وقفات مع عام مضى وحكم التهنئة بالعام الجديد

عبد الله بن علي الطريف
عناصر الخطبة
  1. الاعتبار بمرور الأيام .
  2. محاسبة النفس .
  3. السلف ومحاسبة النفس .
  4. جواز التهنئة بالعام الجديد .
  5. بِدَعُ بدايةِ العامِ .

اقتباس

تتجدَّدُ الأعوام عامًا بعد عام، فإذا دخَل العام الجديد نظر الإنسان إلى آخره نظرَ البعيد، ثم تمرُّ به الأيام سِراعًا فينصرم العامُ كلمح البصر، فإذا هو في آخر العام؛ وهكذا عُمر الإنسان، يتطلّع إلى آخره تطلُّع البعيد، فإذا به قد هجم عليه الموت، وصار خَبَرَاً بعد عين!.

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18].

أيها الإخوة: ينقضي يوم ويطلع فجرُ يوم جديد، وينصرم شهرٌ، ويهلُ شهرٌ جديد، وها نحن في الساعات الأخيرة من عام قد انقضى، وسيبدأ بعد ساعات عامٌ جديد، وهكذا الحياة، ابتداء يتلوه انقضاء، ثم حساب وجزاء، نسأل الله أن يهونه علينا.

أحبتي: هل ندع هذه المعالم تمر علينا ثم تنتهي دون أن نقف معها وقفة؟ أم نتأملها بجدٍّ وشعور بالمسئولية؟.

أيها الإخوة: الجواب: حقٌّ على أولي العقول أن يقفوا للتأمُّل، فهذه الشمسُ التي تطلع كلَّ يوم من مشرقها وتغرب في مغربِها تحمِل أعظمَ الاعتبار، فطلوعُها ثم غيابُها إيذان بأنَّ هذه الدنيا ليست دارَ قرار، وإنما هي طلوعٌ وزوال.

وهذه الشهور، تهلّ فيها الأهلّة صغيرةً كما يولَد الأطفال، ثم تنمو رويدًا رويدًا كما تنمو الأجسام، حتى إذا تكامل نموُّها أخذت في النقص والاضمحلال، وهكذا عمر الإنسان.

تتجدَّدُ الأعوام عامًا بعد عام، فإذا دخَل العام الجديد نظر الإنسان إلى آخره نظرَ البعيد، ثم تمرُّ به الأيام سِراعًا فينصرم العامُ كلمح البصر، فإذا هو في آخر العام؛ وهكذا عُمر الإنسان، يتطلّع إلى آخره تطلُّع البعيد، فإذا به قد هجم عليه الموت وصار خَبَرَاً بعد عين.

يؤمّل الإنسان بطولِ العمر، ويتسلَّى بالأماني، فإذا بحبلِ الأماني قد انصرم، وبناء الأماني قد انهدَم، قال أبو الدرداء -رضي الله عنه-:" يا ابنَ آدم، إنما أنتَ أيّامٌ، فإذا ذهب منك يومٌ ذهبَ بعضُك". وقال أبو حازم -رحمه الله-: عَجبًا لقومٍ يعملون لدارٍ يرحلون عنها كلَّ يوم مرحلة، ويدَعون أن يعمَلوا لدارٍ يرحلون إليها كلَّ يوم مرحلة!.

أيها الأحبة: يقول ابن الجوزي -رحمه الله- ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه، وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة، وأن يقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل، ولتكن نيته في الخير قائمة، من غير فتور بما لا يعجز عنه البدن من العمل.

ثم حث -رحمه الله- على أبعد من ذلك فقال: "وإذا علم الإنسان -وإن بالغ في الجد- بأن الموت يقطعه عن العمل، عمل في حياته ما يدوم له أجره بعد موته".

فإن كان له شيء من الدنيا، وقف وقفاً، وغرس غرساً، وأجرى نهراً، ويسعى في تحصيل ذرية تذكر الله بعده، فيكون الأجر له.

أو أن يصنف كتاباً من العلم، فإن تصنيف العالم ولده المخلد، وأن يكون عاملاً بالخير، عالماً فيه، فيُنْقل من فعله ما يقتدي به غيره.

ثم تحدث عن عموم حال الناس في زمانه، والصورة تتكرر في كل زمان، فقال: رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعاً عجيباً، إن طال الليل فبحديث لا ينفع، أو بقراءة كتاب فيه غزاة وسمر.

وإن طال النهار فبالنوم! وهم في أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق، فشبهتهم بالمتحدثين في سفينة وهي تجري بهم، وما عندهم خبر، ورأيت النادرين قد فهموا معنى الوجود، فهم في تعبئة الزاد والتأهب للرحيل.

فاللهَ اللهَ في مواسم العمل، والبدارَ البدار قبل الفوات، واستشهدوا العلم، واستدلوا الحكمة، ونافسوا الزمان، وناقشوا النفوس، واستظهروا بالزاد، فكأن قد حدا الحادي فلم يفهم صوته من وقع مع الندم.

ولابد -أيها الأحبة- أن نقف مع نفسنا وقفة محاسبة جادة قبل أن تحاسب، ومعنى المحاسبة، كما قال الماوردي: أن يتصفح الإنسان في ليله ما صدر من أفعالِ نَهاره، فإن كان محمودًا أمضاه، وأتبعه بما شاكلَه وضاهاه، وإن كان مذمومًا استدركه، وانتهى عن عمل مثله. اهـ.

أيها الإخوة: ومن فوائد المحاسبة الاطلاع على عيوب النفس، ومثالِبها، ونقائِصها، فمن اطلع على عيب نفسه في الغالب يبادر في إصلاحها.

ومنها أنها تربي عند الإنسان الضمير الحيّ، وتنمي الشعور بالمسؤولية، ووزن الأعمال بميزان دقيق هو ميزان الشرع، قال ابن القيم: أضرُّ الأمور على المكلّف إهمال المحاسبة والاسترسال، وتسهيل الأمور وتمشيتها؛ فإنه يؤول بذلك إلى الهلاك، وهذا حال أهل الغرور، يغمضون أعينهم عن العواقب، ويتكلون على العفو، ولم يستطيعوا فطم أنفسهم عن مواقعة الذنوب. اهـ.

ولقد ضرب سلف الأمة -رحمهم الله- أروع الأمثال في محاسبة النفس، من ذلك ما رواه أنس -رضي الله عنه- أنه سمع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يومًا في حائط يكلم نفسه قائلا: "عمر! أمير المؤمنين! بخٍ بخٍ! والله يا بُنيَّ الخطاب لتتقينَّ الله أو ليعذبنَّك!".

ومن أقوالهم بأهمية المحاسبة ما قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: نَهَارُك ضَيْفُك، فَأَحْسِنْ إلَيْهِ؛ فَإِنَّك إنْ أَحْسَنْت إلَيْهِ ارْتَحَلَ بِحَمْدِك، وَإِنْ أَسَأْت إلَيْهِ ارْتَحَلَ بِذَمِّك، وَكَذَلِكَ لَيْلُك.

وَقَالَ آخَرُ: اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ يَعْمَلانِ فِيك فَاعْمَلْ فِيهِمَا. وَقَالَ آخَرُ: اعْمَلُوا لآخِرَتِكُمْ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الَّتِي تَسِيرُ كَأَنَّهَا تَطِيرُ. وَقَالَ آخَرُ: الأَيَّامُ صَحَائِفُ أَعْمَالِكُمْ، فَخَلِّدُوهَا أَجْمَلَ أَفْعَالِكُمْ.

وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: اِقْبَلْ نُصْحَ الْمَشِيبِ وَإِنْ عَجَّلَ، وَقِيلَ: مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ، إلا وَعَظَتْ بِأَمْسٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشِيرٍ:
مَضَى أَمْسُك الأَدْنَى شَهِيدًا مُعَدَّلاً *** وَيَوْمُك هَذَا بِالْفعَالِ شَهِيدُ
فَإِنْ تَكُ بِالأَمْـسِ اقْتَرَفَتْ إسَاءَةً *** فَثَنِّ بِإِحْسَـانٍ وَأَنْتَ حَمِيدُ
وَلا تُرْجِ فِعْلَ الْخَيْرِ مِنْك إلَى غَدٍ *** لَعَلَّ غَدًا يَأْتِي وَأَنْتَ فَقِيـدُ

وقال الآخَر:
نَسِيْرُ إلى الآجَـــالِ فِي كُلِ لَحْظَةٍ *** وأعْمَارُنا تُطْوى وَهُنَّ مَرَاحِلُ
تَرَحَّلْ مِنَ الدُنْيَا بِزَادٍ مِنَ التُقَـى *** فَعُمْـــرُكَ أيْــــــــــــــامٌ وهُنَّ قَلائِــــــلُ

أيها الإخوة: بعد محاسبة النفس لابد من مشارطتها، وذلك بأن نضع للعام الجديد خطة عمل دنيوي وأخروي مفصلة، ويفضل أن تكون مكتوبة، نرتقي من خلالها بأعمالنا الصالحة، من محافظة على الواجبات، وانتهاء عن المحرمات بأنواعها، والارتقاء في سلم النوافل بأنواعها القولية والعملية البدنية والمالية.

أما أن نكون في عامنا الجديد كما كنا في العام الغابر فهذا تفريط، فنحن نمتطي عربة الليالي والأيام، تحثّ بنا السير إلى الآخرة، سمع أبو الدرداء -رضي الله عنه- رجلاً يسأل عن جنازة مرت فسأل: من هذا؟ فقال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "هذا أنت!" يعني أن الجميع إلى هذا المصيرِ صائر فاستعدّ لذلك.

ولما سئل أبو حازم: كيف القدوم على الله؟ قال:" أما المطيع فكقدوم الغائب على أهله، وأما العاصي فكقدوم العبد الآبق على سيده".

أيها الإخوة: اعلموا -رحمني الله وإياكم- أن الليل والنهار مطيتان، يباعدانك من الدنيا، ويقربانك من الآخرة، فطوبى لعبد انتفع بعمره.

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَعْرَابِيَّانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: مَنْ خَيْرُ الرِّجَالِ يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ طَالَ عُمْرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ" رواه أحمد وقال شعيب الأرنأوط صحيح الإسناد.

وكان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ اجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ" رواه مسلم.

فنسأل الله العظيم، رب العرش العظيم، أن يبارك لنا في أعمارِنا وأعمالِنا، وأن يختم بالصالحات أعمالَنا، إنه بر رحيم، وصلَّى وسلَّمَ اللهُ على محمّد.

الخطبة الثانية:

أما بعد: من الأمور التي يتبادلها الناس في هذه الأيام التهنئة بالعام الهجري، فما حكم ذلك؟ الأصل فيها الإباحة، فليست مشروعة وليست بدعة، ومن أهل العلم مَن بدأ بالتهنئة، مثل الشيخ عبد الرحمن السعدي، فقد بعث كتابا لأحد طلابه، وكان في ديباجة رسالته: ونهنئكم بالعام الجديد، جدَّدَ اللهُ علينا وعليكم النَّعَم، ودفع عنا وعنكم النقم. اهـ. والأمر فيه سعة إن شاء الله.

ومما ينتشر كل عام بين الناس عبر رسائل الجوال أو شبكات التواصل الاجتماعي أدعية يدعون أنها مما يروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لدخول السنة الجديدة، ويروون في ذلك بعض الأحاديث، ولا أعلم في ذلك شيئاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا عن سلف الأمة، فليحذر من ذلك.

أما ربط ختم الأعمال وطي الصحائف بالعام الهجري فهذا لا أصل له، فقد دلت السنة على أن أعمال العباد ترفع للعرض على الله -عز وجل- أولاً بأول، في كل يوم مرتين: مرة بالليل ومرة بالنهار.

فعَنْ أَبِي مُوسَى الأشعري -رضي الله عنه- قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لا يَنَامُ، وَلا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ" رواه مسلم.

قال النووي -رحمه الله-: الْمَلائِكَة الْحَفَظَة يَصْعَدُونَ بِأَعْمَالِ اللَّيْل بَعْد اِنْقِضَائِهِ فِي أَوَّل النَّهَار، وَيَصْعَدُونَ بِأَعْمَالِ النَّهَار بَعْد اِنْقِضَائِهِ فِي أَوَّل اللَّيْل.

كما ورد أن الأعمال تعرض على الله كل اثنين وخميس، فعن أَبِى هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تُعْرَضُ الأَعْمَالُ فِي كُلِّ يَوْمِ خَمِيسٍ وَاثْنَيْنِ، فَيَغْفِرُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِكُلِّ امْرِئٍ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، إِلا امْرَأً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا" رواه مسلم.

ثم إن ابتداء العام الهجري، كما هو معروفٌ، إنما اصطلح عليه في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فلا معنى لتخصيصها بالاستغفار والمسامحة.

أسأل الله أن يوفقنا لاتباع هدي رسولنا إنه جواد كريم.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي