سورة النساء إحدى السور المدنية الطويلة، الرابعة في ترتيب المصحف الشريف، وآياتها ست وسبعون ومائة آية، وهي سورة مليئة بالأحكام الشرعية التي تنظم الشئون الداخلية والخارجية للمسلمين، وهي تعني بجانب التشريع، كما هو الحال في السور المدنية ..
الحمد لله القائل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له بين لنا حقوق النساء بأوضح بيان، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله أوصانا بالنساء خيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأخيار وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فيا عباد الله: سورة النساء إحدى السور المدنية الطويلة، الرابعة في ترتيب المصحف الشريف، وآياتها ست وسبعون ومائة آية، وهي سورة مليئة بالأحكام الشرعية التي تنظم الشئون الداخلية والخارجية للمسلمين، وهي تعني بجانب التشريع، كما هو الحال في السور المدنية.
وقد تحدث السورة الكريمة عن أمور مهمة تتعلق بالمرأة والبيت والأسرة والدولة والمجتمع؛ ولكن معظم الأحكام التي وردت فيها كانت تبحث حول موضوع النساء بدرجة لم توجد في غيرها من السور؛ ولذلك أطلق عليها(سورة النساء الكبرى)، في مقابلة (سورة النساء الصغرى) التي عرفت في القرآن الكريم بسورة الطلاق.
وتحدثت السورة الكريمة عن حقوق النساء اليتيمات في حجور الأولياء والأوصياء، فقررت حقوقهن في الميراث والكسب والزواج، واستنقذتهن من عسف الجاهلية وتقاليدها الظالمة المهينة إلى سماحة الإسلام وعدله.
وتعرضت لموضوع المرأة، فصانت كرامتها، وحفظت كيانها، ودعت إلى إنصافها بإعطائها حقوقها التي فرضها الله تعالى لها كالمهر والميراث وإحسان العشرة، قال الله تعالى في المهر: (وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا) [4]، أي أعطوا النساء مهورهن عطية عن طيب نفس، فإن طابت نفوسهن بهبة شيء من الصداق لكم فخذوه حلالا طيباً.
قال سبحانه في الميراث: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا) [7]، أي للأولاد والأقرباء حظ من تركة الميت، كما للبنات والنساء حظ أيضاً الجميع فيه سواء يستوون في الوراثة وإن تفاوتوا في قدرها.
وسببها أن بعض العرب كانوا لا يورِّثون النساء والأطفال، وكانوا يقولون إنما يرث من يحارب ويذب عن الحوزة، فأبطل الله حكم الجاهلية وأعطى للجميع نصيباً مقطوعاً سواء كانت التركة قليلة أو كثيرة، فرضه الله بشرعه العادل في كتابه الكريم.
وقال سبحانه في حسن العشرة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا * وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) [19-21].
والمعنى: لا يحل لكم أن تجعلوا النساء كالمتاع ينتقل بالإرث من إنسان إلى آخر وترثوهن بعد موت أزواجهن كرهاً عنهن، قال ابن عباس -رضي الله عنه-: كانوا في الجاهلية إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاءوا تزوجها أحدهم، وإن شاءوا زوجوها غيرهم، وإن شاءوا منعوها الزواج.
ولا يحل لكم أن تمنعوهن من الزواج أو تضيقوا عليهن لتذهبوا ببعض ما دفعتموه لهن من الصداق إلا في حال إتيانهن بفاحشة الزنا، وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: الفاحشة المبينة النشوز والعصيان.
وصاحبوهن بما أمركم الله به من طيب القوامة والمعاملة بالإحسان، فإن كرهتم صحبتهن فاصبروا عليهن واستمروا في الإحسان إليهن فعسى أن يرزقكم منهن ولداً صالحاً تقر به أعينكم، وعسى أن يكون في الشيء المكروه الخير الكثير؛ وفي الحديث الصحيح: "لا يفرك -أي لا يبغض- مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر".
وإن أردتم أيها المؤمنون نكاح امرأة مكان امرأة طلقتموها وقد دفعتم مهراً كبيراً(قنطاراً) فلا تأخذوا ولو قليلاً من ذلك المهر، أتأخذونه باطلاً وظلماً؟ استفهام إنكاري، أي: كيف يباح لكم أخذه وقد استمتعتم بهن بالمعاشرة الزوجية، وأخذن منكم عهداً وثيقاً مؤكداً وهو(عقد النكاح)؟ وفي الحديث: "اتقوا الله في النساء! فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله" أخرجه مسلم.
كما تعرضت السورة الكريمة بالتفصيل إلى أحكام (المواريث) على الوجه الدقيق العادل الذي يكفل العدالة ويحقق المساواة، ومن ذلك قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ) [11-12]. والكلالة: أن يموت الرجل ولا ولد له ولا والد، ولا أصل له ولا فرع، لأنها مشتقة من الكل بمعنى الضعف، يقال: كل الرجل: إذا ضعف وذهبت قوته.
وتحدثت السورة الكريمة عن المحرمات من النساء بالنسب والرضاعة والمصاهرة: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) [23-24].
الربائب: جمع ربيبة وهي بنت المرأة من آخَر، سميت به لأنها تتربى في حجر الزوج. وحلائل أبنائكم: جمع حليلة وهي زوجة الابن، سميت بذلك لأنها لا تحل لوالد زوجها، والمراد زوجات الأبناء. (محصنين) أي: متعففين (غير مسافحين) والسفاح الزنا: وسمي سفاحاً لأنه لا غرض للزاني إلا سفح النطفة وقضاء الشهوة.
وتناولت السورة الكريمة تنظيم العلاقات الزوجية، وبينت أنها ليست علاقة جسدية وإنما هي علاقة إنسانية، وأن المهر ليس أجراً ولا ثمناً، وإنما هو عطاء يوثق المحبة ويديم العشرة ويربط القلوب، وفي الآيات التي ذكرناها إيضاح لذلك، وفي غيرها من السورة.
وتناولت السورة الكريمة حق الزوج على زوجته وحق الزوجة على زوجها، وأرشدت إلى الخطوات التي ينبغي أن يسلكها الرجل لإصلاح الحياة الزوجية عندما يبدأ الشقاق والخلاف بين الزوجين، وبينت معنى قوامة الرجل وأنها ليست قوامة استعباد وتسخير وإنما هي قوامة نصح وتأديب، كالتي تكون بين الراعي ورعيته.
(الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا * وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) [34-35].
وحذرت السورة من ظلم النساء في ميراثهن ومهورهن، وأكدت على وجوب الإحسان إليهن: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا) [127].
ثم ذكر الله تعالى نشوز الرجل والطريق إلى الإصلاح بين الزوجين إما بالوفاق أو بالفراق: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [128].
أي: وإذا علمت امرأة وشعرت من زوجها الترفع أو الإعراض عنها بوجهه بسبب الكره لها أو لدمامتها أو لكبر سنها وطموح عينه إلى من هي أشب وأجمل منها، فلا حرج ولا إثم على كل واحد من الزوجين من المصالحة والتوفيق بينهما بإسقاط المرأة بعض حقوقها من نفقة أو كسوة أو مبيت؛ لتستعطفه بذلك وتستديم مودته وصحبته، كأن تقول المرأة لزوجها: لا تطلقني وأنت في حل من شأني.
والصلح خير من الفراق، وجبلت الأنفس على الشح وهو شدة البخل، فالمرأة لا تكاد نفسها تسمح بأن يقسم لها وأن يمسكها إذا رغبت نفسه عنها وأحب غيرها "إلا إذا تنازلت عن حقها"، وإن تحسنوا في معاملة النساء وتتقوا الله بترك الجور عليهن فإن الله عالم بما تعملون وسيجزيكم عليه أوفر الجزاء.
ثم ذكر الله تعالى أن العدل المطلق بين النساء بالغ من الصعوبة مبلغاً لا يكاد يطاق، وهو كالخارج عن حد الاستطاعة، فقال تعالى: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا) [129].
أي لن تستطيعوا أيها الرجال أن تحققوا العدل التام الكامل بين النساء وتسووا بينهن في المحبة ولأنس والاستمتاع ولو بذلتم كل جهدكم؛ لأن التسوية في المحبة وميل القلب ليست بمقدور الإنسان، ولكن لا تميلوا عن المرغوب عنها ميلا كاملاً فتجعلوها كالمعلقة التي ليست بذات زوج ولا مطلقة، وأن تصلحوا ما مضى من الجور وتتقوا الله بالتمسك بالعدل، فإن الله يغفر ما فرط منكم ويرحمكم.
(وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا) [130]، أي وأن يفارق كل واحد منهما صاحبه فإن الله يغينه بلطفه وفضله بأن يرزقه زوجاً خيراً من زوجه، وعيشاً أهنأ من عيشه.
عباد الله: هذا جزاء قليل مما أوضحناه عن سورة النساء، وفي الخطبة الثانية سنعطي لمحة أخرى عن هذه السورة الكريمة إن شاء الله تعالى.
نفعني الله وإياكم بها وبهدي كتابه الكريم، وسنة خاتم رسله، ونسأل الله أن نكون ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله القائل: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا) [48].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شرك له، أمرنا بطاعة ولاة الأمر فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) [59].
وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، قال الله تعالى في طاعته: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) [80].
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه، ومن أطاعه ممن قال الله فيهم: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا) [69-70]، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: عباد الله: استكمالا للحديث عن سورة النساء نقول وبالله التوفيق: إن السورة لم تقتصر على ما يختص بالنساء بل تناولت مواضيع هامة أخرى حيث انتقلت من دائرة الأسرة إلى دائرة المجتمع، فأمرت بالإحسان في كل شيء، وبينت أن أساس الإحسان التكافل والتراحم والتناصح والتسامح والأمانة والعدل، حتى يكون المجتمع راسخ البنيان قوي الأركان.
قال تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا) [36].
الصاحب بالجنب قال ابن عباس -رضي الله عنهما- هو الرفيق في السفر، وقيل غيره، والمختال الفخور:أي المتكبر في نفسه يأنف عن أقاربه وجيرانه فخوراً على الناس مترفعاً عليهم يرى أنه خير منهم، وهذه آية جامعة جاءت حثاً على الإحسان واستطراداً لمكارم الأخلاق، ومن تدبرها حق التدبر أغنته عن كثير من مواعظ البلغاء ونصائح الحكماء.
ومن الإصلاح الداخلي انتقلت الآيات إلى الاستعداد للأمن الخارجي الذي يحفظ على الأمة استقرارها وهدوءها، فأمرت بأخذ العدة لمكافحة الأعداء، وفي الآيات من(59 إلى 70) إيضاح لذلك، وكذلك في الآيات التي بعدها إلى الآية(77) حيث أوضحت السورة بعض قواعد المعاملات الدولية بين المسلمين والدول الأخرى المحايدة أو المعادية، ومن ذلك الآيات من(94 إلى 96) والآيات من(101 إلى 103).
واستتبع الأمر بالجهاد حملة ضخمة على المنافقين، فهم نابتة السوء وجرثومة الشر التي ينبغي الحذر منها، وقد تحدثت السورة الكريمة عن مكايدهم ومخاطرهم، وخاصة في الآيات من(88 إلى 90).
كما نبهت السورة إلى خطر أهل الكتاب وبخاصة اليهود وموقفهم من رسل الله الكرام وخاصة في الآيات من(153 إلى 155)، وجاء في السورة الكريمة أحداث كثيرة لا يستطيع خطيب أن يجملها في خطبة أو خطبتين أو أكثر، ولكن أسأل الله أن يكون قد وفقنا بأن أعطينا لمحة عامة عنها، وكلي أمل في قراءتنا لها جميعاً، وتدبر معانيها، والعمل بها، مع جميع سور القرآن الكريم، أسأل الله أن نكون ممن يتفهم معاني القرآن ويعمل به، إنه سميع قريب مجيب الدعاء.
وصلوا وسلموا عباد الله على خاتم رسل الله، فقد أمركم الله -عز وجل- بذلك في محكم الآيات، فقال تعالى سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:58]
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي