مكة أرض بيضاء جرداء فتركهما إبراهيم -عليه السلام-، فتبعته أم إسماعيل تناديه وهو لا يلتفت خوفًا من العاطفة، فقالت: الله أمرك؟! قال: نعم. قالت: إذًا لا يضيعنا. فتركها إبراهيم -عليه السلام- وهو يقول: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) [إبراهيم: 37].
وها هي أم إسماعيل تبحث عن الماء، وتطلع على جبل الصفا ووليدها قرب البيت وتذهب إلى المروة، وكلما نزلت في بطن الوادي -بين العلمين الأخضرين الآن- تسرع لأنها لا ترى وليدها أو لأنها تسمع بكاءه، وفي نهاية الشوط السابع تسمع صوت الماء تحت أقدام إسماعيل فتسعى إليه وإذا هو نبع عظيم تتحوطه، يقول -عليه الصلاة والسلام-: "رحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم لكانت عينًا معينًا". رواه البخاري.
أيها الساعون: اذكروا هذا الموقف العظيم، والتسليم العظيم، ورزق الرزاق الكريم، لمن استجاب أمره وتوكل عليه، ثم يأتي إبراهيم إلى مكة ويفرح بابنه إسماعيل -عليه السلام- بكره، وفلذة كبده، تأملوا سرور الوالد وغبطته بعد طول انتظار وبعد تبشير الله له كما قال -سبحانه وتعالى-: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) [سورة الصافات 102]، أي أصبح في سن يرافق أباه، جاءه الأمر العظيم والامتحان الكبير: (قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى) [الصافات: 102]، إنها المشاركة في الابتلاء، واسمعوا إلى جواب الابن الصالح: (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصافات: 102]، هل قال إبراهيم: ما هي الحكمة وما هي الغاية من ذبح ولدي، ولماذا؟! إنه التسليم المطلق، وكفى به حكمة وغاية، إنها الاستجابة للأمر الرباني العظيم، (فَلَمَّا أَسْلَمَا) [الصافات: 103] إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام-، (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) [الصافات: 103]، وأراح رقبة ولده وحد السكين، يأتيه إبليس في كل مرة ليثنيه عن هذا الأمر، وهو يرميه عند العقبة الكبرى، والوسطى، والصغرى.
حجاج بيت الله الحرام: تذكروا عند الرمي هذا الموقف العظيم، وتأسوا بالخليل في معصية الشيطان الرجيم وطاعة الرحمن الرحيم: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) [الصافات: 103-107].
أيها المضحون: إنها سنة أبينا إبراهيم، وقد قال -صلى الله عليه وسلم- لما سئل عن الأضاحي قال: "سنة أبيكم إبراهيم عندما لبى أمر الله بذبح ابنه، ففداه الله بذبح عظيم"، قالوا: فما لنا فيها يا رسول الله؟! قال: "بكل شعرة حسنة". رواه ابن ماجه والبيهقي.
عباد الله: نحن في أفضل أيام العام وقد أقبل يوم النحر، وهو أعظم أيام العشر كما قال -عليه الصلاة والسلام-: "أعظم الأيام عند الله يوم النحر". رواه الحاكم وأبو داود. فإن النحر هو أعظم الأعمال في ذلك، قال -عليه الصلاة والسلام-: "ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله تعالى من إهراقة دم". رواه الترمذي وصححه.
تذكروا -أيها المضحون- هذا الموقف العظيم في التسليم لله تعالى وابتغاء رضوانه، أيها المضحون: تقربوا إلى الله بإسالة الدماء، وذبح الأضاحي، والأكل والتصدق منها، وقد قال -سبحانه وتعالى-: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ -أي الفقير الذي لا يسأل- وَالْمُعْتَرَّ -أي السائل- كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) [الحـج: 36-37]، إنه ليس مجرد ذبح، بل ذكر وتوحيد وشكر وتمجيد وإقرار بنعمة الهداية، واقتداء بنبينا إبراهيم ومحمد -عليهما السلام-.
عباد الله: أمرنا الله في كتابه بذبح الأضاحي بعد صلاة العيد، فقال سبحانه: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) [الكوثر: 2]، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "ومن وجد سعة ولم يضحِّ فلا يقربن مصلانا". رواه ابن ماجه والبيهقي. ووقت الذبح طوال أيام العيد وأيام التشريق، وأفضله نهار اليوم الأول ليقع ضمن العشر الشريفة.
عباد الله: تقربوا إلى الله بذبح الأضاحي، وهي خير أعمال يوم النحر، وعظموا شعائر الله، وتقربوا إليه بخير الأضاحي، واذكروا اسم الله عليها، واعلموا أنه لا يجزي من الأضاحي العوراء البين عورها، والمريضة والهزيلة والعرجاء البين عرجها كما صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
واعلموا أن هذا شرط في الأضاحي مع بلوغ السن المعتبرة للإبل خمس سنوات، والبقر سنتان، والمعز سنة، والضأن ستة أشهر. مع ذبحها التزكية الشرعية بقطع الحلقوم والمريء ومجرى الدم، ومن لا يحسن الذبح فليدفعها إلى من يحسنها، ولا تذبحوا أمام الأنام، فإن الله كتب الإحسان في كل شيء.
عباد الله: ومن أعظم مواقف الخليل مع إسماعيل بناء البيت الحرام، وتأملوا النص الكريم: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ) [البقرة: 127]، وقد سبقت بالفعل المضارع لتكون حاضرة لكل طائف، رفع إبراهيم القواعد من البيت ومع إسماعيل يناوله الأحجار، وكان إبراهيم -عليه السلام- على حجر يصعد به إلى مستوى البناء، ثم ينزل به ليأخذ الحجر من إسماعيل في آية عظيمة سطرها القرآن الكريم ماثلة إلى الأبد أمام العيان، إنه مقام إبراهيم: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) [آل عمران: 96، 97]، وقال سبحانه: (وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة: 125]، وكان المقام ملتصقًا بالبيت الحرام، فأرجع عمر -رضي الله عنه- توسعة للطائفين، وها هو إبراهيم -عليه السلام- يرفع البناء في خضوع وخشوع في عبادة عظيمة يدعو المولى: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة: 127] اهتمام بالقبول، وقد سئلت أم المؤمنين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) [المؤمنون: 60]، أهم -يا رسول الله- العصاة؟! قال: "لا يا ابنة الصديق، هم المصلون والصائمون والمتصدقون، يخشون أن لا يقبل عملهم".
وها هو إبراهيم يدعو عند البناء: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا) [البقرة: 128]، يدعون الله تعالى بإبانة النسك وهم في غاية الامتثال والقبول، (وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) [البقرة: 128، 129]، ولم يبعث إلى أهل مكة إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لذا يقول -عليه الصلاة والسلام-: "أنا دعوة أبي إبراهيم". رواه أحمد وابن حبان.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه العظيم، وبسنة سيد المرسلين، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله الذي شرع لعباده التقرب إليه بذبح القربان، وقرن النحر بالصلاة في محكم القرآن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذو الفضل والامتنان، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أفضل من قام بشرائع الإيمان، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
عباد الله: يفد الحجيج من كل مكان، إلى بيت الله الحرام، استجابة لأمر الله في القرآن، وتأسيًا بالنبي -عليه الصلاة والسلام-، وفي الحج مواقف وعظات، وفيه تسكب العبرات، ذكر، وتوحيد، وتلبية، وترديد لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لا، إنه التوحيد استجابة لأمر الله: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [الحج: 27].
ولأمره -سبحانه وتعالى-: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران: 97]، يتجلى في يوم عرفة التوحيد بأظهر صوره عند الحجيج، كما تتجلى فيه الأمة الواحدة، في صعيد واحد، وفي لباس واحد، وبدعوة واحدة، لا تفاضل بينهم إلا بالتقوى، تتجلى في هذا الاجتماع العظيم قوة المسلمين إذا اجتمعوا.
ويتجلى فيه الخشوع والرحمة والتكافل والتعاون، هذه الشعيرة موغلة في القدم، متجددة كل عام، إنه موقف عظيم مهيب، يتذكر فيه المؤمنون الحشر الأعظم، (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ) [الزمر: 67]، (إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ) [يس: 53].
وما زال وفد الله يقصـد مكة *** إلى أن يرى البيت العتيق وركناه
يطوف به الجاني فيغفـر ذنبه *** ويسـقط عنـه جـرمه وخطاياه
فمولى الموالي للزيارة قـد دعا *** أنقعد عنـها والمـزور هـو الله
نحج لبيت حجه الرسـل قبلنا *** لنشهد نفعًا فـي الكتاب وعدناه
وودعت الحجاج بيـت إلهها *** وكلهم تجري مـن الحـزن عيناه
ووالله لولا أن نؤمـل عـودة *** إليه لذقنا المـوت حين فجـعناه
وخير منه قوله -عليه الصلاة والسلام-: "الغازي في سبيل الله والحاج والمعتمر وفد الله، دعاهم فأجابوه وسألوه فأعطاهم". رواه الطبراني في المعجم الكبير. ومن كانت عادته الحج فتركه توسعة للحجاج فله أجره بمشيئة الله تعالى، وفضل الله واسع وكبير.
عباد الله: نحن اليوم في يوم عرفة، وفي العشر المباركة، فاجتهدوا في الذكر، فقد قال -عليه الصلاة والسلام-: ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام، فأكثروا فيها التحميد والتهليل والتكبير، وأكثروا من صالح الأعمال لا سيما يوم عرفة، وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: "إنه يكفر السنة الماضية والقادمة". رواه مسلم.
وأن الله تعالى يباهي بملائكته أهل الموقف، ويغفر الله فيه لسائر الصائمين، ويقبل الله فيه من الدعاء لا سيما أنه قد اجتمع يوم الجمعة ويوم عرفة، فاجتهدوا عصر هذا اليوم بالدعاء وأكثروا من الاستغفار حيث اجتماع ساعات الإجابة يوم عرفة، وساعة الجمعة، وللصائم دعوة مجابة عند فطره.
واشهدوا مع أهل بيتكم صلاة العيد، فقد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإخراج النساء والصبيان لها، وصلوا الأرحام، وأطعموا الطعام، تدخلوا الجنة بسلام، كما أخبر -عليه الصلاة والسلام-.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم، عباد الله: اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي