إنها الاستقامة التي تتضمَّنُ كمالَ الذلِّ لله -جل وعلا- وتمام المحبَّةِ له -عزَّ شأنُه-، مع الصبر على فعلِ المأموراتِ واجتِنابِ المحظورات، والصبر على المقدورات، مع اتباعِ محاسنِ الأخلاق ونبيلِ الصفات. جاء رجلٌ إلى الحسن البصري، فقال له: إن جزاء الحجِّ المبرور المغفرة. فقال له الحسن: "آيةُ ذلك: أن لا يقودَ إلى سيِّئِ ما كان عليه من العمل".
الحمد لله على نعمة الإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملكُ العلاَّم، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه -عليه أفضلُ الصلاة والسلام-.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: أُوصيكم ونفسي بتقوى الله -جل وعلا-؛ فهي سببُ الفلاح في الدنيا وفي الأخرى.
أيها المسلمون، حُجَّاج بيت الله: هنيئًا لكم على نعمةِ إتمامِ النُّسُك -بحمد الله- بسلامةٍ وعافيةٍ وراحةٍ واطمئنان، أتمَّ الله -جل وعلا- على جميع المؤمنين النِّعَم ودفعَ عنهم النِّقَم، وجعل الله حجَّكم مبرورًا، وسعيَكم مشكورًا، وذنبَكم مغفورًا.
أما بعد:
فيا عباد الله: الحجُّ المبرورُ يُكفِّرُ الله به السيئات، ويرفعُ به الدرجات، ويُدخِلُ به الجنَّات، ولكن للحجِّ المبرورِ علاماتٌ يُعرفُ بها، ذكرَها أهلُ العلم من خلال استقراء النُّصوص من القرآن والسنَّة.
ألا وإن أعظم تلك العلامات: أن يستقيمَ العبدُ على طاعة الله -جل وعلا-، وأن يرجِعَ الحاجُّ راغبًا في الآخرة، مُشمِّرًا إلى المُسارعة إلى الأعمال الصالحة، مُلتزِمًا طاعةَ الله -جل وعلا- حتى الممات؛ استِجابةً لقول الله -جل وعلا-: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 99].
نعم؛ إن من علامات قبول الطاعات -ومنها الحجُّ-: الاستقامةَ الدائمةَ على البرِّ والتقوى، وربُّنا -جل وعلا- يقول لمن غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر -وهو أمرٌ لأمَّته-: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [هود: 112]، (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ) [فصلت: 6].
جاء رجلٌ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله: قل لي في الإسلام قولاً لا أسألُ عنه أحدًا بعدك. فقال: "قُل: آمنتُ بالله، ثم استقِم".
أيها المسلمون: إنها الاستقامة التي تتضمَّنُ كمالَ الذلِّ لله -جل وعلا- وتمام المحبَّةِ له -عزَّ شأنُه-، مع الصبر على فعلِ المأموراتِ واجتِنابِ المحظورات، والصبر على المقدورات، مع اتباعِ محاسنِ الأخلاق ونبيلِ الصفات.
جاء رجلٌ إلى الحسن البصري، فقال له: إن جزاء الحجِّ المبرور المغفرة. فقال له الحسن: "آيةُ ذلك: أن لا يقودَ إلى سيِّئِ ما كان عليه من العمل".
وذكرَ ابنُ رجبٍ وغيره أن رجلاً حجَّ ثم باتَ مع قومه في مكة، فدعَته نفسُه إلى معصية الله، فسمِعَ هاتِفًا يقول: يا هذا: ألم تحُجَّ؟! فجعل الله ذلك سببًا لعِصمته من ذلك الذنب.
أيها المسلمون: إنه وإن كان الحجُّ له جزيلُ الثواب وعظيمُ الأجر؛ فإن أعظم ما ينبغي أن يُعتَنى به في هذه الحياة الغايةُ العُظمى، وهي: تحقيقُ الإيمان لله -جل وعلا-.
سُئِل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أيِّ الأعمال أفضلُ؟! قال: "إيمانٌ بالله، ثم جهادٌ في سبيل الله، ثم حجٌّ مبرور". وهو في الصحيحين.
فالإيمانُ بالله -جل وعلا- هو الغايةُ التي خُلِق الخلقُ من أجلها: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56]، إنه الإيمانُ المُتضمِّنُ تحقيقَ التوحيد بإفراد الله -جل وعلا- بالعبادةِ والخوفِ والرجاء والإنابةِ والتوكُّلِ والدعاء، فالمؤمنُ الصادقُ هو الذي لا يعبُدُ إلا الله -جل وعلا-، ولا يدعُو ويسألُ إلا ربَّه سبحانه، فلا يطلُبُ كشفَ ضُرٍّ ولا جلبَ نفعٍ إلا من الله -عز وجل-، فربُّنا -جل وعلا- يقول: (وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ) [يونس: 106]. والآياتُ في هذا كثيرةٌ جدًّا.
ورسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- في حديث ابن مسعودٍ يقول: "من ماتَ وهو يدعُو من دون الله نِدًّا دخل النار". رواه البخاري.
وخرَّج مسلمٌ من حديث جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من لقِيَ اللهَ لا يُشرِكُ به شيئًا دخلَ الجنةَ، ومن لقِيَه يُشرِكُ به شيئًا دخلَ النارَ".
إنه الإيمانُ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- بطاعته فيما أمر، واجتِنابِ ما نهى عنه وزجَر، وأن لا يُعبَدَ الله -جل وعلا- بشيءٍ إلا بما شرَعَه وقرَّرَه بقوله أو فعله أو تقريره.
وأما المُجاهَدة في سبيل الله؛ فإن أعظمَها: مُجاهَدةُ النفس على طاعة الله وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد روى أحمد -بإسنادٍ حسن-، ورواه الترمذي، وقال: "حديثٌ حسنٌ صحيحٌ"، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "المُجاهِد من جاهدَ نفسَه في سبيلِ الله".
جاء رجلٌ إلى أحد كِبار الصحابةِ فقال له: إني أريدُ أن أغزُو. فقال: "عليك أولاً بنفسك فاغزُها، وعليك بنفسِك فجاهِدها في سبيل الله".
ألا وإن أعظمَ المُجاهَدة: أن يُجاهِدَ الإنسانُ نفسَه على فعل المأمورات؛ ومن ذلك: المُحافَظة على الصلوات المفروضة، وأن لا يُشغِلَ الإنسانَ عنها شيءٌ إلا لعُذرٍ قاهرٍ.
جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم أنه قال: "ألا أدلُّكم على ما يمحُو اللهُ به الخطايا، ويرفعُ به الدرجات؟! إسباغُ الوضوء على المكارِه، وانتظارُ الصلاةِ بعد الصلاة، وكثرةُ الخُطا إلى المساجِد، فذلكم الرِّباطُ، فذلكم الرِّباطُ، فذلكم الرِّباطُ".
ألا وإن أعظم المُجاهَدة للنفس: أن يحفَظ الإنسانُ نفسَه -لسانًا ويدًا وجوارِح- من أن يُؤذِيَ إخوانَه المؤمنين بقولٍ أو فعل؛ فإن من أعظم ما يُكدِّرُ الحسنات حقوقُ المخلوقين، فنبيُّنا -صلى الله عليه وسلم- يقول في الحديث الصحيح: "المُهاجِر من هجرَ ما نهَى الله عنه، والمُسلمُ من سلِمَ المُسلِمون من لسانِه ويدِه".
إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد حذَّرَنا من الإفلاس الحقيقي، حينما قال: "أتدرُون من المُفلِس؟!". قالوا: المُفلِسُ هو من لا دِرهَم عندَه ولا دِينار. قال: "المُفلِس: هو من يأتي بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ وصومٍ وحجٍّ، ثم يأتي يوم القيامة وقد شتمَ هذا، وضربَ هذا، وأخذَ مالَ هذا، فيأخُذُ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنِيَت حسناتُه أُخِذ من سيئاتهم فطُرِحت عليه، فطُرِح في النار".
أيها المسلمون: إن من المُجاهَدة للنفس: أن يكون الإنسان ذا همَّةٍ عالية، ونفسٍ شريفةٍ توَّاقةٍ إلى فعل الخيرات، فصحابةُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما سمِعوا قولَ الله -جل وعلا-: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) [البقرة: 148]، (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [الحديد: 21] حرِصَ كلُّ واحدٍ أن يكون هو المُسارِع المُسابِقَ لغيره في ذلك.
يقول عمر -رضي الله عنه-: "ما استبَقنا إلى خيرٍ إلا سبَقَنا إليه أبو بكرٍ" -رضي الله عن الجميع-.
ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا حسدَ إلا في اثنتَيْن: رجلٍ آتاه الله مالاً فهو يُنفِقُ منه سرًّا وجهرًا، ورجلٍ آتاه الله القرآن فهو يتلُوه ويُعلِّمُه آناءَ الليل وآناء النهار".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت: 30].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعَنا بما فيه من الآيات والهُدى والفُرقان، أقولُ هذا القولَ، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهُ الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، عليه أفضلُ الصلاة والتسليم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس: أُوصيكم ونفسي بتقوى الله -جل وعلا-، فهي وصيةُ الله للأولين والآخرين.
عباد الله: إن خِتامَ الأعمال الصالحة يكونُ بالاستِغفار؛ ومن ذلك: الحجُّ: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة: 199].
إنه الاستغفار الذي يكون باللسان ويُواطِئُه القلبُ، وتُقارِنُه التوبةُ النَّصُوح، وإلا فمن استغفرَ بلسانِه وقلبُه على المعاصي معقود، وأن يرجِعَ إلى السيئات ويعُود؛ فيُخشَى عليه أن يكون بابُ القبول عنه مسدودًا وعن الإجابةِ مردودًا.
إن الله -جل وعلا- حينما ذكر أحكامَ الحجِّ أوصَى عبادَه في آخر آيةٍ تتحدَّثُ عن أحكام الحجِّ في سورة البقرة بوصيَّةٍ عظيمة، وهي: تقوى الله -جل وعلا- سرًّا وجهرًا في جميع الأحوال في الأقوال والأفعال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [البقرة: 203].
ثم إن الله -جل وعلا- أمرنا بأمرٍ عظيم، ألا وهو: الصلاة والسلام على النبي الكريم؛ اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وأنعِم على نبيِّنا وسيِّدِنا محمد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الآلِ والصحابة أجمعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم الطُف بعبادك المؤمنين، اللهم الطُف بعبادك المؤمنين، اللهم الطُف بعبادك المؤمنين، اللهم أنزِل عليهم رحمةً من رحماتك يا ذا الجلال والإكرام تُغنيهم بها عمن سواك، تُصلِحُ بها أحوالَهم، وتلُمُّ بها شعَثَهم.
اللهم احفظ المسلمين في كل مكان، اللهم احفظ المسلمين في كل مكان، اللهم احفظ المسلمين في كل مكان، اللهم احفظهم في الشام وفي اليمن، اللهم احفظهم في الشام وفي اليمن وفي سائر البُلدان.
اللهم أصلِح أحوالَنا وأحوالَ إخواننا المُؤمنين في مصر وفي تونس وفي ليبيا، اللهم ارزُقهم الحياةَ الطيبةَ والعيشةَ الرضِيَّة، واجعلهم مُجتمعين على الحق والبرِّ والتقوى يا ذا الجلال والإكرام.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي