فريضة طلب الحلال من بين سائر الفرائض، أعصاها على العقول فهمًا، وأثقلها على الجوارح فعلاً، ولذلك اندرست بالكلية علمًا وعملاً، وصار غموض علمها سببًا لاندارس العمل بها، قال تعالى: (ي?أَيُّهَا ?لرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ?لطَّيّبَـ?تِ وَ?عْمَلُواْ صَـ?لِحاً إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ). أمر بالأكل من الطيبات قبل العمل. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كن ورعًا تكن أعبد الناس" ..
أيها المسلمون: فريضة طلب الحلال من بين سائر الفرائض، أعصاها على العقول فهمًا، وأثقلها على الجوارح فعلاً، ولذلك اندرست بالكلية علمًا وعملاً، وصار غموض علمها سببًا لاندارس العمل بها، قال تعالى: (ياأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيّبَـاتِ وَعْمَلُواْ صَـالِحاً إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [المؤمنون:51]. أمر بالأكل من الطيبات قبل العمل.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كن ورعًا تكن أعبد الناس". وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فضل العلم أحب إليّ من فضل العبادة، وخير دينكم الورع"، وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "إنكم لتغفلون عن أفضل العبادة، هو الورع". وقال إبراهيم بن أدهم: "ما أدرك من أدرك إلا من كان يعقل ما يدخل جوفه".
وعن معاوية بن قرة: "دخلت على الحسن وهو متكئ على سريره، فقلت: يا أبا سعيد: أي الأعمال أحب إلى الله؟! قال: الصلاة في جوف الليل والناس نيام. قلت: فأي الصوم أفضل؟! قال: في يوم صائف. قلت: فأي الرقاب أفضل؟! قال: أنفسها عند أهلها وأغلاها ثمنًا. قلت: فما تقول في الورع؟! قال: ذاك رأس الأمر كله".
إذا علم ذلك -أيها الأحبة-، فما هو الورع الذي هو رأس الأمر كله؟! قيل في تعريفه: هو النظر في المطعم واللباس، وترك ما به بأس، وقيل: تجنب الشبهات ومراقبة الخطرات. وقيل: هو ترك ما لا بأس به حذرًا مما به بأس.
وقال ابن القيم -رحمه الله-: "الورع: هو ترك ما يخشى ضرره في الآخرة".
يا أهل الإيمان، يا من تؤمنون بالله وبلقائه: استمعوا إلى هذا الحديث النبوي وفتشوا عن هذه الصفات في أنفسكم وحاسبوا أنفسكم؛ عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طعمة"، فأبشر ثم أبشر -يا من تتورع عن الشبهات والحرام-، فوالله ما فاتك ما يجمعون من الحرام، والله هو الموعد (وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَـافِسُونَ) [المطففين:26].
عن الحسن بن علي -رضي الله عنهما- قال: حفظت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة".
وهذه بشارة ثانية عظيمة جد عظيمة يعقلها من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، عن أبي قتادة وأبي الدهماء -رضي الله عنهما- قالا: أتينا على رجل من أهل البادية فقلنا: هل سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا؟! قال: نعم سمعته يقول: "إنك لن تدع شيئًا لله -عز وجل- إلا أبدلك الله به ما هو خير لك منه". وفي رواية: أخذ بيدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجعل يعلمني مما علمه الله -تبارك وتعالى- وقال: "إنك لن تدع شيئًا اتقاءً لله -عز وجل- إلا أعطاك الله خيرًا منه".
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اشترى رجل من رجل عقارًا له، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب، فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك مني، إنما اشتريت منك الأرض ولم أبتع منك الذهب، وقال الذي له الأرض: إنما بعتك الأرض وما فيها، فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟! قال أحدهما: لي غلام، وقال الآخر: لي جارية. قال: أنكحوا الغلام الجارية، وأنفقوا على أنفسهما منه وتصدقا".
أيها الأخ المسلم: وتأمل -يا رعاك الله وحفظك- في العقوبة العظيمة لمن ترك الورع، ويا لها من عقوبة يستشعرها من في قلبه حياة، وما لجرح بميت إيلام؛ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أيها الناس: إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: (ياأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيّبَـاتِ وَعْمَلُواْ صَـالِحاً إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [المؤمنون:51]. وقال: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَـاكُمْ وَشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة:172]. ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟!"، أي كيف يستجاب له؟!!
رحماك يا رب رحماك، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك.
وهذه بشارة عظيمة وكرامة نفيسة لمن صبروا قليلاً واستراحوا طويلاً -رضي الله عنهم وأرضاهم-، ولمن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين. فاللهم اسلك بنا سبيلهم، واحشرنا في زمرتهم.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم ونحن عنده: "طوبى للغرباء". فقيل: من الغرباء يا رسول الله؟! قال: "أناس صالحون، في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم".
قال: وكنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا آخر حين طلعت الشمس، فقال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "سيأتي أناس من أمتي يوم القيامة نورهم كضوء الشمس"، قلنا: من أولئك يا رسول الله؟! فقال: "فقراء المهاجرين، والذين تتقى بهم المكاره، يموت أحدهم وحاجته في صدره، يحشرون من أقطار الأرض".
أيها المسلمون: ولله در ذلك المسؤول الذي أحسبه -والله حسيبه- من أولئك الورعين الغرباء الممدوحين المغبوطين على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، الذي لا يرضى من موظفيه والعمال التابعين لإدارته أن يوصلوا الماء الحلو إلى بيته؛ ذلك أنه لا يرضى أبدًا باستخدام السيارة في غير العمل والدوام.
وعلى العموم فابك على الورع وأهله، فإننا نرى اليوم أمرًا مهولاً مخيفًا من شدة الجرأة، والحرص على الحرام واستمرائه، بل والشبع منه، فويل لهم مما يكسبون.
عن طريف أبي تميمة قال: شهدت صفوان وجندبًا وأصحابه وهو يوصيهم فقالوا: هل سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا؟! قال: سمعته يقول: "من سمع سمع الله به يوم القيامة"، قال: "ومن شاق شق الله عليه يوم القيامة"، فقالوا: أوصنا: فقال: "إن أول ما ينتن من الإنسان بطنه، فمن استطاع أن لا يأكل إلا طيبًا فليفعل".
وإليك نماذج سريعة تطبيقية من حال سيد الورعين -صلى الله عليه وسلم- ومن حياة صاحبيه -رضي الله عنهما-.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن الحسن بن علي -رضي الله عنهما- أخذ تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- بالفارسية: "كخ كخ، أما تعرف أنا لا نأكل الصدقة!!".
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إني لأنقلب على أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي، ثم أرفعها لآكلها، ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها".
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان لأبي بكر غلام يخرج به الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يومًا بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال الغلام: أتدري ما هذا؟! فقال أبو بكر: وما هو؟! قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أحسن الكهانة، إلا أنني خدعته فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه. فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه". الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، إنه الصديق وكفى.
وهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف في أربعة، وفرض لابن عمر ثلاثة آلاف وخمسمائة. فقيل له: هو من المهاجرين، فلم نقصته من أربعة آلاف؟! فقال: "إنما هاجر به أبواه، يقول: ليس هو كمن هاجر بنفسه". فلله دره ورضي الله عن أبي حفص وأرضاه، ما كان أشد ورعه عن مال المسلمين!!
فمن يجاري أبـا حفـص وسيرته *** أمن يحـاول للفـاروق تشبيهًا
إذا اشتهت زوجته الحلوى فقال لها *** من أين لي ثمن الحلوى فأشريها
مـا زاد عـن قوتنا فالمسلمون به *** أولى فقومي لبيت المـال رديها
أقول ما سمعتم، والله أسأل لي ولكم الهدى والتقى والعفاف والغنى، إنه جواد كريم والحمد لله رب العالمين.
عباد الله: وهذه نماذج عطرة من كلمات وأفعال من أعلى الله منارهم، ورفع ذكرهم، ونشر علمهم، من حملة ميراث النبوة من علماء السلف الصادقين الورعين.
قال سفيان الثوري -رحمه الله-: "عليك بالورع يخفف الله حسابك، ودع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وادفع الشك باليقين يسلم لك دينك ".
وعن قتيبة بن سعيد قال: "لولا سفيان لمات الورع".
قال حبيب -يعني ابن أبي ثابت رحمه الله-: "لا يعجبكم كثرة صلاة امرئ ولا صيامه، ولكن انظروا إلى ورعه، فإن كان ورعًا مع ما رزقه الله من العبادة فهو عبد لله حقًّا".
وقال أبو حامد الغزالي: "لن يعدم المتورع عن الحرام فتوحًا من الحلال".
وعن طاوس -رحمه الله تعالى- أنه قال: "مثل الإسلام كمثل شجرة، فأصلها الشهادة، وساقها كذا وكذا، وورقها كذا -شيء سماه-، وثمرها الورع، لا خير في شجرة لا ثمر لها، ولا خير في إنسان لا ورع له".
قال الحسن البصري -رحمه الله-: "أفضل العلم الورع والتوكل".
قال الحسن بن عرفة: "قال لي ابن المبارك: استعرت قلمًا بأرض الشام، فذهبت على أن أرده، فلما قدمت مرو، نظرت فإذا هو معي، فرجعت إلى الشام حتى رددته على صاحبه".
قال أبو بكر المروزي: "سمعت أبا عبد الله -أحمد بن حنبل- وذكر ورع ابن المبارك فقال: إنما رفعه الله بمثل هذا".
فالله الله بالتمسك بأخلاق هؤلاء؛ فإنما هي أيام قلائل، فلا تغتر بكثرة الهالكين؛ فإنك اليوم تسمع أخبارًا مؤلمة مخيفة عن ضياع الأمانة وكثرة الخونة الذي يرتعون في أموال المسلمين دون حسيب ولا رقيب، فإلى الله وحده المشتكى، والله الموعد، وإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، وحسبك وصف القرآن والسنة لهؤلاء بالخيانة والسرقة، وعند الله تجتمع الخصوم.
فعليك -يا أخي الحبيب- بالصبر والمصابرة وسؤال أهل العلم عما أشكل، وضع نصب عينيك هذا الحديث العظيم الذي هو أصل من أصول الدين.
عن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى المشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كراعٍ يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".
وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أيها الناس: اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن نفسًا لن تموت حتى تستوفي رزقها، وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل، ودعوا ما حرم".
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي