إنَّ مُعالجةَ الأخطاء التي تقع فيها الدولة لا بد أن تكون بالطرق المعتبرة شرعا، وبالأساليب التي يتحقق بها الغرض المنشود من الإنكار، وهو زوال المنكر أو تقليله بما يحفظ هيبة الدولة وأمن المجتمع. إن إنكار المنكر يحتاج إلى فقهٍ وسياسة شرعية؛ حتى لا تحدث بسبب ذلك مفاسد أبلغ مما يسعى المنكِر لإنكارها؛ لقد ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- إقامة الحدِّ على رأس المنافقين وأقامه على مَن شَهِدَ بدراً؛ لمصلحة عظمى، ودرءا لمفسدة كبرى.
أما بعد: تحدثنا في الخطبة الماضية عن فتنة الشبهات المتمثلة في الأفكار الضالة، والأعمال الفاسدة التي تبناها بعض أبناء هذه البلاد من تكفير وتفجير، وإفساد وتدمير.
وإن من الأمور المهمة في علاج هذه الظاهرة دقة التشخيص، ومعرفة حقيقة المرض ومسبباته؛ حتى نجد له العلاج الناجع.
ولا زلنا نقول: لماذا يقدم شبابنا على انتهاج مسالك العنف، وتبنِّي مثل هذه الأعمال؟ نحن نعلم أن بعض من سلكوا مسلك المواجهة لم يدفعهم لذلك إلا الغيرة؛ ولهذا يجب أن نقول للشباب بوضوح تام: يا شباب، إن الغيرة وحدها لا تكفي لعلاج الخطأ، الغيرة لابد أن يضبطها الشرع, ولابد أن تتوافق مع أحكامه, وإلا فقد تتحول من غيرة محمودة إلى غيرة مذمومة, وقد يأثم صاحبها بسببها من حيث يريد الأجر والقربة.
ونحن نعلم أن بعض هؤلاء الشباب يرى أن منهجه شرعي, ويستند فيه إلى أقوال وفتاوى, لكننا نقول: هذا وحده لا يكفي للتصدر لمثل هذه القضايا العظام التي تراق فيها الدماء, وتستباح بسببها الحرمات؛ لأن هذه الأحكام لا يقررها إلا الجهابذة من العلماء وفرسان الفتيا الذين يوقِّعون عن الله تعالى؛ (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) [النساء:83].
ونحن نعلم كذلك إن بعض هؤلاء الشباب يقول: إن هناك أخطاءً تقع فيها الدولة يجب إنكارها, وعدم السكوت عليها, وبيان مخالفتها للشريعة؛ ولكننا نقول: إن معالجة تلك التجاوزات والأخطاء لا يصلح أن تكون بأخطاء تسهم في تثبيتها، أو الإصرار عليها، أو تفتح مجالا للمشبوهين من ذوي الأفكار المنحرفة لإثبات أنهم البديل الأكثر ولاء، والأصدق حبا، والأعقل طرحا ومعالجة.
أيها الشباب: لقد سَبَقَنا علماء كبار لا نتَّهمهم في دينهم، ونحسب أنهم حطوا رحلهم في الجنان بإذن الله وفضله, كانوا أصدق في لهجتهم، وأصفى في طريقتهم، وأنصح للأمة، وأبرَّ مـمن جاء بعدهم، ومع هذا لم يتخذوا من العنف مسلكا، ولا من التفجير مركبا.
لقد رأوا أخطاء لم يسكتوا عنها، بل ناصحوا فيها أهل الشأن بصدق، وكاتبوا وواجهوا وأعذروا أمام الله، ولم يفتحوا باب شرٍّ على الناس، تستباح فيه حرماتهم، وتراق فيه دماؤهم.
أين هؤلاء الأئمة من شاب لم يتجاوز العقدين من عمره، ومع هذا تراه وقد اقتحم غمار المسائل العظام، التي لو عرضت على ابن الخطاب -رضي الله عنه- لجمع لها أشياخ بدر رضي الله عنهم أجمعين؟!.
إنَّ معالجةَ الأخطاء التي تقع فيها الدولة لا بد أن تكون بالطرق المعتبرة شرعا، وبالأساليب التي يتحقق بها الغرض المنشود من الإنكار، وهو زوال المنكر أو تقليله بما يحفظ هيبة الدولة وأمن المجتمع.
إن إنكار المنكر يحتاج إلى فقهٍ وسياسة شرعية؛ حتى لا تحدث بسبب ذلك مفاسد أبلغ مما يسعى المنكِر لإنكارها.
لقد ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- إقامة الحدِّ على رأس المنافقين وأقامه على مَن شَهِدَ بدرا؛ لمصلحة عظمى، ودرءا لمفسدة كبرى.
كما ترك بناء الكعبة على قواعد إسماعيل -عليه السلام- خوفا من مفسدة أعظم قد تقع بسبب تلك المصلحة التي تمناها -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم-.
وصالَح كُفار قريش يوم الحديبية على أن يرد إليهم كلَّ من أتاه مسلما فارَّا بدينه، وأجابهم على محوْ كلمة (رسول الله) من عقد الصلح، وعدم كتابة اسم (الرحمن الرحيم) في بدايته، حتى قال عمر -رضي الله عنه-: علام نعطي الدنية في ديننا؟!.
عباد الله: إنَّ مما تجدر الإشارة إليه والتأكيد عليه، لكل مَن يعيش في هذه البلاد المباركة، أن يعرف لها قدرها، ويرعى حرمتها، ويحافظ على أمنها، فهي قبلة المسلمين، ومعقل التوحيد، وأرض الشريعة.
سبحان الله! مَاذا يَنْقِمُ المفسدون مِنَ هذه البِلادِ؛ والأمْنُ فِيهَا مُسْتَتِبٌّ ووارِفٌ؟! ماذَا يَنْقِمونَ مِنَ هذه البِلاد؛ ولَو رأوا غَيرَها مِنَ البُلْدانِ ورَأوا ما فِيهَا مِنْ فِتَنٍ وقَلاقِلَ لعَلِمُوا فَضْلَ هَذِه البِلادِ عَلَى غَيرهَا؟! ماذَا يَنْقِمُونَ مِنَ هذه البِلاد؛ وشَعَائِرُ التَّوحيدِ والسُّنَّةِ فيهَا قَائِمَةٌ، وعَلامَاتُ الدِّينِ ظَاهِرَةٌ؟! ماذَا يَنْقِمُونَ مِنَ هذه البِلاد؛ وهِيَ البِلادُ الوَحيدَةُ في الدُّنْيَا التي تُحَكِّمُ شَرْعَ الله؟!.
يَقولُ شيخنا ابنُ بَازٍ رحمِهُ الله: "أيُّ دَولَةٍ تَقُومُ بالتَّوحيدِ الآنَ؟! مَنْ هوَ الذي يَقُومُ بالتَّوحيدِ الآنَ ويُحَكِّمُ شَرِيعَةَ الله ويهدِمُ القُبُورَ التي تُعْبَدُ مِنْ دَونِ الله؟!" اهـ.
وقَالَ ابنُ عُثَيمينَ رَحمهُ الله: "لا يُوجَدُ -والحَمدُ للهِ- مِثلُ بِلادِنَا اليَومَ في التَّوحيدِ وتحكيمِ الشَّريعَةِ، وهِيَ لا تَخْلُو مِنَ الشَّرِّ كسَائرِ بلادِ العَالَمِ، بَلْ حَتَّى المدينَة النَّبويَّة في عَهْدِ النَّبِيِّ وُجِدَ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ شَرٌّ" اهـ.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم.
الحمد لله على إحسانه....
عباد الله: اعلموا -وفقكم الله- أنه لا يَقُومُ الأمنُ ولا تستقر الحياة في البلاد إلا بتحقيق أمْرَينِ: السمع والطاعة لولاة الأمر، ولزوم طاعة الله -سبحانه-.
الأمر الأول: السَّمْعُ والطَّاعَةُ لِوُلاَةِ الأمُورِ في المَنْشَطِ والمَكْرَه، كما رَوى الإمام مُسْلِمٌ أنَّ عبدَ الله بنَ عُمرَ جَاءَ إلى عبدِ الله بنِ مُطيعٍ حينَ كَانَ مِنْ أمرِ الحَرَّةِ مَا كَانَ زَمَنَ يَزيدِ بنِ مُعاويَةَ، فقَالَ عبدُ اللهِ بنَ مُطيعِ: اطْرَحُوا لأبي عَبدِ الرَّحمنِ وِسَادةً، فقَالَ: إنِّي لم آتِكَ لأجْلِسَ، أتَيتُكُ لأحَدِّثَكَ حَديثًا، سَمِعتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَن خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ الله يَومَ القيَامَةِ لا حُجَّةَ لهُ، ومَنْ مَاتَ ولَيسَ في عُنُقِهِ بَيعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهليَّةً".
قال ابنُ حَجَرٍ -رَحمه الله-: "قَدْ أجمَعَ الفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ طَاعَةِ السُّلْطَانِ المتَغَلِّبِ، والجِهَادِ مَعَهُ، وأنَّ طَاعَتَهُ خَيرٌ مِنَ الخُرُوجِ عَلَيهِ، لما فِي ذَلِكَ مِنْ حَقْنِ الدِّمَاءِ، وتَسْكينِ الدَّهْمَاءِ" اهـ.
إن بلادنا المباركة تعيش مرحلةً خطيرة، ومنعطفًا صَعبًا، فلا بدّ من تماسُك الصفّ، مع بذل النصيحة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وطريقُ التغيير إنما يكون بالإصلاح والبناء، لا بالهدم والتدمير.
الأمر الثاني: لُزُومُ طَاعَةِ اللهِ سُبْحَانَهُ، فَهِيَ مِنْ أهمِّ مُقَوِّمَاتِ الأمنِ، يَقُولُ اللهُ سُبْحَانَهُ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام:82].
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي