لقد ابتلَى اللهُ تعالى الإنسانَ بالمال فرزقه إياه، وأباح له اكتسابه وإنفاقه وفق ضوابطَ محدَّدَةٍ، في شرائعَ منزلةٍ، وأحكامٍ بيِّنةٍ، وحدودٍ واضحةٍ؛ فإن هو التزمها فاز بالحسَنتين: حسنة المال، وحسنة التزام شرع الله تعالى، وإن هو أخلَّ بما أمره الله عزَّ وجلَّ في المال؛ ذهبت بركة ماله، وحوسب يوم القيامة على إخلاله ..
الحمد لله، نعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: من لوازم الإيمان بالله تعالى الإقرارُ بأنه -سبحانه- خالق كل المخلوقات، وهو ربها ومالكها والمتصرف فيها، وهي مستكينةٌ له، خاضعةٌ لأمره، ذليلةٌ تحت سلطانه وقهره، وهو -سبحانه- خلقها وأمرها ودبرها، وإذا شاء أبقاها، وإذا شاء أفناها، (الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ) [الفاتحة:2]. (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الملك:1]، ومن أفضل الذكر الذي جاءت به السنة النبوية: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير"، كما جاء في صحيح الأحاديث.
ومن حكمته -سبحانه- في خلقه، ورحمته بعباده أنه لما خلقهم فاوت بينهم في خلقهم ورزقهم، وجعل بعضهم سخرة لبعض؛ لتستقيم أحوالهم، وتحصل منافعهم: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا) [الزُّخرف:32].
جعل -سبحانه- وتعالى فيهم الغني والفقير، والشريف والوضيع، والقوي والضعيف، والمالك والمملوك، فهذا يخدم ذاك، وذاك محتاجٌ لهذا.
ومن نعمته -سبحانه- على بني آدم ما سخّر لهم من منافع الأرض، وما استخرج لهم من نعمها، وما رزقهم من خيراتها: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [الملك:15]، (لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ * سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ) [يس:35-36]. ورأسُ هذا الرزق: المال الذي يتموله الإنسان، فيكفيه حاجته، ويغنيه عن غيره.
وقد جاء الإسلام بما يشفي ويكفي في بيان علاقة الإنسان بهذا المال الذي رزقه الله تعالى إياه، وإيضاح الحدود والضوابط في كسبه وإنفاقه بما يحقق النفع للفرد والجماعة على حد سواء.
فالأصل أن المال مال الله تعالى، فهو مخلوق، والله تعالى خالق كل شيء، وهو المالك له؛ لأن الملك بيده -سبحانه-، وكل مملوك فهو له عزَّ وجلَّ؛ ولذلك جاءت نسبته في القرآن إلى الله تعالى؛ فإنه -سبحانه- لما أمر عباده بالإنفاق على المكاتبين قال: (وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي آَتَاكُمْ) [النور:33].
وبيّن تعالى أنه يبتلي عباده بالمال، ويستخلفهم فيه لينظرَ كيف يديرونه كسبًا وإنفاقًا: (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) [الحديد:7]، وهو من جملة ما سخره الله تعالى لعباده في الأرض من الخيرات والأرزاق، (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) [لقمان:20].
إن الذي يخلق هو الذي يملك، والذي لا يخلق لا يملك، فالخلق هو أساس الملك؛ والله خالق كل شيء، فهو مالك كل شيء، والارتباط بين الخلق والملك مُدرك بالعقول، ومستقرٌ في الفطر، وجاءت به النصوص: (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) [الفرقان:2]، (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ) [الملك:1-2].
وما دام أن الإنسان عاجز عن الخلق فهو لا يملك استقلالاً، وإنما يملك بما ملَّكه الله تعالى ورزقه، فوجب عليه أن يخضع لأوامر مَن ملَّكه فيما ملَّكه، يقول الشافعي -رحمه الله تعالى-: "الناس عبيد الله جلَّ ثناؤه، فملّكهم ما شاء أن يمُلِّكهم، وفرض عليهم فيما مَلَّكهم ما شاء".
لقد ابتلى الله تعالى الإنسانَ بالمال فرزقه إياه، وأباح له اكتسابه وإنفاقه وفق ضوابطَ محدَّدَةٍ، في شرائعَ منزلةٍ، وأحكامٍ بيِّنةٍ، وحدودٍ واضحةٍ؛ فإن هو التزمها فاز بالحسنتين: حسنة المال، وحسنة التزام شرع الله تعالى، وإن هو أخلَّ بما أمره الله عزَّ وجلَّ في المال؛ ذهبت بركة ماله، وحوسب يوم القيامة على إخلاله.
والذي يجعل أكثر الناس لا يلتزمون شريعة الله تعالى في أموالهم كسبًا وإنفاقاً ما رُكِّب فيهم من جِبِلَّة حُبِّ المال التي تزاحم التقوى والورع، (وَتُحِبُّونَ المَالَ حُبًّا جَمًّا) [الفجر:20]، (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [العاديات:8]، والخير هنا هو المال، وجعله الله تعالى زينة لبني آدم يتزينون بها أمام الناس فيما يأكلون، ويشربون، ويلبسون، ويركبون، ويسكنون؛ كما قال -سبحانه-: (المَالُ وَالبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا) [الكهف:46].
ولأجل ذلك كان المال فتنة عظيمة فُتن بها الخلق، فهم من جهةٍ يحبونه حباً شديدًا، ولا يشبعون منه ولو ملكوا أودية الذهب والفضة، كما جاء في الحديث: "منهومان لا يشبعان: منهوم في علم لايشبع، ومنهوم في دنيا لا يشبع" رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
ومن جهة أخرى فإن الله تعالى لم يطلق للإنسان حرية تحصيل المال وإنفاقه كيف شاء؛ بل جعل لذلك قيودًا تقيده، فكان ذلك ابتلاء للعباد، وفتنة لأصحاب الأموال: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) [التغابن:15].
ومع ذلك فإن الشريعة جاءت بوصف المال بالطَيِّبِ والصالح بالنظر إلى طرق كسبه المشروعة التي أباحها الله تعالى في إنفاقه فيما ينفع؛ كما جاء في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [المؤمنون:51] وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا للهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة:172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب؛ ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟" رواه مسلم.
وأوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه أن لا يُدخل أحدهم في جوفه إلا ما كان من كسب طيب، فقد قالوا له: أوصنا، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "إن أول ما ينتن من الإنسان بطنه فمن استطاع أن لا يأكل إلا طيبًا فليفعل" رواه البخاري.
ولما أسلم عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إني أريد أن أبعثك على جيش فيُسلِّمك الله ويغنمك، وأَزْعَبُ لك من المال زَعْبَةً صالحة"، قال: فقلت: يا رسول الله، ما أسلمت من أجل المال، ولكني أسلمت رغبة في الإسلام، وأن أكون مع رسول الله، فقال: "يا عمرو، نِعِمَّا بالمال الصالح للرجل الصالح" رواه أحمد وصححه ابن حبان.
فدلت هذه النصوص على وصف المال بالطيّب وبالصالح إذا كان عند رجل صالح يراعي شرع الله تعالى في كسبه وإنفاقه؛ بل جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك من مواطن الغبطة فقال: "لا حسد إلا في اثنتين" وذكر منهما: "ورجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق" أخرجه الشيخان.
ولعظيم شأن المال، وقيمته عند الإنسان؛ كان من ضروريات الحياة الخمس، التي لا تقوم بدونه، ولا تستقيم إلا به، فمَن قُتِل دون ماله فهو شهيد، كما جاء في الحديث المتفق على صحته، وهو أقل الضروريات الخمس منزلة؛ ولذلك يُضحى به في سبيل حفظ الدين، وسلامة النفس، وتأمين العقل، وحماية العرض.
والسؤال عن المال يوم القيامة ليس كالسؤال عن غيره، فله جهتان في المسألة: جهة الكسب، وجهة الإنفاق؛ كما جاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع، وذكر منها: وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه" رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وفي عرصات القيامة يشهد المال على صاحبه؛ كما جاء في الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "وإن هذا المال خضرة حلوة، فنعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل... وإنه من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون شهيدًا عليه يوم القيامة" أخرجه الشيخان.
أسأل الله تعالى أن يكفينا بحلاله عن حرامه، وبطاعته عن معصيته، وبفضله عمن سواه، إنه سميع مجيب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالبَنِينَ وَالقَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المَآَبِ) [آل عمران:14].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيراً مباركًا فيه، يليق بجلال ربنا وعظمته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله ربكم، واعملوا لما بعد موتكم؛ فإن الدنيا دار عمل ولا بقاء لحي فيها، (وَإِنَّ الدَّارَ الآَخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت:64]، فخذوا -رحمكم الله تعالى- من حياتكم لموتكم، ومن دنياكم لأخراكم.
أيها الناس: ليس المال محل ذم مطلقاً، ولا يمُدح مطلقاً؛ بل يُنظر في مصدره ومخرجه، فإن كان مصدره طيبًا فهو مال صالح، وكان عند رجل مسلم تقي منفق كان عند رجل صالح، فهو محل مدح ومُدح به صاحبه.
وأما إن كان مالاً فاسدًا مصدره الربا، أو الرشوة، أو أكل الحقوق، أو التجارة المحرمة؛ فهو مال خبيث، ومآله في الدنيا إلى السحت، وقلة البركة، وغالبًا ما يكون وبالاً على صاحبه.
وكذلك إذا ملك المال رجل سوء يمسكه عن واجباته، ويبخل به عن حقوقه، وينفقه فيما حرم الله تعالى؛ فإنه يعود بالخسران على صاحبه، ولو كان صاحبه قد تملكه من طرق حلال كالإرث والهبة ونحو ذلك.
وشر الناس في الأموال من جمع بين الخبيثين، وحصَّل السحتين: فكسب ماله من حرام، ثم أنفقه في الحرام.
ولقد فهم سلفنا الصالح من الصحابة -رضي الله عنهم- هذه المسألة المهمة؛ فاجتنبوا الحرام في كسبهم، وسلطوا المال على حقوق الله تعالى الواجبة والمندوبة، وكان منهم تجارٌ نفع الله تعالى بتجارتهم الإسلام كأبي بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنهم وأرضاهم-.
ومن يقدر على ما قدر عليه هؤلاء الرجال الأفذاذ؟ فأبو بكر -رضي الله عنه- تكفّل بجهاز هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأنفق ماله في خدمته وخدمة دعوته، ولما دعاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- للإنفاق جاء أبو بكر -رضي الله عنه- بكل ماله فوضعه بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "يا أبا بكر، ما أبقيت لأهلك؟" قال: أبقيت لهم الله ورسوله. رواه أبو داود والترمذي وصححه.
وبلغ ما أنفقه -رضي الله عنه- على النبي -صلى الله عليه وسلم- أربعين ألفًا؛ كما قالت عائشة -رضي الله عنها-، والألف في ذلك الوقت كانت له قيمته الكبيرة، ولكثرة ما أنفق -رضي الله عنه- على النبي -صلى الله عليه وسلم- قال عليه الصلاة والسلام: "ما نفعني مال قط ما نفعني مالُ أبي بكر"، فبكى أبو بكر -رضي الله عنه- وقال: "ما أنا ومالي إلا لك" رواه أحمد وصححه ابن حبان.
وخرج -عليه الصلاة والسلام- في مرضه الذي مات فيه عاصبًا رأسه فجلس على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إنه ليس من الناس أحد أَمَنَّ عليَّ في نفسه وماله من أبي بكر ابن أبي قحافة..." رواه البخاري.
وعثمان -رضي الله عنه- جهَّز جيش العسرة، وجاء بألف دينار فأفرغها في حِجْر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فجعل عليه الصلاة والسلام يُقَلَّبُها ويقول: "ما ضَرَّ عثمانَ ما عمل بعد هذا اليوم" أخرجه أحمد والترمذي والحاكم وصححه.
وعبد الرحمن بن عوف سمع حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "خيركم خيركم لأهلي من بعدي" أخرجه الترمذي والحاكم وصححه؛ فأوصى لهن بحديقة بيعت بأربعين ألف دينار.
وباع أرضًا بأربعين ألف دينار فقسم قيمتها في فقراء بني زهرة وفي المهاجرين وأمهات المؤمنين.
وأوصى -رضي الله عنه- للبدريين فوجدوا مئة بدري، فأعطى كل واحد منهم أربعمائة دينار، وأوصى بألف فرس في سبيل الله تعالى.
وكان أهل المدينة كعياله -رضي الله عنه-، قال طلحة بن عبدالله: كان أهل المدينة عيالاً على عبدالرحمن بن عوف، ثلث يقرضهم ماله، وثلث يقضي دينهم، ويصل ثلثاً.
هكذا كان هؤلاء الصالحون في تعاملهم مع أموالهم؛ جمعوها بالحق، ثم أنفقوها بالحق، فكانت أموالاً طيبة صالحة عند عباد لله تعالى طيبين صالحين.
أين حال تجار المسلمين في هذا العصر من هذا؟ أين حال من جمعوا أموالهم من الربا، أو الرشا، أو أكل الحقوق من حال هؤلاء الصحابة الكرام؟ أين من أنفقوا أموالهم فيما حرم الله تعالى: في تشييد البنوك الربوية، والمساهمات المحرمة، أو في إصدار مجلات فاضحة تمتلئ بصور البغايا وأشباه البغايا، وتنضح بالغزل الماجن، والفكر المنحرف الذي يعارض الدين والقيم والأخلاق؟!.
وأعظم شرًا منهم من أطلقوا قنواتٍ فضائيةً، وصنعوا برامج ترفيهية ليس لها رسالة تؤديها إلا إفساد الفطرة، وإماتة الغيرة، وقتل الأخلاق والديانة، باسم الترفيه والانفتاح، ويشاركهم في إثمهم تجار يدعمون هذه الوسائل الإعلامية الفاسدة والمفسدة بالإعلان فيها، والدعاية لتجاراتهم ومنتجاتهم عبرها، ولا ينكرون ما فيها من شر وفتنة! ولو أنهم كفوا عنها، ولم يعلنوا فيها إلا بشرط تنظيف قنواتهم من هذه المواد المحرمة، لكان ذلك خيرًا لهم، ولأصحابها، ولعامة المسلمين؛ بتقليل الشر وتحجيمه، والاحتساب على أهله وناشريه.
وأين ما فعله أئمة الهدى بأموالهم، وإنفاقها في مجالات الخير، مما يفعله كثير من أهل المال في هذا العصر في ولائمهم وأفراحهم وقصورهم ومراكبهم، من سرف عظيم، وتبذير كبير، وكفران لنعمة المال، بإلقاء فوائض الأطعمة في النفايات، وهم يشاهدون ما ينقل عبر الشاشات من مجاعات هنا وهناك، وقد تبعهم في سرفهم، وقلدهم في تبذيرهم غيرهم من مستوري الحال، في بُعْدٍ عن شكر الله تعالى على نعمة المال.
فاتقوا الله ربكم، واعلموا أنكم محاسبون على القليل والكثير، وكل ذلك مسجل في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
وإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد دخل بستانًا مع بعض أصحابه فأكلوا بلحًا، وشربوا ماءً فلما انتهوا قال لهم -عليه الصلاة والسلام-: "هذا من النعيم الذي تسألون عنه" رواه أحمد والنسائي وابن حبان وصححه.
وفي حديث آخر قالوا: يا رسول الله، عن أي نعيم نسأل؟ وإنما هما الأسودان: الماء والتمر، وسيوفنا على رقابنا والعدو حاضر، فعن أي نعيم نسأل؟! قال: "أما إن ذلك سيكون" رواه أحمد.
فإذا كان الأمر كذلك فما الذي سنسأل عنه، ونحن لا ندري ماذا نأكل؟ ولا ماذا نشرب؟ ولا ماذا نلبس؟ ولا ماذا نركب؟ ولا ماذا نضع في بيوتنا من أثاث ومتاع وتحف وزينة.
نسأل الله العفو والمغفرة، والعمل في أموالنا بما يرضيه.
وصلوا وسلموا على خير خلق الله تعالى كما أمركم ربكم بذلك...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي