إنها بطولات فذة، وتضحيات عجيبة، بذلها الصحابة رضي الله عنهم فداءً لدينهم، وحماية لنبيهم عليه الصلاة والسلام، قائدهم في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قاوم مقاومة شديدة، وأصيب إصابات كثيرة، ودفع المشركين عن المسلمين؛ حتى كُسرت رباعيته، وشج في جبهته، وانكسرت البيضة على رأسه، وسال دمه، فجعل يمسحه ويقول: "كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله ..
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهـد أن لا إله إلا الله وحـده لا شريـك له، وأشهـد أن محمداً عبده ورسـوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، [النساء:1] (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن خير الكلام كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: الجنة سلعة الله تعالى الغالية، لا يستحقها إلا من آمن وعمل صالحاً، وليس الإيمانُ أمراً هَيِّناً؛ فهو من الأمانة التي أبت السموات والأرض والجبال حملها، وأشفقن منها!.
والعمل الصالح، من فعلٍ للأوامر، واجتنابٍ للنواهي، ثقيل على نفوسٍ رُكِّبت فيها الشهوات، ولكن الله تعالى بفضله ورحمته يُعين من شاء من خلقه على الإيمان والعمل الصالح، والمؤمن يسأل ربه الثبات على الإيمان، ويسأله الإعانة على عبادته: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة:5]. ومن الدعاء النبوي: "اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما.
بيد أن الإيمان إذا تمكن من القلوب عمل عمله فيها، فتعبت في مراده الأجساد، وخاضت الصعاب، لا تَهِنُ لها عزيمة، ولا تلين لها شكيمة، تضحي بالنفس وبالمال وبالولد، وبكل ما يمكن التضحية به؛ حفاظاً على الدين، وثباتاً على الحق، وإرضاءً لله تعالى؛ وهكذا فعل صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رضي الله عنهم وأرضاهم في غزوة أحد، التي كانت في شوال من السنة الثالثة من الهجرة.
لقد كانت تضحياتهم فيها كبيرة، وبطولاتهم فيها عظيمة، برهنوا بها على إيمانهم وصدقهم مع الله -عز وجل-، حتى نزل فيهم قول الله عز وجل: (مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [الأحزاب:23].
وإذا كان صبيانهم يتطالون عند النبي -صلى الله عليه وسلم- ليجيزهم للغزو، فكيف إذاً برجالهم؟!.
ردَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أربعة عشر صبياً لم يبلغوا خمس عشرة سنة، منهم عبد الله بن عمر، والبراء بن عازب، وأسامة بن زيد، والنعمان بن بشير وجماعة آخرون، وقيل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إن رافع بن خديج ماهر في الرماية، فأجازه وهو صبي، فاحتج عليه سمرة بن جندب بأنه أقوى من رافع ويصرعه، فأجازه النبي -صلى الله عليه وسلم- كذلك.
وفي الطريق للمعركة طلب عمر بن الخطاب من أخيه زيد -رضي الله عنه- أن يأخذ درعه، فقال له زيد: لا، إني أريد من الشهادة مثل ما تريد، فتركه كلاهما. أخرجه أبو نعيم والطبراني.
وهذا عمرو بن الجموح خرج مع أبنائه الأربعة للغزوة، أسرة كاملة خرجت ما وفَّر منهم أحداً، ولا استبقاه احتياطاً لشيء، وكان -رضي الله عنه- معذوراً لو قعد؛ لأنه أعرجٌ شديد العرج، واجتمع عليه أبناؤه الأربعة يحاولون ثنيه عن الخروج للغزو وهو بهذا العذر والضعف؛ ولكن إيمانه كان أقوى، فأصرَّ على الخروج.
واشتكى أبناؤه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إن بَنِيَّ هؤلاء يمنعوني أن أخرج معك، والله إني لأرجو أن استشهد فأطأ بعرجتي هذه الجنة! فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد"، وقال لبنيه: وما عليكم أن تدَعوه؟ لعل الله يرزقه الشهادة.
فلما التقى الناس قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أرأيت إن قُتِلتُ اليوم، أطأ بعرجتي هذه الجنة؟ قال: نعم، قال: فوالذي بعثك بالحقّ! لَأَطَأَنَّ بها الجنة اليوم إن شاء الله تعالى! فقاتل حتى استشهد.
فمرّ عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "كأني أنظر إليك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة" رواه أحمد والبيهقي وغيرهما.
إن هذه التصرفات من الصحابة وأبنائهم -رضي الله عنهم- قبل المعركة لتدل دلالة واضحة على أنهم قد عزموا على التضحية في سبيل الله -عز وجل- مهما كلف الأمر، وأنهم قد باعوا الدنيا، واشتروا الآخرة.
ولما انسحب المنافقون من الجيش وكانوا ثلثه، ما تردد المؤمنون في أمر الغزو، ولا تكاسلوا عن التضحية.
ثم برهنوا على ذلك فور بدء المعركة؛ فأبو دجانة أخذ السيف بحقه من يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفلق به هام المشركين، وحمزة بن عبد المطلب أثخن في صفوف المشركين يهدها ويبعثرها، وعلي بن أبي طالب بارز حامل لواء المشركين فصرعه، واقترب المسلمون من النصر، بل انتصروا؛ لولا أن الرماة بارحوا أماكنهم، واشتغلوا بجمع الغنائم عن حماية ظهور المسلمين؛ فدارت الدائرة على أهل الإيمان، وكان من أمر الله تعالى ما كان!.
وإذ ذاك كان الصحابة -رضي الله عنهم- أكثر تضحية في الإسلام، وفداءً بأرواحهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فأنس بن النضر -رضي الله عنه- فاتته بدر، فأقسم بالله ليفعلن الأفاعيل في أحد! فأبر الله تعالى قسمه، ورزقه الثبات في مقابلة المشركين.
رأى -رضي الله عنه- بعض المسلمين قعوداً إثر الهزيمة فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني أصحابه، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، يعني المشركين، ثم تقدم يريد الانغماس في جيش المشركين يجالدهم لوحده، فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا سعد بن معاذ، الجنة ورب النضر! إني أجد ريحها من دون أحد، وكان المشركون بينه وبين أحد.
قال سعد: فما استطعت يا رسول ما صنع! ونتج عن ذلك: أن جسده مُزِّق في ذات الله تعالى ببضع وثمانين من بين ضربة ورمية وطعنة، وما عَرَفَتْهُ إلا أختُه الرُّبيَع ببنانه. رواه الشيخان.
ورجل آخر أحيا سيرة عمير بن الحمام -رضي الله عنه- حين قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، ثم قاتل حتى قتل في غزوة بدر. أخرجه مسلم وأحمد.
هذا الرجل في غزوة أحد لا يعرفه الناس؛ فلم يذكر الرواة اسمه، لكن الله تعالى يعرفه، جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: أرأيت إن قُتلتُ، فأين أنا؟ قال: في الجنة؛ فألقى تمرات كن في يده، ثم قاتل حتى قتل. رواه الشيخان.
ودعا عبد الله بن جحش -رضي الله عنه ربه-، وأقسم عليه أن يقتل في أحد، وأن يبقر بطنه، ويجدع أنفه وأذنه، ويُمثَّل به، حتى إذا سأله الرب -جل جلاله-: فيم هذا؟ قال: في سبيلك وابتغاء مرضاتك. فأبرَّ الله تعالى قسمه، حتى قال سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-: لقد رأيته آخر النهار وإن أنفه وأذنه لمعلقان في خيط.
قال سعيد بن المسيب -رحمه الله تعالى-: فإني لأرجو أن َيَبَر الله آخِرَ قسمهِ كما بَرَّ أوله. رواه الحاكم وقال: صحيح مرسل.
وحنظلة بن أبي عامر -رضي الله عنه- زُفَّ إلى عروسه ليلة أحد، فلما سمع النداء بالخروج إلى أحد انخلع من أحضان زوجته، وهرع إلى ساحة الوغى حتى لا يفوته شرف الجهاد، فكان حادي التضحية أملك لنفسه، وأملأ لحسه من داعي اللذة، فاستشهد وهو جنب، فغسلته الملائكة حتى عُرِف بغسيل الملائكة. أخرجه ابن اسحق والبيهقي وصححه ابن حبان والحاكم.
وإذا أراد الله تعالى الخير بعبد من عباده ناله بأسرع مما يظن البشر، فانتقل مما يوجب له درك النار إلى أعلى الجنان؛ كما حدث لأصيرم بني عبد الأشهل عمرو بن أُقيش -رضي الله عنه-، فقد كان كارهاً للإسلام إلى وقت خروج المسلمين إلى أحد، ففتح الله تعالى على قلبه، وملأه بالإيمان؛ فأسلم، ولحق بالمسلمين فقُتِل ونال شرف الجهاد، ومنزلة الشهادة إن شاء الله تعالى، وهو لم يسجد لله تعالى سجدة واحدة! أخرجه أبو داود وأحمد والحاكم وصححه.
والنعمان بن قوقل -رضي الله عنه- أقسم على الله تعالى فأبَرَّ الله تعالى قسمه، قال وهو في ساحة الوغى: أقسمتُ عليك يا رب ألَّا تغيب الشمس حتى أطأ بعرجتي في خُضَرِ الجنة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد رأيته يطأ فيها وما به من عرج" أخرجه البغوي وغيره.
ولما وصل المشركون إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأحاطوا به وجرحوه؛ استمات جمع من الصحابة في الدفاع عنه، فقتل منهم من قتل، وجرح منهم من جرح، كانوا سبعة من الأنصار ورجلين من المهاجرين، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيهم: "ما أنصفنا أصحابنا" أخرجه مسلم.
أما المهاجران فهما طلحة ابن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما؛ فأما طلحة فقاتل قتالاً عنيفاً يدافع عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى شُلَّت يده، كما في البخاري، وأما سعد فكان يدفع المشركين بالنبال، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يناوله السهام ويقول له: "ارم، فداك أبي وأمي!" ولم يجمع النبي -صلى الله عليه وسلم- أبويه لأحد إلا لسعد رضي الله عنه! رواه البخاري ومسلم.
وكان أبو طلحة الأنصاري من أمهر الرماة، وأَشَدِّ الناس صوتاً، فكان يرمي ويصيح في المشركين يفزعهم بصوته، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا مرّ به أحدٌ بجُعْبَتِه نَبْلٌ يقول له: "أنثرها لأبي طلحة"، وعندما يشرف النبي -صلى الله عليه وسلم- على القوم ينظر مواقع النبل، كان أبو طلحة يقيه بصدره ويقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك! رواه الشيخان.
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في صوته معجباً بشدته: "لَصَوْتُ أبي طلحة في الجيش أشَدُّ على المشركين من فئة" أخرجه أحمد وغيره.
ومن عجائب التضحية ما فعله أبو دجانة -رضي الله عنه- بعد أن أعطى سيف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حقه من القتال؛ إذ انحنى على النبي -صلى الله عليه وسلم- يقيه سهام المشركين، حتى كثر النبل في ظهره وهو لا يتحرك، إلى أن انجلت الغمة، وزال الكرب، ورغم ذلك فإن أبا دجانة لم تكتب له الشهادة في هذه الغزوة.
إنها بطولات فذة، وتضحيات عجيبة، بذلها الصحابة -رضي الله عنهم- فداءً لدينهم، وحماية لنبيهم -عليه الصلاة والسلام-، قائدهم في ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي قاوم مقاومة شديدة، وأصيب إصابات كثيرة، ودفع المشركين عن المسلمين؛ حتى كسرت رباعيته، وشج في جبهته، وانكسرت البيضة على رأسه، وسال دمه، فجعل يمسحه ويقول: "كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله؟!" فأنزل الله -عز وجل-: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) [آل عمران:128]. متفق عليه.
فلما طمع عليه الصلاة في إسلامهم قال: "رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" رواه الشيخان.
رضي الله تعالى عن شهداء أحد وأرضاهم، وجمعنا بهم في جنات النعيم، اللهم ارض عن الصحابة أجمعين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين، وأقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا أمن إلا للمؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واشكروه على نعمه، واصبروا على البلاء، واثبتوا على الحق؛ فإن لكم في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته رضي الله عنهم أسوة حسنه؛ إذ ثبتوا على إيمانهم حتى لقوا الله -عز وجل- غير مبدلين ولا مغيرين.
أيها الإخوة المؤمنون: غزوة أحد فياضة بالعظات الغوالي، والدروس القيمة، وقد نزلت في أدوارها وحوادثها ونتائجها آيات طوال، استغرقت أكثر سورة آل عمران، وكان لها في نفس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أثر عميق ظل يذكره إلى قبيل وفاته، رغم تعدد الغزوات بعدها، وكثرة الفتوح.
لقد كانت غزوة أحدٍ امتحاناً ثقيل الوطأة، عظيم المنفعة، محَّض السرائر، ومزَّق النقاب عن مخبوئها؛ فامتاز النفاق عن الإيمان، وبان أهل الحق من أهل الباطل، بل تميزت أيضاً مراتب الإيمان، وبانت مقادير التضحيات في الرجال، فعرف الذين ركلوا الدنيا بنعالهم فلم ُيَعِّرجوا على مطمع من مطامعها، والذين مالوا إليها بعض الميل في حالة ضعف بشري، فنشأ عن ميلهم إليها ما ينشأ عن الشرر المستصغر من حرائق مروعة.
بدأت المعركة بانسحاب المنافقين، وهو انسحاب ينطوي على استهانة بمستقبل الإسلام، وغدر به في أحرج الظروف، وأحلك الساعات، وتلك أبرز خسائس النفاق.
وهذا المشهد النفاقي في أحد يتكرر كلما كان للمشركين صولة، أو كسبوا جولة، ومن استحيا من إسلامه، أو انسحب عن إيمانه، أو نقد شريعة ربه؛ دفعاً لضرر متوهم أو متوقع، أو حماية لدنياه؛ فإنه يسلك مسالك المنافقين، ويخشى عليه أن يكون في عدادهم، ولو كان من المصلين!.
إن الدعوات إبان امتدادها وانتصارها لتغري الكثيرين بالانضواء تحت لوائها، فيختلط المخلص بالمغرض، والأصيل بالدخيل، وهذا الاختلاط مضر أكبر الضرر بسير الرسالات الكبيرة وإنتاجها، ومن مصلحتها الأولى أن تصاب برجَّات عنيفة تعزل خبثها عنها.
وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يقع هذا التمحيص في أحد (مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ) [آل عمران:179].
فالجبن والنكوص، وتوفير الأنفس والأموال هي التي كشفت عن طوية المنافقين في أحد، فافتضحوا أمام أنفسهم، وأمام الناس، قبل أن يفضحهم الله تعالى بقرآن يتلى إلى يوم القيامة.
ورأس المنافقين ابن سلول حين انسحب بقومه من الجيش ما علل ذلك الانسحاب إلا بأن رأيه لم يُطَعْ، وأنه يريد استبقاء نفسه فقال: أطاع الولدان ومن لا رأي له، أطاعهم وعصاني، علام نقتل أنفسنا؟!.
ومقولته تلك يرددها كثير من المسلمين بعبارة أو بأخرى، يعللون بها تخليهم عن دينهم، وتبديل شريعة ربهم، نسأل الله العافية والسلامة.
ولما عرض الله تعالى لهذه القضية في القرآن، ورد على مقولة ابن سلول ومن معه من المنافقين؛ بيّن سبحانه أن الحكمة من هذا الانكسار في غزوة أحد بيان الصادق من الكاذب، وتمييز المؤمن من المنافق: (يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ القَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [آل عمران:154].
إنه ابتلاء التمحيص والتمييز، يتكرر في كل زمان ومكان؛ ليظهر به المؤمن من المنافق؛ وليبين قوي الإيمان من ضعيفه.
فاستمسكوا -عباد الله- بدينكم، وعَضُّوا بالنواجذ على شريعتكم؛ حفاظاً على إيمانكم، وإرضاءً لربكم، ولو تكاثر عليكم الأعداء من الكفار والمنافقين، وأعوانهم من الجاهلين والظالمين؛ فلن يصيبكم إلا ما كتب الله تعالى عليكم، وقدّر لكم.
واسألوا الله تعالى الثبات على الحق إلى الممات؛ فإن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.
ألا وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي