من كان في هذه الحياة على استقامة فإنه لا يرى عند موته خزيًا ولا ندامة: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ) [إبراهيم: 27]. من كان في هذه الحياة على استقامة أصلح الله أمره، وأحسن له عاقبته، وتنزلت عليه الملائكة بالبشائر، فابتهج وسر وظهر السرور على وجهه، تراه مشرق الوجه مسرورًا.
أما بعد:
فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) [فصلت: 30، 31].
عباد الله: إن الحياة مهما طالت أيامها، وتتابعت سنواتها وأعوامُها، فلابد للإنسان من أن يرتحل عنها، وأن يودع أصحابها وأهلها.
إنا من الدنيا على طريق *** إما إلى الغسَّاق أو إلى الرحيق
في ساعة هي آخر الساعات، ولحظة هي آخر اللحظات، ووقفة هي آخر الوقفات، يقف الإنسان عند آخر أعتاب هذه الدنيا، فينظر إلى الأصحاب والأحباب، ينظرُ إلى الأبناء والبنات، وإلى الإخوان والأخوات، وإلى الأصحاب، والأحباب، والإخوان، والخلان، فكأن الحياة طيف من الخيال، وكأنها ضرب من الأحلام.
دنا الرحيل فقلت اليوم وا أسفاه *** كيف الرحيل وذنبي قد تقدمني
في ساعة يقف فيها المؤمن لكي تطوى عليه صحائف الأعمال والأقوال، تطوى عليه صحائف الأعمال وقد رضي عن ذي العزة والجلال، مليئة بالخيرات والباقيات الصالحات.
يقف العبد الصالح عند آخر هذه الدنيا في ساعة يؤمن فيها الكافر، ويوقن عندها الفاجر، وتزول عندها الأوهام، وتتبدد عندها الأحلام، فيقف المؤمن تلك الوقفة بين حزنين عظيمين:
أما الحزن الأول: فإنه ينظر إلى أبنائه وما خلف في هذه الدنيا، ينظر إلى ذريته الضعيفة، فمن يعولهم من بعده؟! فمن يرحمُ ضعفهم، ومن يجبر كسرهم بعد الله -جل جلاله-؟! فتستولي عليه الأشجان والأحزان، وينظر كذلك إلى عظيم تفريطه في جنب الله -جل جلاله-، فيتذكر الساعات واللحظات وما كان فيها من هنات وزلات، فلا يدري أغفر الله ذنبه، وستر عيبه، أم سيلقى الله -جل جلاله- بما كان؟!
أما الحزن الثاني فينظر أمام عينيه إلى دار غير داره، وحياة غير حياته، ينظر إلى دار لا يدري ما الذي سيكون فيها؟!
يقف العبد هذه الوقفة العظيمة، فينظر الله إليه وهو أرحم الراحمين، فينظر الله إليه وهو الحليم الرحيم نزلاً من غفور رحيم، فتتنزل عليه ملائكة الرحمن تُبشره بما عند الله من الروح والريحان والجنان، وأن الله راضٍ عنه غير غضبان، فيحن إلى لقاء الله، ويشتاق إلى الرحيل؛ لكي يقف بين يدي الله -جل جلاله-، ويبشره الله -جل وعلا- بأن ذريته من بعده محفوظة: (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ)، فيتولى الله -جل جلاله- ذرية العبد الصالح.
هذا موسى بن عمران -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- معه الخضر يرفعان الجدار، فيقول الله -جل جلاله- حكايةً عن الخضر: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) [الكهف: 82]، حفظ الله ذرية العبد الصالح بعد موته، فيبشرهم الله -جل جلاله- بعدم الخوف على الذرية، وأن الله وليهما: (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) [الأعراف: 196].
من كان في هذه الحياة على استقامة فإنه لا يرى عند موته خزيًا ولا ندامة: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ) [إبراهيم: 27].
من كان في هذه الحياة على استقامة أصلح الله أمره، وأحسن له عاقبته، وتنزلت عليه الملائكة بالبشائر، فابتهج وسر وظهر السرور على وجهه، تراه مشرق الوجه مسرورًا.
ومن علامات حسن الخاتمة: أن ترى وجهه أشرق ما يكون عند الموت، وأبيض ما يكون عند السكرات حتى يلقى الله -جل جلاله-، فيرى من رحمته ما لم يخطر له على بال، قال -صلى الله عليه وسلم-: "هو العبد الصالح إذا نزلت عليه الملائكة فبشرته بما عند الله من الرحمة اشتاق إلى لقاء الله وأحبه فأحب الله لقاءه"، كيف إذا لقي الحبيب حبيبه؟!
من كان في هذه الحياة على استقامة ثبت الله قلبه عند الموت، فيرى بشائر ورحمات لم تخطر له على باب: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [البقرة: 223].
حضر الموت إمامًا من أئمة السلف، الإمام مالكًا، ظل أربعة أيام مغمى عليه، فلما أفاق في اليوم الرابع قالوا: يا أبا عبد الله: كيف حالك؟! قال: إني أرى الموت، ولكنكم سترون من رحمة الله ما لم يخطر لكم على بال.
الظن بالله حسن، فمن كان على استقامة في هذه الدنيا فإن الله يختم له بخاتمة السعداء، فلا يزال لسانه رطبًا بذكر الله حتى تأتيه سكرة الموت، فيكون آخر كلامه لا إله إلا الله، قال -صلى الله عليه وسلم-: "من كان آخر كلامه من الدنيا: لا إله إلا الله دخل الجنة"، ووقف النبي –صلى الله عليه وسلم- على أبي طالب فقال: "يا عم: قل كلمة أحاج لك بها بين يدي الله"، لا يزال المؤمن في استقامة حتى يختم الله له بخاتمة الصلاح، ويختم الله له بخاتمة الفلاح والنجاح، فمن وطّن نفسه على الصالحات والباقيات الطيبات المباركات أتاه الموت على خصلة من خصالها، فهذا يموت ساجدًا، وهذا يموت راكعًا، وهذا يموت بارًّا بأمه، وهذا يموت في سفره يصل رحمه فيختم له بخاتمة السعداء، فمن علامة حسن الخاتمة أن يموت العبد على عمل من الأعمال الصالحة، من ذكر الله -جل جلاله-، أو غير ذلك من صلاة، وصيام، وعبادة، وقيام.
ومن علامة حسن الخاتمة للمستقيمين أن تكون خاتمتهم أشرف الخواتم وأحبها إلى الله -جل جلاله-، ألا وهي خاتمة الشهادة في سبيل الله -جل جلاله-، فمن ختم الله له بالشهادة كان له من الله الفضل والزيادة، من ختم له بخاتمة الشهادة تأذن الله برفعته وزيادة، قال –صلى الله عليه وسلم- عن الشهيد: "يغفر له عند أول قطرة من دمه"، فتُغفر جميع ذنوبه، وتُغفر جميع عيوبه، فيلقى الله نقيًا من الذنوب، ويؤمن الفزع الأكبر، كذلك يُجار من عذاب القبر، وروحه في حواصل طير خضر في الجنة تشرب من أنهارها، تأوي إلى قناديل معلقة في العرش، كما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، حتى إذا كان يوم القيامة بُعث الشهيد وجرحه يثعب دمًا، اللون لون الدم، والريح ريح مسك، يلقى الله -جل جلاله- بدمائه وأشلائه وأعضائه تحاج له بين يدي الله -سبحانه وتعالى-، ويُشفع في سبعين من أهله، ويزوج بسبعين من الحور العين.
يا لها من كرامة أعدها الله -جل وعلا- للأولياء، واختارها للمتقين الأصفياء، إنها الاستقامة التي يبتدئها المسلم في حياته، فتكون أول وقفة منك -أيها المسلم- أن تذكر بعدك عن الله، وطول غربتك عن طاعة الله، فتريق دمعة على التفريط في جنب الله.
تبدأ الاستقامة بدمعة من دموع الندم، بدمعة من دموع الحزن والألم على ما كان من الذنوب والهنات، وعلى ما كان من الذنوب والسيئات، تبدأ الاستقامة من هذه اللحظة حينما تعلن الإنابة والتوبة وتعزم على أن تسير إلى الله لعل الموت أن يأتيك على طاعة من طاعة الله، إلى متى الصدود عن الله، إلى متى البعد عن الله؟! تبدأ الاستقامة بالمسارعة إلى الخيرات، والمسابقة إلى الباقيات الصالحات، تبدأ الاستقامة حينما تقترب من الصالحين، وتحب الأبرار والمتقين، فتحشر معهم يوم الدين، تبدأ الاستقامة -عباد الله- حينما يخاف الإنسان مما بقي من عمره، فيسأل ربه العفو عما سلف وكان، ويسأله الإحسان فيما بقي من الأزمان، فإلى الله -عباد الله-؛ فإنه لا ملجأ ولا منجى من الله إلا إلى الله.
اللهم إنا نسألك رحمة تهدي بها قلوبنا، وتغفر بها ذنوبنا، وتستر بها عيوننا، اللهم أصلح أحوالنا، اللهم خذ بنواصينا إلى ما يرضيك عنا، اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العلى أن تختم لنا بخاتمة السعداء، اللهم اختم لنا بخير، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو أرحم الراحمين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله المصطفى الأمين، صلى الله عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى جميع أصحابه المباركين، ومن سار على نهجهم، واهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-.
أخي المسلم: ليس هناك ساعة أفضل ولا أحب إلى الله -جل وعلا- من ساعة تطيع فيها ربك، وليس هناك ساعة أبرك ولا أهنأ للعبد من ساعة رضي الله عنك فيها.
يحتاج المؤمن -عباد الله- إلى الهداية؛ لكي يصلح بها حاله مع الله -جل جلاله-، فما أحوج العبد إلى قربه من الله -سبحانه وتعالى- ولو بكلمة ترضي الله -جل جلاله-، والله غفور حليم، إن تقربت منه شبرًا تقرب منك ذراعًا، وإن تقربت منه ذراعًا تقرب منك باعًا، ومن أتاه يمشي أتاه هرولة، وكم من عبد تاب إلى الله، وتذكر في ساعته كثرة الذنوب في جنب الله، فندم وأراق دموع الندم، فقام مغفور الذنب من الله، إن الله غفور حليم، إن الله جواد كريم، وبمجرد أن يطلع إلى قلبك أنك تريد أن تصحح مسيرك إليه، وأن تصلح حالك بينك وبينه، فإن الله يوفقك ويسددك ويعينك ويهيئ لك من أمرك رشدًا، ويهب لك من لدنه رحمة، إنه هو الوهاب.
فيا عباد: الله أصلحوا لله قلوبكم، واستشعروا الندم في جنب ربكم؛ لعل الله أن يرحمنا وإياكم.
ألا وصلوا وسلموا على خير خلق الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، فقد أمركم الله بذلك حيث يقول -جل في علاه-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى علىَّ مرة صلى الله عليه بها عشرًا"، اللهم صلّ وسلم وبارك وأنعم على خير خلقك، وأفضل رسلك، سيدنا ونبينا محمد، اللهم ارضَ عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين، وعن بقية أصحاب نبيك أجمعين، وزوجاته أمهات المؤمنين، اللهم ارضَ عنا معهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي