الحسد مرض خطير جداً يفسد القلوب. وبفساد القلب يفسد الجسد كله وتفسد الأخلاق والآداب ليصبح به الإنسان وحشاً من الوحوش ونقمة من النقم وبالحسد قست القلوب حتى أصبحت كالحجارة أو أشد قسوة لا تعرف الرحمة ولا الرحماء، ولا التقوى ولا الأتقياء، وتفرد الشيطان بأهل الحسد حتى أفسد عليهم دينهم ودنياهم
الحمد لله الواحد الأحد، القيوم الصمد، حرم الحسد وجعله هلاكاً للقلب و الجسد، وجعل العذاب عليه أشد والتحذير من عواقبه أسد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، المنزه عن الصاحبة والولد، واهب الأمن في البلد، والصحة في الجسد وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله طيب القلب والجسد وخير من وحد الرب وعبد صلى الله عليه وسلم عليه كلما تطهرت النفوس من الحسد وحازته إلى الأبد..
أما بعد:
فيا أيها المسلمون اتقوا الله الذي بيده الملك والتدبير وإليه المرجع والمصير أحصى الأعمال وهو العليم الخبير وكتبها وهو بما تعملون بصير وقسم الأرزاق وهو على كل شيء قدير يعلم خائنة العين وما تخفي الصدور فلا تغتروا بالغرور ولا تتبعوا الشرور وطهروا القلوب، واجتنبوا الذنوب واستروا العيوب وراقبوا علام الغيوب أطيعوه فلا تعصوه واذكروه فلا تنسوه واشكروه فلا تكفروه قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71].
ويقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) الأحزاب:43، ويقول: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) [البقرة:152] وطاعة الله تعالى هي وظيفة العبد في دنياه وحفظه من شهواته وهواه. وسلاحه ضد شيطانه الذي عاداه وزاده الذي تزود به في أخراه وعبوديته لسيده ومولاه.
ولقد ضعفت الطاعات لقلتها ولعدم أدائها على الوجه المطلوب ولعدم الإخلاص فيها ولعدم الاقتداء بالسنة فيها.
وبضعفها ضعفت القلوب وبضعف القلوب ضعفت الجوارح وحيل بينها وبين ما تشتهي وأصبحت لا تصلح من حال صاحبها شيئاً فوجودها وعدمها سواء وكثرت المعاصي وشغلت بها الأوقات وتغيرت الفطر التي فطر الناس عليها وألفت السيئات حتى أصبحت هي الغالب في حياة الناس واستقلت الحسنات ولم يبق منها إلا القليل مع أن السفر طويل والزاد قليل ويوشك أن ينقطع بنا الزاد قبل أن يبلغ المحل ولو عادت القلوب إلى فطرتها وعادة إليها سلامتها ونظفت من أمراضها ما شبع الناس من طاعة الله، وتعدت آثار المعاصي النفوس لتصل إلى الغير؛ فكثرت الخلافات وعمت المنازعات وانتشرت المقاطعات حتى بين الأسرة الواحدة وبين الأقرباء والأرحام وبين المسلمين عموماً وما كأن لهم رباً واحداً يجتمعون على توحيده وطاعته وما كأن لهم نبياً واحداً يجتمعون على الاقتداء به والسير خلفه على طريق واحد مستقيم يوصل للمقصود ويتسع للسالكين عليه وما كأن لهم كتاباً واحداً يحتكمون إليه وما كأن لهم ديناً واحداً يعودون إليه وما كأن لهم أباً واحداً وهو آدم فيشدون إليه.
وما كأن لهم أماً واحدة وهي حواء. ولعل هذه المآسي بين المسلمين قد أدت إلى التنافر والتهاجر وضاقت النفوس حتى أصبحت لا تتسع لآية واحدة تسمعها فتستفيد منها بل تجد حرجاً منها وضيقاً عند سماعها لأنها لم تألفها ولم تحب مجالسها بل وضاقت عن كل خير وأصبح الناس يعيشون في هم دائم وغم لا ينقطع ولعل أسباب هذه المصائب هو مرض الحسد الذي تغلغل في القلوب وتمكن منها ولم يجد علاجاً يتداوى به لعدم حرص المصابين به على التداوي والشفاء ورضاهم بالمرض والبلاء.
والحسد مرض خطير جداً يفسد القلوب. وبفساد القلب يفسد الجسد كله وتفسد الأخلاق والآداب ليصبح به الإنسان وحشاً من الوحوش ونقمة من النقم وبالحسد قست القلوب حتى أصبحت كالحجارة أو أشد قسوة لا تعرف الرحمة ولا الرحماء، ولا التقوى ولا الأتقياء، وتفرد الشيطان بأهل الحسد حتى أفسد عليهم دينهم ودنياهم والحسد داء عضال مر بجميع الأمم حلق الدين وأزال اليقين وفرق الصالحين. قال صلى الله عليه وسلم: "دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء هي الحالقة حالقة الدين لا حالقة الشعر والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أنبؤكم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم".
وإذا كان هذا المرض قديم قدم الإنسان فإن علاجه التحابب بين الناس ونبذ الخلافات وترك المقاطعات والمشاحنات والتحابب طريق إلى الجنة، والشقاق والخلاف طريق إلى النار والذي يزرع المحبة هو السلام فهو علاج نافع للحسد. وقد قال تعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [فصلت: من الآية34].
والحسد همٌ دائم يستولي على العقل والقلب والحسد يغتم به صاحبه، هم وغم لا يزول وهو مصيبة عظيمة لا يؤجر عليها وإنما يؤزر عليها ويعاقب لأنها تفقد الإنسان نفسه وتفقده مجتمعه وتفقده دنياه وأخراه. وهو مذمة من الرب إذ ذم أهله مذمة من الخلق جميعاً لا يحمده أحد بل يكرهونه ويبغضونه ويدعون عليه.
وهو غضب الرب تعالى، لأن صاحبه مسيء إلى الله إذ أنه عدو لنعمة الله يريد صرفها عن عباد الله بأي وسيلة مع أنه لا فضل له فيها وإنما هي فضل الله فكيف لو كانت من عند الحاسد إذاً لقطعها وبخل بها ومنّها وآذى صاحبها ولأنه معترض على قسمة الله تعالى فكأنه يقول لربه: لماذا تعطي فلانا؟ والله تعالى لا يسأل عما يفعل يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم يعطي لحكمة ويمنع لحكمة، وكأنه يتهم الرب بعدم العلم وبعدم العدل، تعالى الله عما يقول الظالمون.
ولأنه لم يرض بقضاء الله وقدره فقد كتب في الأزل رزق العبد وشقي أم سيعد وقضاء الله عن علم لا تخفى عليه خافية. وبالحسد تغلق أبواب التوفيق أمام الحاسد فيعيش محروماً مطروداً حزيناً وقد قيل: لا ينال الحاسد من المجالس إلا مذمة وذلاً ولا ينال من الملائكة إلا لعنة وبغضاً ولا ينال في الخلوة إلا جزعاً وغماً ولا ينال عند النزع إلا شدة وهولاً ولا ينال في الموقف إلا فضيحة ونكالاً.
والحسد نوعان:
النوع الأول: محمود. وهو ما يسمى بالغبطة وهو أن يتمنى النعمة من غير أن يتمنى زوالها من عند أخيه وقد ورد في الحديث: "لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار" وبالغبطة يحصل التنافس في الطاعة ويحصل السبق إلى الخيرات ويحصل الانشغال بالحسنات والتعاون على البر والتقوى وقد ورد في الحديث: "مثل هذه الأمة كمثل أربعة نفر رجل آتاه الله مالاً وعلماً فهو يعمل بعلمه في ماله ينفقه في حقه ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهو يقول لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهما في الأجر سواء ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً فهو يخبط ماله ينفقه في غير حقه ورجل لم يؤته الله علماً ولا مالاً فهو يقول لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهما في الأجر سواء ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً فهو يخبط ماله ينفقه في غير حقه ورجل لم يؤته الله علماً ولا مالاً فهو يقول لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهما في الوزر سواء" فالعالم تمنى أن يكون له مالاً مثل مال العالم.
ولم يتمنى زوال مال العالم فكسب الأجر من ذلك.
أما النوع الثاني: فهو المذموم. وهو تمني زوال النعمة وكراهيتها عند المنعم عليه والسعي لزوالها والعمل على أذية صاحبها، وضرره بالدرجة الأولى على نفس صاحبه بما فيه من ألم القلب والحزن الدائم والهم والغم وانشغال الفكر وتعريض نفسه للمخاطر وعزله عن المجتمع وكراهية الخلق له وغضب الخالق عليه وفساد دنياه وفساد أخراه وضعف الإيمان عنده، لأنه لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه وضرره كذلك بدينه لعدم تعظيمه لربه وعدم رضاه بقدره وعدم تحقيقه للإيمان لأنه لا يجتمع في جوف عبد الإيمان والحسد، وضرره بإخوانه المسلمين عندما يضرهم بعينه فيؤذيهم في أنفسهم وفي أموالهم وفي أولادهم ولذا أمر الله بالتعوذ من شر الحاسد إذا حسد قال تعالى: (وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) [الفلق:5].
وكان يعوذ صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين من شر الحاسد إذا حسد. ويضر إخوانه بيده عندما يأخذ أموالهم أو يحرمهم من أخذها ويضر بلسانه عندما يغتاب وينم ويستهزئ أو يدبر المكائد ونحوها.
والحسد أول معصية عصى الله بها في السماء إذا أمر الشيطان أن يسجد لآدم فحسده وأبى السجود فطرده الله بحسده ولعنه وجعل له جهنم خالداً فيها وبئس المصير. وهو أول معصية عصى الله بها في الأرض إذ حسداً ابن آدم أخاه وقتله فجعل الله عليه من الوزر مثل أوزار من قتل بعده.
والحسد صفات أعداء الله تعالى فهو صفة الشيطان قال تعالى:(إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ) [فاطر: 6]. إذ حسد آدم على القربة من منزلة فدبر له المكايد وهو صفة اليهود قال تعالى:(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) [النساء: من الآية54]، فقد حسدوا الرسول على الرسالة ودبروا له المكائد ليقتلوه حسداً من عند أنفسهم وهو صفة المشركين إذ قالوا:(أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ) [صّ:8]، وقالوا: (وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف:31]، وهو صفة المنافقين إذ حسدوا المسلمين وكانوا يرجعون إلى المدينة ويزرعون العداوة والبغضاء ويفرحون بهزيمة المسلمين وحاولوا قتل الرسول صلى الله عليه وسلم وأكثر ما يكون الحسد في القلوب المريضة وعاقبتها الموت والخسارة في الدنيا والآخرة.
وغالب ما يكون الحسد لأهل النعم سواء نعمة المال أو الصحة أو كثرة الولد أو كثرة العلم وقد قيل: "كل ذي نعمة محسود" والأكثر أن الحسد أهل النعم من النظراء والأنداد فصاحب المال يحسد صاحب المال الآخر لأنه لا يريد أن يكون أكثر منه. وصاحب الزراعة يحسد المزارع الآخر. ولا يريد تقدمه. وهكذا الإضرار وقد قيل: عدو المرء شر حاسد إذا حسد ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الحسد إذ يقول: "لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً".
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمد ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سلك طريقه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد قال معاوية: "ليس في خصال الشر أعدل من الحسد يقتل الحاسد قبل أن يصل إلى المحسود" وقال الحسن البصري: يا ابن آدم لا تحسد أخاك فإن كان الذي أعطاه لكرامته عليه فلم تحسد من أكرمه الله. وإن كان غير ذلك فلم تحسد من مصيره إلى النار. والسلامة من الحسد سلامةٌ من النار ودخولُ الجنة لأن في ذلك سلامة صدر وقد قال تعالى عن سلامة الصدر: (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء:88-89]، وفي قصة ذلك الرجل الذي دخل ثلاث مرات والرسول صلى الله عليه وسلم يبشره بالجنة وبات عنده عبد الله بن عمرو وقال: أبيت وليس في قلبي غش، ولا أحسد مسلماً على ما أعطاه الله.
ولعل الحسد غالباً ما يكون من الكبر إذ لا يريد أن يتقدم عليه أحد فيحسده ويؤذيه وكذلك العداوة والبغضاء فيريد الانتقام منه التشفي منه وكذلك حب الرياسة وحب الدنيا فيريد أن يذل الناس ويأخذ ما لديهم وكذلك خبث النفس إذ هي نفس شيطانية يهودية متمردة لا تحث الخير للغير بل تسعى إلى زواله بكل وسيلة ولعل علاج الحسد يكون بمراقبة الله تعالى واتباع شرعه في أوامره ونواهيه والتأدب معه بأحسن الأدب واليقين أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ومن علاج الحسد أن يرضى بقضاء الله وقدره وأن الأمر لله.
وليس لغيره وأن حسده لا يعطيه حق غيره بل يعطي غيره حقه وسواء رضي بالقضاء أو لم يرض فإنه لن يأخذ إلا ما كتب الله له، ومن علاج الحسد الزهد في الدنيا والعلم بحقارتها وأنها ملعونة ملعون ما فيها وأنها لا تزن عند الله جناح بعوضة وأن الإنسان لا يذهب منها بغير الكفن والعمل فلا يزاحم عليها وإنما يزاحم على الآخرة ومنها النظر في عاقبة الحسد في الدنيا والآخرة غضب الله وسخطه وعد التوفيق لصاحبه.
وقد تكون خاتمته الهلاك، فأحسن المحسن بإحسانه فإن المسيء سيكفيكه إساءته. وصلى الله وبارك على نبينا المبارك وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي