سورة هود

مسفر بن سعيد بن محمد الزهراني
عناصر الخطبة
  1. عناية سورة هود بأصول الاعتقاد .
  2. عرض السورة لعناصر الدعوة عن طريق الحجج العقلية .
  3. قصة نوح وقومه .
  4. قصة هود وقومه .
  5. لمحات من محتوى السورة .
  6. تفسير لبعض آياتها .

اقتباس

وهي سورة مكية تعني بأصول العقيدة الإسلامية: التوحيد، والرسالة، البعث، والجزاء؛ وقد عرضت لبعض قصص الأنبياء بالتفصيل؛ تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم على ما يلقاه من أذى المشركين، لاسيما بعد تلك الفترة العصيبة التي مرت عليهم بعد وفاة عمه أبي طالب، وزوجه خديجة رضي الله عنها، في ذلك العام الذي أطلق عليه عام الحزن ..

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أنزل كتابه، وأحكم آياته.

وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، بلَّغ ما أنزل إليه من ربه، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

فيا أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، والعمل بكتابه الكريم، بقراءته وتدبر معانيه، وتطبيق أحكامه، وسيكون حديثنا اليوم عن إحدى سور القرآن الكريم، وذلك بإعطاء الضوء على بعض ما جاء فيها، وما اشتملت عليه من عِبَرٍ وعظات وقصص، ألا وهي سورة هود، السورة الحادية عشر في ترتيب المصحف الشريف، وآياتها ثلاث وعشرون ومائة آية.

وهي سورة مكية تعني بأصول العقيدة الإسلامية: التوحيد، والرسالة، البعث، والجزاء؛ وقد عرضت لبعض قصص الأنبياء بالتفصيل؛ تسلية للنبي -صلى الله عليه وسلم- على ما يلقاه من أذى المشركين، لاسيما بعد تلك الفترة العصيبة التي مرت عليهم بعد وفاة عمه أبي طالب، وزوجه خديجة -رضي الله عنها-، في ذلك العام الذي أطلق عليه عام الحزن، فكانت الآيات تنزل عليه وهي تقص عليه ما حدث لإخوانه الرسل من أنواع الابتلاء؛ ليتأسى بهم في الصبر والثبات.

ابتدأت السورة الكريمة بتمجيد القرآن العظيم الذي أحكمت آياته فلا يتطرق إليه خلل ولا تناقض؛ لأنه تنزيل الحكيم العليم الذي لا تخفي عليه خافية من مصالح العباد، (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [1]، أي: هو كتاب جليل القدر نظمت آياته نظماً محكماً لا يلحقه تناقض ولا خلل، ثم بينت فيه أمور الحلال والحرام وما يحتاج إليه العباد في أمور المعاش والمعاد.

(أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ * إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [2-4].

أي: استغفروا الله من الذنوب، وأخلصوا التوبة، واستقيموا على الطاعة والإنابة، يمتعكم في هذه الدنيا بالمنافع الجلية من سعة الرزق، ورغد العيش، إلى وقت انتهاء أعماركم، ويعطي كل محسن في عمله جزاء إحسانه؛ وإن تتولوا عن الإيمان وتعرضوا عن طاعة الرحمن فإنني أخاف عليكم عذاب يوم القيامة، فعذابه كبير؛ لما فيه من الأهوال والشدائد.

ثم عرضت السورة لعناصر الدعوة الإسلامية عن طريق الحجج العقلية، مع الموازنة بين الفريقين فريق الهدى وفريق الضلال، وضربت مثلاً للفريقين وضحت به الفارق الهائل بين المؤمنين والكافرين، وفرقت بينهما كما تفرق الشمس بين الظلمات والنور، (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) [24]، فليس حال من يبصر الحق ويستضئ به كحال من يتخبط في ظلمات الضلالة ولا يهتدي إلى سبيل السعادة، أفلا تعتبرون وتتعظون؟ والغرض التفريق بين أهل الطاعة والإيمان وأهل الجحود والعصيان.

ثم تحدثت السورة عن الرسل الكرام مبتدئة بقصة نوح -عليه السلام-، أبي البشر الثاني؛ لأنه لم ينجُ من الطوفان إلا نوح والمؤمنون الذين ركبوا معه في السفينة، وغرق كل مَن على وجه الأرض غيرهم، وهو أطول الأنبياء عمراً، وأكثرهم بلاء وصبراً.

فقد أرسل الله سبحانه رسوله نوحاً عليه السلام إلى قومه بعد أن امتلأت الأرض بشركهم وشرورهم، لينذرهم ويخوفهم من عذاب الله إن لم يؤمنوا، ويدعوهم إلى عبادة الله وحده، فقال كبراء قومه: ما نراك إلا واحداً مثلنا، ولا فضل لك علينا.

وقالوا إنهم أحق بالنبوة منه، كما قالوا ما نرى اتبعك إلا سفلة الناس، ووصفوهم بذلك لفقرهم واعتقدوا بأن الشرف هو المال والجاه، والمؤمنون أشرف على فقرهم، وقالوا لنوح: وما نرى لك ولأتباعك من مزية وشرف علينا يؤهلك للنبوة ويستحق أن نتبعك، بل نظنكم كاذبين أنت ومن معك فيما تدعون.

ثم تلطف نوح في الرد عليهم لاستمالتهم إلى الإيمان فقال: أخبروني يا قوم إن كنت على برهان وأمر جلي من ربي بصحة دعواي، ورزقني هداية خاصة من عنده وهي النبوة فخفي الأمر عليكم لاحتجابكم بالمادة عن نور الإيمان، أنكرهكم على قبولها وأنتم كارهون لها منكرون؟.

ويا قوم لا أسألكم على تبلغ الدعوة أمراً، ولا أطلب ثوابي إلا من الله -عز وجل-، ولست بمبعدٍ هؤلاء الضعفاء عن مجلسي، إنهم صائرون إلى ربهم وفائزون بقربه، ولكنكم قوم تجهلون قدْرهم، فتطلبون طردهم، وتظنون أنكم خير منهم.

ويا قوم! من يدفع عني عقاب الله إن ظلمتهم وطردتهم؟ أفلا تتفكرون فتعلمون خطأ رأيكم وتنزجرون عنه؟ ولا أقول لكن عندي المال الوافر الكثير حتى تتبعوني لغناي، ولا أعلم الغيب حتى تظنوا بي الربوبية، ولا أنا من الملائكة أرسلت إليكم فأكون كاذباً في دعواي، ولا أقول لهؤلاء الضعفاء الذين آمنوا بي واحتقرتموهم لفقرهم لن يمنحهم الله الهداية والتوفيق، الله أعلم بسرائرهم وضمائرهم (إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ) [31].

وقال قوم نوح -عليه السلام-: يا نوح قد خاصمتنا فأكثرْتَ خصومتنا، فأْتِنا بالعذاب الذي تعدنا به إن كنت صادقاً فيما تقول. فقال نوح: إن أمر تعجيل العذاب إلى الله تعالى ليس إليّ فهو الذي يأتيكم به، ولستم بفائتين على الله هرباً لأنكم في ملكه وسلطانه، ولا ينفعكم نصحي وتذكيري إن أراد الله إضلالكم هو خالقكم والمتصرف في شؤونكم، وإليه مرجعكم ومصيركم فيجازيكم على أعمالكم.

ثم يعود الخطاب لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، حيث يقول كفار قريش اختلق محمد هذا القرآن من عند نفسه، فقل لهم يا محمد إن كنتُ قد افتريتُ هذا القرآن فعلَيَّ وِزْري وذنبي، ولا تؤاخذونِي أنتم بجريرتي، وأنا برئ من إجرامكم بكفركم وتكذيبكم.

ثم تعود السورة لإكمال قصة نوح -عليه السلام-، حيث أوحى الله إليه أنه لن يتبعك ويصدق برسالتك إلا من قد آمن من قبلُ فلا تحزن بسبب كفرهم وتكذيبهم لك؛ فإني مهلكهم لا محالة غرقاً بالطوفان.

فصنع نوح -عليه السلام- السفينة كما علمه ربه، وكلما مر عليه جماعة من كبراء قومه هزئِوا منه وضحكوا وقالوا: يا نوح، كنت بالأمس نبياً وأصبحت اليوم نجاراً! فقال: إن تهزأوا منا اليوم وتسخرون فإنا سنسخر منكم في المستقبل عندما تغرقون مثل سخريتكم منا الآن، فسوف تعلمون عاقبة هذا التكذيب والاستهزاء مَن يأتيه عذاب يذله ويهينه وهو الغرق وينزل عليه عذاباً دائماً لا ينقطع وهو عذاب الآخرة.

ثم يبين الله سبحانه أنه إذا جاء أمرنا الموعود بالطوفان وفار الماء من التنور الذي يوقد به النار، قال العلماء: جعل ذلك علامة لنوح، وموعداً لهلاك قومه؛ وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: التنور الذي يوقَد به الأرض، وقيل التنور كل مفجر ماء، أو الكانون الذي يخبز فيه، قيل له: إذا رأيت الماء على وجه الأرض فاركب أنت ومن معك في السفينة.

وقال ابن كثير رحمه الله: التنور وجه الأرض، أي إذا صارت الأرض عيوناً تفور قلنا احمل في السفينة من كل صنف من المخلوقات اثنين: ذكراً وأنثى، واحمل قرابتك أيضاً أولادك ونساءك، إلا مَن حكم الله بهلاكه، والمراد به ابنه الكافر (كنعان)، وامراته (واعلة)، واحمل معك مَن آمن مِن أتباعك، وما آمن بنوح إلا نفر يسير مع طول إقامته بينهم (تسعمائة وخمسين سنة)، قال ابن عباس -رضي الله عنهما- كانوا ثمانين نفساً، منهم نساؤهم، وقيل غير ذلك.

وقال نوح لمن آمَن به: اركبوا في السفينة بسم الله يكون جريها على وجه الماء، وبسم الله يكون رسوّها واستقرارها، (وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [41]، أي: غفور لذنوب التائبين، رحيم بالمؤمنين حيث نجاهم من الغرق.

والسفينة تجري بهم وسط الأمواج التي هي كالجبال في العِظَم والارتفاع بإذن الله وعنايته ولطفه، قيل: ارتفع الماء على أعلى جبل أربعين ذراعاً حتى أغرق كل شيء، ونادى نوح ولده (كنعان) قبل سير السفينة، وكان في ناحية منها ولم يركب مع المؤمنين: يا بني اركب معنا ولا تُهلك نفسك بالغرق ولا تكن مع الكافرين فتغرق كما يغرقون! فقال الولد: سأصعد إلى رأس جبل أتحصن به من الغرق، ظناً منه أن الماء لا يصل إلى رؤوس الجبال. قال له أبوه نوح: لا معصوم اليوم من عذاب الله ولا ناجٍ من عقابه إلا مَن رحمه الله، وحال بين نوح وولده موج البحر فغرق الابن مع من غرق.

وقيل يا أرض انشقِّي وابتلعي ما على وجهك من الماء، ويا سماء أمسكي عن المطر، وذهب الماء في أغوار الأرض حيث أمر الله بإغراق من غرق ونجاة من نجا، واستقرت السفينة على جبل الجودي بقرب الموصل، وقيل هلاكاً وخساراً لمن كفر بالله.

ونادى نوح ربه متضرعاً إليه فقال: ربِّ إن ابني كنعان من أهلي وقد وعدتني بنجاتهم، وإن وعدك حق لا تخلف فيه، وأنت يا الله أعدل الحاكمين بالحق! فقال ربه: يا نوح، إن ولدك هذا ليس من أهلك الذي وعدتك بنجاتهم؛ لأنه كافر، ولا ولاية بين المؤمن والكافر، وإن عمله شيء غير صالح، ولا تطلب مني أمراً لا تعلم أصواب هو أو غير صواب؟ إني أنبهك وأنصحك خشية أن تكون من الجاهلين. قال نوح معتذراً إلى ربه عما صدر منه: ربِّ إني أستجير بك من أن أسألك أمراً لا يليق بي سؤاله، وإلَّا تغفر زلتي وتتداركني برحمتك أكن ممن خسر آخرته وسعادته.

وقيل يا نوح أهبط من السفينة بسلامة وأمن وخيرات عظيمة عليك وعلى ذرية من معك من أهل السفينة، قال القرطبي: دخل في هذا كل مؤمن إلى يوم القيامة وأمم أخرى من ذرية من معه نمتعهم متاع الحياة الدنيا وهم الكفرة المجرمون ثم نذيقهم في الآخرة العذاب الأليم وهو عذاب جهنم ثم قال الله -عز وجل- لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- مختتما قصة نوح عليه السلام تسلية للنبي (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) [49].

عباد الله: هذه لمحة عن بعض آيات سورة هود -عليه السلام-، نفعني الله وإياكم بها وبهدي كتابه الكريم، وسنة خاتم المرسلين، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

عباد الله: استكمالاً للحديث عن سورة هود نقول -وبالله الاستعانة-: إن السورة في أوائلها ذكرت حال الإنسان، (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ) [9]، أي: إذا أنعمنا على الإنسان بأنواع النعم من الصحة والأمن والرزق وغيرها من النعم ثم سلبنا تلك النعم منه إنه لقَنوط من رحمة الله، شديد الكفر به.

(وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) أي: ولئن منحنا الإنسان نعمة من بعد ما نزل به الضر وما أصابه من البلاء كالفقر والمرض والبلاء والشدة (إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) [10]، أي: بطِرٌ بالنعمة، مغتر بها، متعاظم على الناس بما أوتي؛ والآية ذم لمن يقنط عند الشدائد ويبطر عند النعم، (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) [11]، أي: إلا الذين يصبرون على الضراء ويفعلون الخير في النعماء، فأولئك الموصوفون بالصفات الحميدة لهم مغفرة لذنوبهم، وأجر كبير في الآخرة، وهو الجنة.

كما أشارت الآية أن المشركين اقترحوا على الرسول أن يأتي بكنز أو يأتي معه ملَك، وكانوا يستهزئون بالقرآن، فقال الله تعالى (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) [12]، أي: ما أنت يا محمد إلا مخوِّف من عذاب الله، والله قائم على شؤون العباد يحفظ عليهم أعمالهم.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) أي: اختلق القرآن من عند نفسه (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ) أي: إن كان الأمر كذلك فأتوا بعشر سور مثله في الفصاحة والبلاغة مفتريات، فأنتم عرب فصحاء، (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [13] أي: استعينوا بمن شئتم غير الله سبحانه إن كنتم صادقين في أن هذا القرآن مفترى.

(فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ) أي: فإن لم يستجب لك مَن دعوتموهم للمعاونة وعجزوا عن ذلك فاعلموا أيها المشركون أنما أنزل هذا القرآن بوحي الله، (وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [14]؟ أي: لا رب ولا معبود إلا الله الذي أنزل هذا القرآن المعجز، فأسلموا بعد ظهور هذه الحجة القاطعة إذ لم يبق لكم عذر مانع من ذلك.

وتمضي السور الكريمة في إيراد العبر والعظات وقصص الأنبياء، ومن ذلك قصة هود -عليه السلام- الذي سميت السورة الكريمة باسمه تخليداً في الدعوة إلى الله، فقد أرسله الله تعالى إلى قوم (عاد) العتاة المتجبرين الذين اغتروا بقوة أجسامهم وقالوا: من أشد منا قوة؟ فأهلكهم الله -عز وجل- بالريح الصرصر العاتية.

وقد أسهبت الآيات في الحديث عنهم بقصد العظة والعبرة للمتكبرين المتجبرين، قال الله تعالى (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) [50]، أي: ما أنتم إلا كاذبون على الله؛ لأنه لا إله سوى الله، (يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [51]، أي: لا أطلب على دعوتي ونصحي لكم جزاء، فما ثوابي وجزائي إلا على الله الذي خلقني.

(وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) [52]، أي: استغفروه من الشرك، وارجعوا إليه بالطاعة والتمسك بالإيمان والتوحيد يرسل عليكم المطر غزيراً متتابعاً، ويزدكم عزاً وفخراً فوق عزكم وفخركم. قال مجاهد: شدة إلى شدتكم؛ فإنهم كانوا في غاية القوة والبطش، ولا تعرضوا عما أدعوكم إليه مصرين على الإجرام وارتكاب الآثام.

فما كان ردهم إلا أن (قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ)، أي: بحجة واضحة (وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ) أي: لسنا بتاركي عبادة الأصنام لأجل قولك (وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) [53]، أي: لسنا بمصدقين بنبوتك مهما نهيتنا عن عبادتنا، وقالوا لهود -عليه السلام-: (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ) [54-55]، أي: أشهد الله على نفسي وأشهدكم أيضاً بأنني بريء مما تشركون من عبادة الله من الأوثان والأصنام، فاحتالوا في هلاكي أنتم وآلهتكم ثم لا تمهلوني طرفة عين.

(إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [56]، أي: فوضت أمري إلى الله مالكي ومالككم، ما من نسمة تدب على وجه الأرض إلا هي في قبضته وتحت تصرفه، إن ربي عادل يجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته لا يظلم أحداً شيئاً.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ * وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا) [57-58]، أي: لما جاء أمرنا بالعذاب، وهو ما نزل بهم من الريح العقيم، (نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ) [58]، أي: وخلصناهم من ذلك العذاب الشديد، وهي الريح المدمرة التي كانت تهدم المساكن وتدخل في أنوف أعداء الله وتخرج من أدبارهم، وتصرعهم على وجوهم حتى صاروا كأعجاز نخل خاوية.

(وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ) [59-60]، أي: أبعدهم الله من الخير وأهلكهم عن بكرة أبيهم، وهي جملة دعائية عليهم بالهلاك واللعنة.

عباد الله: هذا بعض ما استطعنا أن نوضحه من الآيات والقصص الواردة في سورة هود، أسأل الله أن يجعلنا ممن يعتبر، وما لم نستطع ذكره من معاني هذه السورة أكبر مما ذكرنا، فعليكم بقراءتها وتدبر معانيها، وفقنا الله وإياكم لكل خير إنه سميع قريب مجيب الدعاء.

وصلوا وسلموا عباد الله على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي