وسميت بـ "سورة الشعراء" لأن الله تعالى ذكر في آخرها أخبار الشعراء وأصنافهم، وذلك للرد على المشركين في زعمهم أن محمداً كان شاعراً، وإن ما جاء به من قبيل الشعر، فرد الله عليهم ذلك الكذب والبهتان، وسنوضح ذلك بمشيئة الله ..
الحمد لله رب العالمين، قَصَّ علينا قصص الأنبياء في كتابه الكريم بأوضح بيان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صَلَّى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه الأخيار، ومن تبِعهم على الحق والهدى إلى يوم الدين.
فيا عباد الله: سورة الشعراء هي السورة السادسة والعشرون في ترتيب المصحف الشريف وآياتها سبع وعشرون ومائتا آية، وهي سورة مكية عالجت أصول العقيدة: التوحيد والرسالة والبعث، شأنها شأن سائر السور المكية التي تهتم بجانب العقيدة وأصول الإيمان.
وسميت بــ "سورة الشعراء" لأن الله تعالى ذكر في آخرها أخبار الشعراء وأصنافهم، وذلك للرد على المشركين في زعمهم أن محمداً كان شاعراً، وإن ما جاء به من قبيل الشعر، فرد الله عليهم ذلك الكذب والبهتان، وسنوضح ذلك بمشيئة الله.
ابتدأت السورة الكريمة بموضوع القرآن العظيم الذي أنزله الله هداية للخلق، وبلسماً شافياً لأمراض الإنسانية، وذكرت موقف المشركين منه، فقد كذبوا به مع وضوح آياته، وسطوع براهينه، وطلبوا معجزة أخرى غير القرآن عناداً واستكباراً.
(طسم) [1]، إشارة إلى إعجاز القرآن الكريم، وأنه مركب من أمثال هذه الحروف الهجائية، وقيل معناها: الله أعلم بمراده، (تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) [2]، أي: هذه آيات القرآن الواضح الجلي الظاهر إعجازه لمن تأمله.
(لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [3]، أي: لعلك يا محمد مهلك نفسك لعدم إيمان هؤلاء الكفار، والمراد تسلية الرسول -صلى الله عليه وسلم- حتى لا يحزن على عدم إيمانهم، (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً)، أي: لو شئنا لأنزلنا آية من السماء تضطرهم إلى الإيمان قهرا (فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ) [4]، أي: فتظل اختياراً لا اضطراراً.
(وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ)، أي: وما يأتي هؤلاء الكفار شيء من القرآن والوحي منزل من عند الرحمن، (مُحْدَثٍ)، أي: جديد في النزول ينزل وقتا بعد وقت، (إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ)، أي: إلا كذبوا به واستهزؤوا ولم يتأملوا ما فيه من المواعظ والعبر، (فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ)، أي: فقد بلغوا النهاية في الإعراض والتكذيب فسوف يأتيهم عاقبة ما كذبوا واستهزؤوا به.
ثم نبه الله سبحانه على عظيم سلطانه وجلالة قدره في مخلوقاته الدالة على وحدانيته وكمال قدرته فقال: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) [7]، أي: أو لم ينظروا إلى عجائب الأرض كم أخرجنا فيها من كل صنف حسن محمودٍ كثير الخير والمنفعة؟.
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً)، أي: إن في ذلك الإثبات لآية باهرة تدل على وحدانية الله وقدرته، (وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) [8]، أي: ما كان أكثرهم يؤمن في علم الله تعالى، فمع ظهور الدلائل الساطعة يستمر أكثرهم على كفرهم.
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) [9]، أي: هو سبحانه الغالب القاهر القادر على الانتقام ممن عصاه، الرحيم بخلقه، حيث أمهلهم ولم يعجِّلْ لهم العقوبة، مع قدرته عليهم. وقد تكررت هاتين الآيتين: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) [8-9] تقريباً بعد ذكر قصة كل نبي مع قومه في هذه السورة الكريمة.
ثم تحدثت السورة الكريمة عن طائفة من الرسل الكرام الذين بعثهم الله لهداية البشرية، فبدأت بقصة الكليم موسى وأخيه هارون -عليهما السلام- مع فرعون الطاغية، وما جرى من المحاورة والمداورة بينهما في شأن الإله -جل وعلا-، وما أيد الله به موسى من الحجج الدامغة التي تقصم ظهر الباطل.
وقد ذكر في القصة حلقات جديدة انتهت ببيان العظة والعبرة من الفارق الهائل بين الإيمان والطغيان، وقد أخذت هذه القصة من السورة تسعاً وخمسين آية، من الآية العاشرة حتى الآية الثامنة والستين.
ثم تحدثت السورة عن قصة الخليل إبراهيم -عليه السلام- وموقفه من قومه وأبيه في عبادتهم للأوثان والأصنام، وقد أظهر لهم بقوة حجته، ونصاعة بيانه، بُطلان ما هم عليه من عبادة ما لا يسمع ولا ينفع، وأقام لهم الأدلة القاطعة على وحدانية رب العالمين الذي بيده النفع والضر، والإحياء والإماتة.
بدأت القصة بأن أمر الله عز وجل رسوله محمداً -صلى الله عليه وسلم- بأن يقص على أهل مكة خبر إبراهيم، وشأنه العظيم، حين قال لأبيه وعشيرته: أي شيء تعبدون؟ قالوا نعبد أصناماً فنبقى مقيمين على عبادتها لا نتركها، قالوا ذلك على سبيل الابتهاج والافتخار، وكان يكفيهم أن يقولوا بعبد الأصنام! ولكنهم زادوا في الوصف كالمفتخر بما صنع!.
فسألهم إبراهيم -عليه السلام- على سبيل التبكيت والتوبيخ أنْ هل يسمعون دعاءهم حين يلجؤون إليهم بالدعاء؟ أو هل يبذلون لكم منفعة أو يدفعون عنكم مضرة؟ فأجابوا قائلين: بل وجدنا آباءنا يعبدونها ففعلنا مثلهم.
قال إبراهيم: أفرأيتم هذه الأصنام التي عبدتموها من دون الله أنتم وآباؤكم الأولين فإنهم أعداء لي لا أعبدهم، ولكن أعبد الله رب العالمين، فهو وليي في الدنيا والآخرة، الله الذي خلقني هو الذي يهديني إلى طريق الرشاد وهو تعالى الذي يرزقني الطعام والشراب، وإذا أصابني المرض فإنه لا يقدر على شفائي أحد غيره، والذي يميتني إذا شاء ثم يحييني إذا أراد بعد مماتي، والذي أطمع وأرجو واسع رحمته أن يغفر لي ذنوبي يوم الحساب والجزاء.
ثم دعا الله فقال: ربِّ هب لي الفهم والعلم وألحقني في زمرة عبادة الصالحين، واجعل لي ذكراً حسناً وثناءً عطراً فيمن يأتي بعدي إلى يوم القيامة، أُذكَر به ويُقتدَى بي، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: هو اجتماع الأمم عليه، فكل أمة تتمسك به وتعظمه، واجعلني من السعداء في الآخرة الذي يستحقون ميراث جنات الخلد، واصفح عن أبي واهدِه إلى الإيمان؛ فإنه ممن ضل عن سبيل الهدى.
قيل: وقد أجاب الله تعالى إبراهيم -عليه السلام- في جميع دعواته، سوى الدعاء بالغفران لأبيه، قال القرطبي: كان أبوه وعده أن يؤمن به؛ فلذلك استغفر له، فلما بان أنه لا يفي تبرأ منه. كما دعا إبراهيم ربه فقال: ولا تذلني ولا تهني يوم تبعث الخلائق للحساب في ذلك اليوم العصيب، الذي لا ينفع أحداً فيه مالٌ ولا ولد، إلا من جاء ربه في الآخرة بقلب نقي طاهر، سليم من الشرك والنفاق والحسد والبغضاء، ثم تنتهي دعوات إبراهيم الخليل -عليه السلام-.
ثم تحدثت السورة الكريمة عن المتقين والغاوين، حيث قربت الجنة للمتقين لربهم ليدخلوها، وأظهرت النار للمجرمين الضالين حتى رأوها بارزة أمامهم مكشوفة للعيان، فالمؤمنون يرون الجنة فتحصل لهم البهجة والسرور، والغاوون يرون جهنم فتحصل لهم المآسي والأحزان.
وقيل للمجرمين على سبيل التقريع: أين آلهتكم الذين عبدتموهم من الأصنام والأنداد؟ هل ينقذونكم من عذاب الله؟ أو يستطيعون أن يدفعوه عن أنفسهم؟ فأُلقوا على رؤوسهم في جهنم، أي: رُمى بعضهم على بعض، وطُرح بعضهم على بعض منكبِّين على وجوههم، أي: الأصنام والمشركون والعابدون والمعبودون وأتباع إبليس قاطبة من الإنس والجن.
وقال العابدون لمعبوديهم وهم في الجحيم يتنازعون ويتخاصمون: نقسم بالله لقد كنا في ضلال واضحٍ وبُعدٍ عن الحق ظاهر حين عبدناكم مع رب العالمين! وجعلناكم مِثله في استحقاق العبادة! وما أضلنا عن الهدى إلا كبراؤنا الذين زينوا لنا الكفر والمعاصي، فليس لنا من يشفع لنا من هول هذا اليوم، ولا صديق خالص الود ينقذنا من عذاب الله، فلو أن لنا رجعة إلى الدنيا فنؤمن بالله ونحسن عملنا ونطيع ربنا!.
ثم بين الله سبحانه أن فيما ذكر من نبأ إبراهيم وقومه لعبرة يعتبر بها أولو الأبصار، وما أكثر هؤلاء المشركين الذين تدعوهم إلى الإسلام بمؤمنين، وأن ربك هو المنتقم من أعدائه، الرحيم بأوليائه.
ثم تابعت السورة الكريمة ذكر قصص الأنبياء: نوح وهود وصالح ولوط وشعيب -عليهم السلام-، وبينت سنة الله تعالى في معاملة المكذِّبين لرسلهم، وتذكيرهم، وإهلاكهم.
أسأل الله أن يرزقنا تلاوة كتابه الكريم، وتدبر معانيه، والعمل به، وأن نقتدي بنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وعلى آله وصحبه ومن والاه واتبع هداه إلى يوم الدين.
عباد الله: استكمالا لإيضاح بعض معاني سورة الشعراء وما تناولت من مواضيع نقول: إن السورة الكريمة بعد أن تحدثت عن قصص الرسل الكرام عادت للتنويه بشأن كتاب الله العزيز تعظيماً لشأنه، وبياناً لمصدره.
(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) [192-196]، أي: وإن ذكر القرآن وخبره لموجود في كتب الأنبياء السابقين، (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ) [197]؟ أي: أوَلم يكن لكفار مكة علامة لصحة القرآن أن يعلم ذلك علماء بني إسرائيل الذين يجدون ذكر القرآن في كتبهم؟ كعبد الله بن سلام وأمثاله.
(وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ) [198]، أي: الذين لا يقدرون على التكلم بالعربية، (فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) [199]، أي: فقرأه على كفار مكة قراءة صحيحة فصيحة، وانضمَّ إعجاز القراءة وإعجاز المقروء، ما آمنوا بالقرآن لفرط عنادهم واستكبارهم.
(كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) [200]، أي: كذلك أدخلنا القرآن في قلوب المجرمين، فسمعوا به وفهموه وعرفوا فصاحته وبلاغته، وتحققوا من إعجازه، ثم لم يؤمنوا به وجحدوا، (لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) [201]، أي: لا يصدقون به حتى يشاهدوا عذاب الله المؤلم فيؤمنوا حين لا ينفع الإيمان.
(فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [202]، أي: فيأتيهم عذاب الله فجأة وهم لا يعلمون بمجيئه، (فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) [203]؟ أي: فيقولون حين يفجأهم العذاب -تحسراً على ما فاتهم من الإيمان، وتمنيا للإمهال- هل نحن مؤخرون لنؤمن ونصدق؟.
(أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ) [204]؟، أي: كيف يستعجل العذاب هؤلاء المشركون؟ (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ) [205]، أي: أخبرني يا محمد إن متعناهم سنين طويلة، مع وفور الصحة ورغد العيش، (ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ) [206]، أي: ثم جاءهم العذاب الذي وُعدوا به، (مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) [207]، أي: هل ينفعهم ذلك النعيم في تخفيف الحزن أو دفع العذاب؟.
(وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ) [208]، أي: وما أهلكنا من أهل قرية من القرى ولا أمة من الأمم إلا بعد ما ألزمناهم الحجة بإرسال الرسل مبشرين ومنذرين، (ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ) [209]، أي: إهلاكهم تذكرة وعبرة لغيرهم؛ فلا يعصون مثل عصيانهم، وما كنا ظالمين في تعذيبهم.
(وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ) [210]، أي: وما تنزلت بهذا القرآن الشياطين، بل نزل به الروح الأمينُ جبريلُ -عليه السلام-، (وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ) [211]، أي: وما يصح ولا يستقيم أن تتنزل بهذا القرآن الشياطين، ولا يستطيعون ذلك أصلا، (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) [212]، أي: لأنهم مُنِعوا من استراق السمع منذ بعث محمد -صلى الله عليه وسلم-، وحيل بينهم بين السمع بالملائكة والشهب.
(فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ) [213]، الخطاب للرسول -صلى الله عليه وسلم-، والمراد: لا تدعُ غيره، أي: لا تعبد يا محمد مع الله معبوداً آخر (فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) [213]، أي: فيعذبك الله بنار جهنم.
ثم أمر الله رسوله بتبليغ الرسالة فقال: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [214]، أي: خوِّف أقاربك الأقرب منهم فالأقرب من عذاب الله إن لم يؤمنوا، رُوِي أنه -صلى الله عليه وسلم- قام حين نزلت عليه هذه الآية فقال: "يا معشر قريش! اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئاً. يا بني عبد مناف! لا أغني عنكم من الله شيئاً. يا عباسُ بن عبد المطلب! لا أغني عنك من الله شيئاً. يا صفية عمة رسول الله! لا اغني عنك من الله شيئاً. يا فاطمة بنت محمد! سليني ما شئتِ، لا أغني عنك من الله شيئاً" أخرجه الشيخان.
قال المفسرون: وإنما أمر بإنذار أقاربه أولاً لئلا يظن أحد به المحاباة واللطف معهم، فإذا تشدد على نفسه وعلى أقاربه كان قوله أنفع، وكلامه أوجع، (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [215]، أي: تواضع وألِنْ جانبك لأتباعك المؤمنين، (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) [216]، أي: لم يطيعوك وخالفوا أمرك فتبرأ منهم ومن أعمالهم.
(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) [217]، أي: فوِّضْ أمورك إلى الله الذي يقهَرُ أعداءك بعزته، وينصرك عليهم برحمته، (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ) [218]، أي: حين تقوم إلى الصلاة، (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) [219]، أي: يرى تقلبك مع المصلين في الركوع والسجود والقيام، (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [220]، أي: إنه تعالى السميع لما تقوله، العليم بما تخفيه.
ثم قال تعالى: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ) [221]، أي: قل يا محمد لكفار مكة: هل أخبركم على من تنزل الشياطين؟ وهذا رد عليهم حين قالوا إنما يأتيه بالقرآن شيطان، (تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) [222]، أي: تتنزل على كذاب فاجر، (يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ) [223]، أي: تُلقِي الشياطين ما استرقوه من السمع إلى أوليائهم الكهنة، وأكثرهم يكذبون فيما يوحَى به إليهم.
ثم رد الله تعالى على من زعم أن محمداً شاعر فقال: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ) [224]، أي: يتبعهم الضالون لا أهل البصيرة والرشاد، (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ) [225]، أي: ألم تر أيها السامع العاقل أنهم يسلكون في المديح والهجاء كل طريق؟ يمدحون الشيء بعد أن ذموه؟ ويعظمون الشخص بعد أن احتقروه؟ (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ) [226]، أي: يكذبون فينسبون لأنفسهم ما لم يعملوه؟.
ثم استثنى الله تعالى فقال: (إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، أي: صدقوا في إيمانهم، وأخلصوا في أعمالهم، (وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا)، أي: هجوا المشركين دفاعاً عن الحق ونصرة للإسلام.
(وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) [227]، وعيد عام في كل ظالم تتفتت له القلوب، وتتصدع لهوله الأكباد، أي: وسيعلم الظالمون المعادون لدعوة محمد -صلى الله عليه وسلم-، ومنهم الشعراء، أي مرجع يرجعون إليه، وأي مصير يصيرون إليه؟ فإن مرجعهم إلى العقاب، وهو شر مرجع، ومصيرهم إلى النار، وهو أقبح مصير.
أيها الأحبة: أسأل الله أن ينفعنا بهذه السورة الكريمة، وبكل سور القرآن، وبما نقول ونسمع. وصَلُّوا على الهادي البشير، محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله عليه وسلم-.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي