سورة الذاريات هي السورة الحادية والخمسون في ترتيب المصحف الشريف، وهي ستون آية، وهي مكية، قامت على تشييد دعائم وتوجيه الأبصار إلى قدرة الله الواحد القهار، وبناء العقيدة على أسس التقوى والإيمان ..
الحمد لله مقدر الأقدار، ومؤثت الآجال والأعمار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! سورة الذاريات هي السورة الحادية والخمسون في ترتيب المصحف الشريف، وهي ستون آية، وهي مكية، قامت على تشييد دعائم وتوجيه الأبصار إلى قدرة الله الواحد القهار، وبناء العقيدة على أسس التقوى والإيمان.
بدأت بقسم الله سبحانه في قوله: (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا) [الذاريات:1]، وهي الرياح التي تذري التراب، (فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا) [2]، وهي السحاب تحمل الماء كما تحمل ذوات الأربع الوقر وهو الماء الذي فيه حياة الخلق، (فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا) [3]، هي السفن الجارية في البحر بالرياح جرياً سهلاً، (فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا) [4]، وهي الملائكة التي تقسم الأرزاق والأمطار بين العباد، (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ) [5]، جواب القسم، أي: إنما توعدون من الثواب والعقاب لكائن لا محالة.
(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ) [6]، قسَم آخر من الله سبحانه بالسماء ذات الخلق السوي، وقيل الحبك: الشدة، وقيل: الطرائق الحسنة، المحبوك في اللغة: ما أجيد عمله، (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) [7]، هذا جواب القسم، أي: إنكم يا أهل مكة لفي قول مختلف متناقض في محمد -صلى الله عليه وسلم-، فبعضكم يقول: شاعر، والبعض يقول: ساحر، والبعض يقول: مجنون، (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) [8]، أي: يصرف عن الإيمان برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبما جاء به أو عن الحق، وهو البعث والتوحيد، مَن صُرف عن الهداية في علم الله تعالى، وحُرم السعادة.
ثم دعا عليهم الله سبحانه فقال: (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) [10]، أي: لُعن الكذابون، والخراصون الكذابون الذين يخرصون فيما لا يعلمون، ومثال الخرص حزر ما على النخل من الرطب تمراً، والخراص: الذي يخرصها.
ثم وصفهم الله فقال: (الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ) [11]، أي: في غفلة وعمى وجهالة عن أمور الآخرة، ومعنى ساهون: لاهون غافلون، (يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) [12]، أي: يقولون متى يوم الجزاء؟ تكذيباً منهم واستهزاء.
ثم أخبر سبحانه عن ذلك اليوم فقال: (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) [13]، أي: يحرقون ويعذبون يقال: فتنت الذهب إذا أحرقته لتختبره، (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) [14]، أي: يقال لهم: ذوقوا عذابكم الذي كنتم تطلبون تعجيله استهزاء منكم.
ثم ذكر سبحانه حال أهل الجنة السعداء فقال: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) [15]، أي: وهم في بساتين فيها عيون جارية لا يبلغ وصفها الواصفون، (آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ) [16]، أي: راضين ما أعطاهم ربهم من الخير والكرامة؛ لأنهم كانوا في الدنيا محسنين في أعمالهم الصالحة.
ثم بيَّن الله إحسانهم فقال: (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) [17]، الهجوع: النوم بالليل دون النهار، والمعنى كانوا قليلاً ما ينامون بالليل، أي: يقومون لصلاة الليل، (وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [18]، أي: يطلبون في أوقات السحر من الله سبحانه أن يغفر لهم ذنوبهم، (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) [19]، أي: يجعلون في أموالهم على أنفسهم حقاً تقرباً إلى الله تعالى للسائل، وهو الذي يسأل الناس لفاقته، والمحروم: قيل هو الذي يتعفف عن السؤال حتى يحسبه لناس غنيا فلا يتصدق عليه.
(وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ) [20]، أي: دلائل واضحة وعلامات ظاهرة من الجبال والبر والبحر والأشجار والأنهار والثمار، وفيها آثار الهلاك للأمم الكافرة المكذبة بالرسل، وخص المؤمنين الموقنين المصدقين بالله لأنهم يعترفون بذلك، ويتدبرون فيه فينتفعون به، (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [21]، أي: وفي أنفسكم آيات تدل على توحيد الله، وصدق ما جاءت به الرسل، فإن الله خلقكم من نطفة ثم من علقة إلى أن ينفخ الروح، ثم اختلاف صُور الناس وألوانهم وطبائعهم وألسنتهم، ومعنى أفلا تبصرون؟ أي: أفلا تنظرون بعين البصيرة فتستدلون بذلك على الخالق الرازق المتفرد بالألوهية؟.
(وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) [22]، أي: سبب رزقكم، وهو المطر؛ فإنه سبب الأرزاق، وما توعدون من الجنة والنار، ومن الثواب والعقاب، (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) [23]، قسَمٌ من الله تعالى بأن ما في هذه الآيات لحق مثل نطقكم، ومعنى الآية تشبيه تحقيق ما أخبر به الله عنه بتحقيق نطق الآدمى ووجوده، فالرزق مثل النطق لا يفارق الشخص ففي حال من الأحوال.
ثم ذكر الله سبحانه قصة إبراهيم -عليه السلام- مع ضيفه؛ ليبين أنه أَهلَك بسبب التكذيب مَن أهلك من الأمم السابقة، فقال: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) [24]، أي: هل جاءك يا محمد حديث ضيف إبراهيم المكرمين عند الله سبحانه؟ لأنهم ملائكة جاءوا إليه في صورة بني آدم. قيل: هم جبريل وميكائيل وإسرافيل.
(إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا)، أي: نسلم عليك سلاماً، (قَالَ سَلَامٌ)، أي: قال إبراهيم: سلام (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) [25]، أي: أنتم قوم منكرون، قيل: أنكرهم لأنهم ابتدءوا ولم يكن ذلك معهوداً عند قومه، (فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) [26]، أي: ذهب إلى أهله خفية فجاء ضيفه بعجل سمين، وفي سورة هود: حنيذ، أي: شواه لهم، والعجل ولد البقر، (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ)، أي: وضعه بين أيديهم، (قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ) [27]؟ أنكر عليهم عدم الأكل منه، (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً)، أي: في نفسه خوفاً منهم، (قَالُوا لَا تَخَفْ)، أي: أعلَموه أنهم ملائكة مرسلون من جهة الله، (وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ) [28]، أي: يولد له ولد كثير العلم عندما يبلغ مبلغ الرجال، والمبشَّر به هو إسحاق -عليه السلام-.
(فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ)، أي: أقبلت في صيحة أو ضجة، (فَصَكَّتْ وَجْهَهَا)، أي: ضربت بيدها على وجهها كما جرت بذلك عادة النساء عند التعجب، (وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) [29]! أي: وكيف ألد وأنا عجوز عقيم لا تلد؟ استبعدت ذلك لكبر سنها، (َقالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) [30]، أي: كذلك أراد الله أنه كائن لا محالة، ولم نقل ذلك من جهة أنفسنا، وقد كانت إذ ذاك بنت تسع وتسعين سنة، وإبراهيم ابن مائة سنة.
(قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) [31]، أي: ما شأنكم وما قصتكم؟ (قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) [32]، يريدون قوم لوط، (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ) [33]، أي: لنرجمهم بحجارة متحجرة، (مُسَوَّمَةً)، أي: معلمة بعلامات تعرف بها. قيل: كان مكتوب على كل حجر من يهلك به، (عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ) [34]، أي: للمتمادين في الضلال، المجاوزين الحد في الفجور.
(فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [35]، هذا كلام من جهة الله سبحانه، أي: لما أردنا إهلاك قوم لوط أخرجنا من كان في قرى قوم لوط من قومه من المؤمنين به، (فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [36]، وهم أهل بيت لوط -عليه السلام-، (وَتَرَكْنَا فِيهَا آَيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) [37]، أي: وتركنا في تلك القرى علامة تدل على ما أصابهم من العذاب لكل من يخاف عذاب الله ويخشاه من أهل ذلك الزمان ومن بعدهم.
(وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) [38]، أي: قصة موسى لما أرسلناه إلى فرعون بالحجة الواضحة وهي العصا وما معها من الآيات، (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ)، أي: أعرض بجانبه بمجموعه وجنوده، (وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) [39]، أي: قال فرعون في حق موسى هو ساحر أو مجنون، (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ) [40]، أي: طرحناهم في البحر وأهلكناهم بالغرق حال فرعون آتٍ بما يُلام عليه حين ادعى الربوبية، وكفر بالله، وطغى في عصيانه.
(وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) [41]، أي: وتركنا في قصة عاد إذ أرسلنا لإهلاكهم الريح العقيم، وهي التي لا خير فيها ولا بركة، ولا تلقح شجراً، ولا تحمل مطراً، وإنما هي ريح الإهلاك والعذاب، ثم وصف الله سبحانه هذه الريح فقال (مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) [42]، أي: ما تذر شيئاً مرت عليه من أنفسهم وأنعامهم وأموالهم إلا جعلته كالشيء الهالك البالي.
(وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ) [43]، أي: وتركنا في قصة ثمود آية وقت قلنا لهم عيشوا في الدنيا إلى حين، وهو ثلاثة، أيام كما في قوله: (تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) [هود: 65]، (فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) [44]، أي: تكبروا عن امتثال أمر الله، (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) وهي كل عذاب مهلك، (فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ)، أي: لم يقدروا على القيام من تلك الصرعة، (وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ) [45]، أي: ممتنعين من عذاب الله بغيرهم.
(وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ)، أي: أهلكناهم من قبل هؤلاء المهلكين، (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) [46]، أي: خارجين عن طاعة الله.
(وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ)، أي: بقوة وقدرة، (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) [47]، أي: إنا لذو سعة بخلقها وخلق غيرها لا نعجز عن ذلك، (وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا)، أي: بسطناها (فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ) [48]، أي: نحن مهدناها، وتمهيد الأمور: تسويتها وإصلاحها، (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ)، أي: صنفين ونوعين من ذكر وأنثى وغيرها، (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [49]، أي: لعلكم تتذكرون فتعرفوا أن الله خالق كل شيء، وتستدلوا بذلك على توحيده، وصدق وعده ووعيده.
(فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) [50]، أي: قل لهم يا محمد: الجئوا إلى الله بالتوبة من ذنوبكم عن الكفر والمعاصي؛ فإني منه منذر بيِّن الإنذار.
عباد الله: هذه معاني بعض سورة الذاريات، وسنكمل الحديث عنها في الخطبة الثانية إن شاء الله، نفعني الله وإياكم بها، وبهدي كتابه الكريم، وسنة خاتم رسله. أقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن والاه واتبع هداه إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله، استكمالاً للحديث عن سورة الذاريات نبدأ بقوله تعالى: (وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) [51]، نهاهم عن الشرك بالله، (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) [52]، وفي هذا تسلية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببيان أن هذا شأن الأمم المتقدمة، وأن ما وقع من العرب من تكذيب له ووصفه بالسحر والجنون قد كان ممن قبلهم لرسلهم، (أَتَوَاصَوْا بِهِ)؟، أي: هل أوصى أولهم آخرهم بالتكذيب وتواطئوا عليه؟ (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) [53]، أي: لم يتواصوا بذلك بل جمعهم الطغيان، وهو مجاوزة الحد في الكفر.
ثم أمر الله سبحانه رسوله -صلى الله عليه وسلم- بالإعراض عنهم فقال: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ) [54]، أي: أعرض عنهم وكف عن جدالهم بالحق، فما أنت بعد ما فعلت ما أمرك الله به وبلغت رسالته بملوم، فقد أديت ما عليك، وهذا منسوخ بآية السيف.
ولما أمره الله بالأعراض عنهم أمره بأن لا يترك التذكير والموعظة بالتي هي أحسن فقال: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [55]، أي: ذكرهم بالعقوبة، وخُصَّ المؤمنين بالتذكير لأنهم المنتفعون بالتذكير؛ لأن القلوب المؤمنة تنتفع وتتأثر بالموعظة الحسنة.
ثم ذكر الله سبحانه الغاية من الخلق فقال (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [56]، أي: إن الله خلقهم لعبادته، فمنهم من آمن وعبد الله وأطاعه، ومنهم من كفر وأشرك به وعصاه، والعبادة في اللغة: الذل والخضوع والانقياد.
(مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) [57]، فيها بيان استغناء الله سبحانه عن عباده، وأنه لا يريد منهم منفعة كما تريده السادة من عبيدهم، بل هو الغني المطلق الغِنَى، الرزاق المعطي، (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [58]، فلا رازق سواه، ولا معطي غيره، فهو الذي يرزق مخلوقاته ويقوم بما يصلحهم فلا يشتغلوا بغير ما خلقوا له. والمتين: معناه الشديد القوة.
(فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ)، أي: ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي لهم نصيب من العذاب مثل نصيب الكفار من الأمم السابقة، (فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ) [59]، أي: لا يطلبوا مني أن أعجل لهم العذاب، (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) [60]، قيل هو يوم القيامة، فها هي السورة تختم ببيان الغاية من خلق الإنس والجن وهي عبادة الله، وتوحيده بإفراده بالعبادة وحده لا شريك له.
عباد الله: هذه لمحة عن بعض معاني سورة الذاريات، أسأل الله أن ينفعنا بما نقول ونسمع، ومن أراد زيادة استيضاح ففي تفسيرها في كتب التفاسير إيضاح واسع، وفقنا الله وإياكم إنه سميع قريب مجيب الدعاء.
وصلُّوا وسلِّموا -عباد الله- على خير خلق الله نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي