الوقف الإسلامي من معالم عظمة هذا الدين، وله من الأجر الكثير والكثير، تربَّى عليه صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم-، حتى قال جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-: ليس أحدٌ من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ذو سعة إلا ووقف ..
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد الا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: إن بعد الموت لَشغلاً، ينتقل الإنسان من هذه الدار إلى دارٍ أخرى. طبيعة الدارين تختلف، دار الدنيا دار عمل، ودار الآخرة دار جزاءٍ وحسابٍ، فالاختلاف طبيعة الدارين، وجب على العاقل أن يتفكر فيما يصير إليه بعد هذه الدار، وأن يُعدّ العدة لاستقبال الدار الآخرة.
الإنسان في الآخرة منذ أن يفارق هذه الدنيا ويستقبل بوابة الدار الآخرة؛ يوقن تمامًا بأنه موزون بعمله، إن عمل صالحا فهو من أهل اليمين، (... فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر:54-55]. وإن كانت الأخرى -أعاذني الله وإياكم- من عمل السوء، فإنه يوقن بالثبور والهلاك والعذاب المقيم.
الإنسان في الآخرة لما يرى أن الميزان بالأعمال يتمنى حسنة واحدة تزاد في الأقوال، يتمنى حسنة واحدة تُزاد في الأفعال؛ ولكن حساب ولا عمل! حساب ولا عمل! العمل في دار الدنيا، وقد فتح الله لعباده في هذه الدار في الدنيا بابًا كبيرًا للعمل، يصل هذا العمل من الدنيا إلى الآخرة، هذا من عظمة هذا الدين، أن الله -عز وجل- مَنّ علينا بمنه وكرمه، بالزيادة في أعمالنا حتى بعد وفاتنا.
شرع الإسلام نظام الوقف وهو الصدقة الجارية، جاء في صحيح مسلم عنه -صلى الله عليه وسلم- " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث" فهناك أعمالٌ تتصل ويصل ثوابها إلى الإنسان بعد وفاته وخرجه من هذه الدار، "صدقة جارية، وعلم يُنتفع به، وولد صالح يدعو له" رواه مسلم. هذه الأعمال يصل ثوابها للميت حتى بعد وفاته.
صدقة جارية: وهي التي سنتحدث عنها في هذه الجمعة إن شاء الله، نبين شيئًا من فضلها وثوابها وأحكامها. "صدقة جارية، أو علمٍ يُنتفع به". صاحب العلم يموت ويبقى علمه بعد وفاته، يصله ثوابه، وهذا ما نشهده مع علماء الإسلام المتقدمين- رحمهم الله جميعًا-، فكم مرة فتحنا كتاب رياض الصالحين بعد صلاة العصر، وقلنا: قال الإمام النووي -رحمه الله تعالى- فيدعوا المسلمون جميعًا لعلماء الإسلام بهذا العلم الذي يُنتفع به.
"أو ولدٌ صالحٌ يدعو له"؛ فإذا مات الإنسان وخلّف بنين وبنات من الصالحين والصالحات، وصلت تلك الدعوات، وكانت نورًا يضيء للميت في قبره. للهم ارحم جميع موتى المسلمين...
أحـــبتي: الصدقة الجارية فضل من الله العظيم، يقول الله تعالى (... وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الحج:77]، فهي من الخير الذي حثّ الله عليه، وفي السنة ما حصل مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بعد خيبر، فقد جاء عمر -رضي الله عنه- إلى الحبيب -صلى الله عليه وسلم- وقال: يا رسول الله، إني أصبت مالاً بخيبر، لم أصب مالاً قط هو أنفَس عندي. انظروا -بارك الله فيكم- إلى حرص الصحابة على الخير: مالٌ نفيس لم يُصب مثله في حياته، لما أصاب المال والخير، جاء يستفتي أهل العلم، ليستفتي إمام العلماء -صلى الله عليه وسلم-: أصبتُ مالاً بخيبر، ماذا أصنع به؟
ثم انظروا أخرى -رحمكم الله- إلى فائدة مصاحبة العلماء والأخيار، كيف يدلّون الإنسان على خيريّ الدنيا والآخرة. قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن شئتَ حبَّسْتَ أصلها وتصدقت بها" متفق على صحته. حبّست أصلها: أي جعلتها وقفًا وصدقةً جارية، فالوقف هو تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة.
ما معنى هذا الكلام؟:
تحبيس الأصل: أي يُبقى أصل الشيء: قطعة أرض تبقى قطعة أرض، كتاب يبقى الكتاب محبوسًا لا يُباع ولا يُورث، وإنما يبقى هكذا لله. تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة: يجعل المنفعة التي يُنتفع بها من الأرض، من الكتاب، من الآلة؛ يجعل المنفعة سبيلا لفقراء المسلمين.
"إن شئت حبّست أصلها، وتصدقت بها"، ففعل عمر -رضي الله عنه- وجعلها للفقراء والمساكين وابن السبيل.
الله أكبــــــــــــر! بهذه التربية؛ تربى صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم-، حتى كان أحد الصحابة عنده بستان وحديقة، هي أحبّ ماله، فجاء للنبي -صلى الله عليه وسلم- ليعلن أنه جعلها وقفًا في سبيل الله. "إن أحب مالي إليّ "بيرحاء"، وإني أشهدك يا رسول الله أني جعلتها وقفًا لله" رواه مالك والبخاري وأحمد. أو هكذا قال -رضي الله عنه-.
الوقف الإسلامي من معالم عظمة هذا الدين، وله من الأجر الكثير والكثير، تربَّى عليه صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم-، حتى قال جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-: ليس أحدٌ من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ذو سعة إلا ووقف.
لم يبقَ صحابيٌ واحدٌ عنده مال إلا وأوقف جزءا من هذا المال. لماذا يا عباد الله؟ حتى يكون الأجر عند الله، وحتى يغني فقراء المسلمين، وحتى يصل الأجر له بعد وفاته.
قبل سنوات، في مدينة النبي -صلى الله عليه وسلم-، كان رجلٌ من التجار كلما مَنّ الله عليه بمال، بنى دارًا لٍيوسع على نفسه وعياله، فلما كانت تلك الدار الأخيرة التي بناها؛ جمّلها وحسنها، وجعل فيها من وسائل الراحة والبهجة التي تسرّ الناظرين الشيء الكثير، ثم لما اكتملت الدار أتى بأهله وأولاده لمشاهدة الدار، فجعلوا يُثنون عليها، فيها... وفيها... كُلٌّ يمدحها، وكلٌ يصفها بصفة، فلما سمع الرجل ذلك قال: إني أشهدكم أنها أنفس مالي، وإني جعلتها وقفًا لله -عز وجل- فإن الله -جلّ وعلا- يقول: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران:92]. مِن أحَبِّ المال إليك -يا عبد الله- أنْفِقْ، فخرج الرجل، وخرجت الذرية خلفه.
يقول راوي القصة، فلقد شهدتهم في حرِّ الشمس-في حرِّ مدينة النبي صلى الله عليه وسلم- يمشون عائدين إلى دارهم القديمة، فوا الله! ما أظلم الليل حتى امتلأت تلك الدار بالفقراء والمساكين والأرامل؛ نحسب هذا من صدق هذا الرجل، أنْ مَنَّ الله عليه بإقبال الناس على صدقته، ووصول الثواب إليه من أول يوم.
وفي هذا المسجد، لما افتُـتِح، وكانت المصاحف فيه قليلة، وسعينا قدر المستطاع عند الأوقاف فزودتنا باليسير، والمسجد كبير -كما ترون- يحتاج إلى عدد من المصاحف.
وما هي إلا أن انتهت صلاة الظهر، وإذا بأحد الرجال -نسأل الله أن يعطيه من فضله- يقول لي: يا شيخ، عندي مصاحف أتيت بها إلى المسجد. فقلتُ: الحمد لله، فخرجت لأشهد؛ فأُشهد الله أني رأيت ستة صناديق ممتلئة بالمصاحف، وُضِعَتْ في هذا المسجد. واشهدوا يا عباد الله، كلما قرأ قارئٌ للقرآن من هذه المصاحف؛ وصل ثوابها إلى هذا الرجل الذي أوقفها في سبيل الله.
الله أكبــــــــــــر! كم من إنسان كانت عنده أرض؛ فحدث نفسه أن يجعل له فيها قصرًا، أو يبتني فيها بيتًا، ولكن الخير في داخله؛ فجعلها مسجدً لله. فــــــآهٍ ثم آهٍ! لو مات هذا الإنسان وهي دارٌ للسكنى يتوارثها أبناؤه، وتبقى لورثته من بعده ولا يصله شيء؛ أما وقد جعلها لله مسجدًا، فما من تكبيرة، وما من تسبيحة؛ إلا كان له مثل أجرها.
كم من إنسان كان عنده مالٌ يسير، ولكن الخير في داخله، فشاء الله ومنّ الله عليه؛ فاشترى برّادة صغيرة للماء، كم من ذي كبدٍ شرب منها، ووصله أجرها!.
الصدقة الجاريةُ جـــاريةٌ حقًا، يجري نفعها. فأنفِقْ عبد الله، وابذل، فعلامَ تخاف! أتخشى الفقر؟ والله -عز وجل- يقول ( وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ...)، ولو ربع درهم، ولو مائة ألف مليون درهم، (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ:39]، تنفق الدرهم فيخلفه، وهو خير الرازقين، تنفق الدرهم فيُخلف عليك، ويعود إليك مرة أخرى، وتُنفِق الملايين؛ فربي -جل وعلا- يُعيدها عليك مرة أخرى.
أنفق عبد الله، ولا تخشَ أبدًا! فما من يوم تشرق شمسه إلا ومنادٍ ينادي: اللهم أعطِ منفقًا خلفًا.
وينادي الآخَر: اللهم أعطِ ممسكًا تلفًا. متفق عليه.
المنفق كلما أنفق اتسع الأمر عليه، وأحسّ بالسعة في نفسه وعياله، وأما البخيل المنوع، فكلما أمسك كلما ضاق الأمر عليه، فأمسك أكثر وأكثر، حتى يزال يُعذّب بماله في الدنيا -نسأل الله السلامة-.
أنفِق عبد الله! ففي هذا الزمان فقراء ومعوذين، وفي هذا الزمان كثرت المصائب والبلايا على المسلمين، وفي هذا الزمان الذي كثر خيره، فابتنت الأمة من البنايات، وشادت من القصور ما شادت، في هذا الزمان أيضًا من الفقراء الذين لا يجدون كسرة الخبز يأكلونها، في هذا الزمان، يتصل رجل في الصيام، ويُقسم بالله: لي عشرة من الولد، وطعام الإفطار ليس عندنا منه تمرة!.
أنفق عبد الله! أنفق فإن الله يجزي المتصدقين. ألا وإن من الخير في هذا الزمان ما وفق الله -جل وعلا- القائمين على أمر الأوقاف إليه مؤخرًا من جعل قسائم هي جزء من وقف كبير، تسمي بالأسهم الوقفية، فيصبح صاحب المال القليل عنده وقف أيضًا.
كيف ذلك؟ يُساهم بسهم بمائة درهم أو نحو هذا، فيشتري القسيمة، ويشتري آخر، فيجتمع المال الكثير، فيُبنى الوقف على مجموعة من الناس، كل منهم يصل له من الخير، ويظل هذا الوقف باقياً.
أسأل الله -جل وعلا- بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، أن يجعلني وإياكم من المبادرين إلى فعل الخيرات، وإلى الرحمة بالفقراء واليتامى والأرامل، إنه وليّ ذلك والقادر عليه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربي ويرضى، وأصلي وأسلم على من اجتباه الله واصطفاه، نبينا محمد بن عبد الله، عليه صلوات الله وسلامه.
أحبتـــــي: لا يخفى على أحدٍ أن شهر رمضان المبارك هو شهر البرِّ والعطاء والمسارعة إلى الخيرات، شهر تضاعف فيه الحسنات، وتمحى فيه السيئات، وترفع الدرجات؛ شهر مواساة الأغنياء للفقراء والمساكين والأرامل والأيتام.
لذا؛ نذكركم بأن إخوة لكم يعيشون تحت خط الفقر، وهم في أشد الحاجة إلى مساهماتكم المالية، وبخاصة الزكوات، وهو زخر عند الله تعالى، كما قال -سبحانه-: ( وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ)، (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ).
وقد تكفلت جمعية الهلال الأحمر مشكورة مأجورة أن تتقبل أموالكم وتبرعاتكم، ثم تقوم بتوزيعها على المستحقين داخل الدولة وخارجها، وهذا من تيسير الله تعالى، فارفدوها بما تنفقون، ليبقى الخير فيَّاضًا على مَن ترحمون وتحسنون، وبذلك تبلغون الدرجات العلى، فلا تنسوا الفضل بينكم، وكونوا عباد الله إخوانًا، وارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، جعله الله في ميزان حسناتكم وجزاكم خير الجزاء.
ألا وإن في هذا اليوم المبارك؛ ساعة يُستجاب فيها الدعاء، ونحن صائمون في بيت الله -عز وجل-، مقبلين على الله، ندعو بقلب صادق:
اللهمَّ...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي