والغيث رحمة يرحم الله تعالى بها العباد والبلاد ، والبهائم والطير والحشرات ، ويحيي به الله تعالى الأرض بعد موتها ، فتهتز الأرض بالغيث المبارك بعد سكونها ، وتخضر بعد اصفرارها ، وتثمر بعد جدبها ، فتنتفع بذلك كل المخلوقات في البر والبحر
الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ؛ وسعت رحمته كل شيء ، وعم فضله كل الخلق ، فما من مخلوق إلا وناله من رحمة الله تعالى وفضله ما ناله (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) [الحشر:22] نحمده على فضله المتتابع ، ونشكره على غيثه المبارك ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الارْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [لقمان:10-11].
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، خاتم النبيين ، وإمام المرسلين، وسيد ولد آدم أجمعين ، كأن أكثر الناس استبشارا برحمة الله تعالى ، وأشدهم فرقا من عذابه ، إن رأى سحابا خاف أن يكون عذابا ، فإذا مَطَرت سُرِّي عنه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه خير صحب وآل ، والتابعين لهم بإحسان.
أما بعد :
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ، واشكروه على نعمه العظيمة ، واعلموا أنكم لن تبلغوا شكره مهما عملتم ؛ فإن إحسان الله تعالى إليكم كثير ، وفضله عليكم عظيم ، وما شكركم بجانب نعمه (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [إبراهيم:32-34].
أيها الناس: من أسماء الله تعالى الحسنى : الرحيم ، ومن صفاته العلى : الرحمة ، ومظاهر رحمته سبحانه في عباده كثيرة في خلقهم ورزقهم ، وهدايتهم وإعانتهم. وفي كل أزمانهم وأحوالهم تحيط بهم رحمة الله تعالى وعنايته ورعايته .
والغيث رحمة يرحم الله تعالى بها العباد والبلاد ، والبهائم والطير والحشرات ، ويحيي به الله تعالى الأرض بعد موتها ، فتهتز الأرض بالغيث المبارك بعد سكونها ، وتخضر بعد اصفرارها ، وتثمر بعد جدبها ، فتنتفع بذلك كل المخلوقات في البر والبحر.
وللرب جل جلاله في تقدير الغيث وإنزاله تدبير عجيب لطيف ، يدل على حكمة باهرة ، ورحمة واسعة ، لا يحيط بها العباد وصفا ولا عدا.
ومن أعظم مظاهر تلك الحكمة في التقدير ، والرحمة بالعبيد: أن الله تعالى جعل إنزال الغيث من خصائص ربوبيته سبحانه ، ولم يكل ذلك إلى أحد من خلقه (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [لقمان:34] وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : " مفتاح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله ...." فذكر الخمس المذكورة في الآية رواه البخاري ، وفي لفظ لأحمد قال عليه الصلاة والسلام : " أوتيت مفاتيح كل شيء إلا الخمس ".
وهذه الخمس من خصائص الرب جل جلاله ، وإن كان كل ما يجري في الكون هو بتقديره سبحانه ومشيئته ، وتحت حكمه وأمره ولكن هذه الخمس استأثر الله تعالى بها فلم يعهد بها لمخلوق.
إن الغيث لو كان بيد البشر ، يملكون إنزاله ومنعه لحصل فساد عريض في الأرض ، ولوقع الخلاف بين الناس حول إنزال المطر وعدم إنزاله ؛ فحاجة أهل السائمة والزرع إلى الغيث ليست كحاجة غيرهم ، فهم يستبطئونه ويريدونه ، وغيرهم يستعجلونه ويؤخرونه ، ولربما حصل اقتتال بين بني آدم بسبب ذلك .
والناس كذلك يظلم بعضهم بعضا ، وفيهم من الأثرة وحب الذات ما يجعلهم يمنعون الرزق عن غيرهم ، ولو كانوا يملكون المطر لاستأثر به الأقوياء دون الضعفاء ، ولأهلكوهم بالعطش والجدب والجوع ، أو بالأعاصير والغرق والفيضان ، وقد عايشنا أحدثا اقتصادية كُسرت فيها أُسَرٌ ، وأُفقرت بيوت ، وأفلس رجال فيما يعرف بخسائر الأسهم ، وما هي إلا من ظلم أباطرة المال لغيرهم ، وأكل أموالهم بالباطل ، ورأينا دولا مستكبرة تحبس مياه الأنهار عن جيرانها للإضرار بها، وإهلاك شعوبها ، وسمعنا عن دول ترمي فائض الإنتاج في البحار للحفاظ على ثبات الأسعار في الوقت الذي يموت فيه آلاف البشر من الجوع والمرض والبرد ، وشاهدنا دولا تغزو أخرى فتدمرها ، وتقتل بشرها ، وتهلك حرثها ونسلها من أجل شيء من ثرواتها ، وإحكام السيطرة على غيرها ، فماذا سيفعل هؤلاء وأولئك بالناس لو كانوا يملكون قطر السماء. فاعرفوا حكمة الله تعالى في تقديره ، وتأملوا رحمته بعباده ؛ إذ جعل تقدير الغيث ونزوله إليه سبحانه ، ولم يكل ذلك إلى خلقه ، وهو سبحانه من يقسمه بين عباده ، وهذا أعظم أثر من آثار رحمة الله تعالى في الغيث فنحمده سبحانه حمدا يليق بجلاله وسلطانه (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُوراً) [الفرقان:48-50]
وإذا كان تقدير الغيث إلى الله تعالى رحمة منه بعباده ؛ فإن الله سبحانه قد جعل الغيث ذاته رحمة من رحماته ، كما جعل وقته وقت رحمة ، وجعل ما قبله من الرياح والسحب مبشرات بتلك الرحمة العظيمة (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الأعراف:57] وفي آية أخرى بين سبحانه أن ذلك آية من آياته الدالة على قدرته وحكمه ، فوجب على العباد أن يشكروه على نعمه (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [الروم:46]
وكثيرا ما يبتلي الله تعالى العباد بالقحط والجفاف ، فتمسك السماء بأمره سبحانه ماءها ، وتمنع الأرض نباتها ؛ ليرجع العباد إلى ربهم ، ويضطروا إليه ، ويوقنوا بحاجتهم له ، وأنهم لا غنى لهم عنه ، فلا يزالون يسألون ربهم سؤال المضطرين ، ويستغفرونه استغفار المذنبين التائبين ، حتى إذا ما عظمت محنتهم ، واشتدت حاجتهم ، ونفدت مواردهم ، وهلكت أنعامهم ، وماتت أشجارهم ، وأقحلت مزارعهم ، ويأسوا من المطر عاجلهم الله تعالى برحمته ، فأنزل عليهم غيثا مباركا يزيل يأسهم ، ويبهج نفوسهم ، ويحيي به أرضهم ، ويسد حاجتهم. ولا يأتي على الناس عسر شديد ، وجدب ممحل إلا أعقبه الله تعالى بيسر وفرج يكون رحمة منه سبحانه لعباده (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الشرح:5-6]
وهذا المعنى العظيم في رحمة الله تعالى لعباده بالغيث عقب الشفقة والقنوط واليأس جاء النص عليه في القرآن (اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الروم:48-50]
وفي الآية الأخرى (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) [الشورى:28] وجاء في حديث أبي رزين العقيلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره" رواه ابن ماجه ، وفي لفظ آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " وعَلِمَ سبحانه يوم الغيث يشرف عليكم آزلين آزلين مشفقين فيظل يضحك قد علم أن غيَرَكُم إلى قرب ، قال لقيط: لن نعدم من رب يضحك خيرا " رواه أحمد وصححه الحاكم وابن القيم.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: " والمعنى أنه سبحانه يعجب من قنوط عباده عند احتباس القطر عنهم ، وقنوطهم ويأسهم من الرحمة ، وقد اقترب وقت فرجه ورحمته لعباده بإنزال الغيث عليهم ، وتغيره لحالهم وهم لا يشعرون".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : " ولهذا استقر في عقول الناس أنه عند الجدب يكون نزول المطر لهم رحمة " .
وقال رجل لعمر رضي الله عنه:يا أمير المؤمنين ، قحط المطر، وقنط الناس ، فقال عمر رضي الله عنه: مطرتم ، ثم قرأ (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) [الشورى: من الآية28] والغيث كذلك رحمة وقت تنزله ، وكم في قلوب البشر من الفرح به بعد الانقطاع ، والتبشير به بعد اليأس ؛ ولهذا سماه النبي صلى الله عليه وسلم رحمة ؛ كما روى مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم الريح والغيم عرف ذلك في وجهه وأقبل وأدبر فإذا مَطَرَت سُرَّ به وذهب عنه ذلك قالت عائشة: فسألته فقال إني خشيت أن يكون عذابا سلط على أمتي ويقول إذا رأى المطر رحمة " أي : هذا رحمة.
ولأن الغيث رحمة من الله تعالى شرع للمسلم التعرض له ليصيبه شيء من تلك الرحمة ؛ كما روى أنس رضي الله عنه فقال: " أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطر، قال: فحسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه حتى أصابه من المطر. فقلنا: يا رسول الله ،لم صنعت هذا ؟ قال: لأنه حديث عهد بربه تعالى " رواه مسلم.
كما شرع الدعاء حال نزوله ؛ لأن وقت تنزله وقت رحمة ، وأوقات الرحمة مرجوة الإجابة ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " والدعاء مستجاب عند نزول المطر" .
ومن الأدعية الواردة في ذلك: الدعاء ببركة الغيث ، وانتفاع الناس به ؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى المطر قال: " اللهم صيبا نافعا " وفي رواية " اللهم اجعله صيبا هنيئا ".
كما يشرع للمسلم أن يقر بافتقاره إلى الله تعالى ، وحاجته إلى رحمته وغوثه ، فينسب الفضل إليه سبحانه ، لا إلى غيره ؛ ولذلك أثنى الله تعالى في الحديث القدسي على من قال " مطرنا برحمة الله ، وبرزق الله ، وبفضل الله " وعد من قال ذلك مؤمنا به ، كافرا بالكوكب ، وذم من نسب المطر إلى النوء ، وعده كافرا به ، مؤمنا بالكوكب.
ومن الرحمة في الغيث: أنه سبب لتخفيف التكاليف الشرعية؛ لأن وقت نزوله مظنة مشقة على الناس ؛ فإن كان يشق على الناس بلوغ المساجد جاز لهم الصلاة في بيوتهم ، وشرع للمؤذنين أن يؤذنوا فيهم بالصلاة في بيوتهم ؛ كما روى ابن عمر رضي الله عنهما: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة ذات برد ومطر يقول: ألا صلوا في الرحال " متفق عليه.
فإن كان الناس في المسجد أثناء المطر فقد خفف عنهم بالجمع بين الصلاتين.
وكل هذا التخفيف من رحمة الله تعالى بعباده ؛ فهو سبحانه رحم عباده بالغيث المبارك ، ثم رحمهم برفع ما قد يسببه المطر من حرج ومشقة عليهم.
وبهذا تظهر رحمة الله تعالى لعباده في الغيث بأن جعل إنزاله من خصائصه ، وقسمه بين عباده ، فأروى به عطشهم ، وأحيا أرضهم ، وأكمل نقصهم ، وسد حاجتهم ، وجعله بركة لهم ، فشرع لهم التعرض له والدعاء عند نزوله ، ورفع عنهم الحرج ، وخفف عنهم في المشقة (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) بالبقرة: من الآية185] (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج: من الآية78] .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم....
الخطبة الثانية
الحمد لله ؛ خلق فسوى ، وقدر فهدى ، وأخرج المرعى ، فجعله غثاء أحوى ، أحمده حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ويرضى ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد :
فاتقوا الله - عباد الله - واشكروه على نعمه ؛ فإنه سبحانه قد أمر العباد أن يستغيثوا به ، وأن يطلبوا الرزق منه ؛ لأنه الباسط القابض ، المعطي المانع ،كما أمرهم أن يشكروه على ما منَّ به عليهم من أنواع الرزق الطيب الحلال المبارك (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [العنكبوت: من الآية17] أيها المسلمون: حاجة الناس إلى الماء ليست تخفى على العقلاء ؛ ولذا بالغت كثير من الدول في الاهتمام بمسألة المياه، وحثت الناس على ترشيده الاقتصاد فيه ، وخصته بوزارات تتولى استخراجه وحفظه، وتنقيته وإيصاله إلى الناس تسمى وزارات المياه ، وكم تعقد من مؤتمرات وندوات لإيجاد حلول في الدول التي تعاني من مشاكل نقص المياه. بل أضحى الماء سلاحا تلوح به بعض الدول في وجوه جيرانها لتحجز عنهم مياه الأنهار والسيول بإنشاء الحواجز والسدود ، وفي الحروب تضرب السدود لإغراق المدن والقرى ، وإفساد الزروع ، وإهلاك الماشية ، كما تضرب خزانات المياه ومحطات تحليته لحمل المضروبين على الاستسلام.
ولو قطع الماء عن البيوت يوما أو يومين لرأيتم شدة الزحام والخصام على وسائل نقل المياه ، ولو طال ذلك أسبوعا أو أسبوعين لأنتن الناس في أجسادهم وثيابهم وبيوتهم ، فكيف لو امتد أشهرا أو سنوات ، نسأل الله تعالى الرحمة والعافية.
وإذا كان الأمر كذلك فإن علاج مشكلة نقص المياه يكون بطاعة الله تعالى ، والانتهاء عن المعاصي ؛ لأن الغيث بيد الله سبحانه ، وهو من رزقه (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً) [غافر: من الآية13] ورزق الله تعالى يطلب بطاعته وشكره (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة:172] فكيف يريد الناس علاج مشاكل المياه بحوارات وندوات وتوعية وإجراءات ، ليس فيها حث على طاعة الله تعالى ، والانتهاء عن معاصيه ، والماء ماء الله تعالى ، والغيث غيثه.
وفي الوقت الذي تعاني فيه الدول من نقص المياه لا يزال أهل النفاق والفساد فيها يبثون سمومهم في المجتمعات ، ويعلنون رفضهم لشريعة الله تعالى ، ويودون نشر الشهوات ، وقسر الناس عليها ، والإعلام المفسد بقنواته وصحفه يبارز الله تعالى جهارا نهارا ، والساكت في الناس كثير ، والمنكر قليل.
بل إن كثيرا من الناس يقابلون الغيث المبارك الذي أنعم الله تعالى عليهم به بعد شدة الحاجة بأنواع المعاصي والمحرمات ، فيسيحون في أرض الله تعالى للتمتع بما أنزل عليهم من رزق السماء ، ومعهم آلات لهوهم وطربهم ، ولا يبالون بحجاب نسائهم وبناتهم ، فيقع من جراء ذلك فتنة وفساد عريض.
فأين شكر الله تعالى على نعمه ، وأين أهم علاج لقلة المياه وازدياد التصحر ، وهو الاستقامة على أمر الله تعالى ، والانتهاء عن معاصيه ، والله تعالى يقول (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً) [الجـن:16] وفي الآية الأخرى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف:96] إن أعظم مشكلة تجر إلى مشاكل عدة هي ضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، واجتراء المنافقين والأراذل على شريعة الله تعالى ، وانتهاكهم لحرماته ، ونشر الفسوق والعصيان في الناس ، حتى لا يبقى من ينكر منكرا ، فيستوجب العباد سخط الله تعالى ونقمته وعقوبته ، وقد عذب الله تعالى الأمم السابقة بسبب كفرهم وعصيانهم ، وقص الله سبحانه أخبارهم في القرآن ، فخذوا العبرة منهم ، وإياكم أن تسيروا سيرتهم ، بل ائتمروا بالمعروف ،وتناهوا عن المنكر ، وخذوا على أيدي السفهاء منكم ، وأطروهم على الحق أطرا ، واقصروهم على الحق قصرا، فإنكم إن فعلتم ذلك رضي الله تعالى عملكم ، وشكر سعيكم ، وأفاض عليكم من خيرات السماء ، وأخرج لكم من بركات الأرض ورزقكم من حيث لا تحتسبون ، وبارك لكم فيما رزقكم ، ودفع عنكم النقم والمصائب.
وصلوا وسلموا على نبيكم...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي