الإحسانُ كالمسك ينفع حامله وبائعه ومشتريه، وقد ثبت في الحديث أن شَربة ماء قدَّمَتْها امرأةٌ بغِيٌّ زانيةٌ لكلبٍ عقورٍ أثمَرَتْ دُخول جنَّة عرضُها السَّمواتِ والأرض؛ لأن صاحب الثواب غَفورٌ شكورٌ، غنيٌّ حميدٌ، جَوَادٌ كريمٌ، فلا تحتقر -أخي المحسن- إحسانَك وجودك وعطاءك، مهْما قَلَّ.
أما بعد:
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [البقرة:195].
يذكر أن رجلاً نزل هو وولده وادياً، انشغل الرجل بعمله، وأخذ الولد الصغير يلهو بكلمات وأصوات، فوجئ الولد أن لهذه الأصوات صدى يعود إليه، فظن أن هناك مَن يكلمه أو يرد عليه، فقال: من أنت؟ فعاد الصدى: من أنت؟ قال الولد: أفصح لي عن شخصك؟ فرد عليه: أفصح لي عن شخصك؟ فقال الولد غاضبًا: أنت رجل جبان وتختفي عني، فرجعت إليه العبارة نفسها، فقال الولد: إن صاحب الصوت يستهزئ بي ويسخَر منه، فانفعل وخرج عن طوره، وبدأ يسبّ ويلعن، وكلّما سب أو لعن رجَعت عليه مثلها.
جاء الوالد ووجد ولده منهارًا مضطربًا، فسأله عن السبب، فأخبره الخبر، فقال له: هوّن عليك يا بنيَّ، وأراد أن يعلّمه درسًا عمليًا، فصاح بأعلى صوته: أنت رجل طيّب، فرجع إليه الصوت: أنت رجل طيب، ثم قال: أحسن الله إليك، فكان الردّ: أحسن الله إليك، وكلّما قال كلامًا حسنًا كان الرد بمثله.
سأل الولد والده -بدهشة واستغراب- لماذا يتعامل معك بطريقة مؤدّبة ولا يُسمعك إلا كلامًا حسنًا؟! فقال له الأب: يا بني، هذا الصوت الذي سمعته هو صدَى عملك، فلو أحسنتَ المنطِق لأحسن الردّ، ولكنك أسأت فكان الجزاء من جنس العمل.
أيها الأحبة: أتحدث إليكم اليوم عن صفة نبيلة، وخصلة جليلة، يحبها الله، ويحب أهلها، إنها الإحسان -يا أهل الإحسان- (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [البقرة:195].
إذا أحسن المسلم إلى الآخرين في هذه الدنيا، كانت النتيجة إحسانَ الله إليه في الدنيا والآخرة.
إن أول المستفيدين من الإحسان هم المحسنون أنفسهم، يجنون ثمراتِه عاجلاً في نفوسهم وأخلاقهم وضمائرهم؛ فيجدون الانشراح والسكينة والطمأنينة.
جرب -يا أخي- إذا طاف بك طائف من هَمٍّ، أو ألمّ بك غم، فامْنَحْ غيرك معروفًا، وأَسْدِ له جميلاً تجِد السرور والراحة. أعط محرومًا، انصر مظلومًا، أنقذ مكروبًا، أعِنْ منكوبًا، عُدْ مريضًا، أطعِمْ جائعًا؛ تجد السعادة تغمرك مِن بين يديك ومِن خلفك.
أما الثمرة في الآخرة فتأمل معي هذه القصة العجيبة، فقد ثبت في الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: جَاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا فَأَطْعَمْتُهَا ثَلَاثَ تَمَرَاتٍ فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً وَرَفَعَتْ إِلَى فِيهَا تَمْرَةً لِتَأْكُلَهَا، فَاسْتَطْعَمَتْهَا ابْنَتَاهَا، فَشَقَّتْ التَّمْرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهَا بَيْنَهُمَا، فَأَعْجَبَنِي شَأْنُهَا، فَذَكَرْتُ الَّذِي صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الْجَنَّةَ" أَوْ "أَعْتَقَهَا بِهَا مِنْ النَّارِ".
ومن عجائب أخبار السلف الصالح ما روى أهل السير عن أحمدَ بنِ مسكين أحدِ علماءِ القرن الثالث الهجري في البصرة، قال: امتُحِنت بالفقر سنة تسع عشرة ومائتين، فلم يكن عندنا شيء، ولي امرأة وطفلها، وقد طوينا على جوع يخسف بالجوف خسفا، فجمعت نيتي على بيع الدار والتحوّل عنها، فخرجت أتسبب لبيعها فلقيني أبو نصر، فأخبرته بِنَيَّتي لبيع الدار، فدفع إلي رُقاقتين من الخبز بينهما حلوى، وقال: أطعمها أهلك.
ومضيت إلى داري، فلما كنت في الطريق لقيتني امرأة معها صبي، فنظَرَت إلى الرقاقتين وقالت: يا سيدي، هذا طفل يتيم جائع، ولا صبر له على الجوع، فأطْعِمْهُ شيئًا يرحمك الله، ونظر إليّ الطفل نظرة لا أنساها، وخيّل إليّ حينئذ أن الجنة نزلت إلى الأرض تعرض نفسها على من يشبِع هذا الطفل وأمه، فدفعت ما في يدي للمرأة، وقلت لها: خذي وأطعمي ابنك. والله ما أملك بيضاء ولا صفراء، وإن في داري لمن هو أحوج إلى هذا الطعام، فدمعت عيناها، وأشرق وجه الصبي.
ومشيت وأنا مهموم، وجلست إلى حائط أفكر في بيع الدار، وإذ أنا كذلك إذ مرّ أبو نصر وكأنه يطير فرحًا، فقال: يا أبا محمد، ما يجلسك ها هنا وفي دارك الخير والغنى؟! قلت: سبحان الله! ومن أين يا أبا نصر؟! قال: جاء رجل من خراسان يسأل الناس عن أبيك أو أحدٍ من أهله، ومعه أثقال وأحمال من الخير والأموال، فقلت: ما خبره؟ قال: إنه تاجر من البصرة، وقد كان أبوك أودَعه مالاً من ثلاثين سنة، فأفلس وانكسر المال، ثم ترك البصرة إلى خراسان، فصلح أمره على التجارة هناك، وأيسَر بعد المحنة، وأقبل بالثراء والغنى، فعاد إلى البصرة وأراد أن يتحلّل، فجاءك بالمال وعليه ما كان يربحه في ثلاثين سنة.
يقول أحمد بن مسكين: حمدت الله وشكرته، وبحثت عن المرأة المحتاجة وابنها، فكفيتهما وأجرَيت عليهما رزقا، ثم اتَّجرت في المال، وجعلت أُرَبِّيه بالمعروف والصنيعة والإحسان وهو مقبل يزداد ولا ينقص، وكأني قد أعجبني نفسي وسرني أني قد مُلِئت سجلاتُ الملائكة بحسناتي، ورجوت أن أكون قد كُتبتُ عند الله في الصالحين، فنمت ليلة فرأيتُني في يوم القيامة، والخلق يموج بعضهم في بعض، ورأيت الناس وقد وُسِّعَتْ أبدانُهم، فهم يحملون أوزارهم على ظهورهم مخلوقة مجسّمة، حتى لَكَأنَّ الفاسق على ظهره مدينة كلها مخزيات.
ثم وضعت الموازين، وجيء بي لوزن أعمالي، فجعلت سيئاتي في كفة وألقيت سجلات حسناتي في الأخرى، فطاشت السجلات، ورجحت السيئات، ثم جعلوا يلقون الحسنة بعد الحسنة مما كنت أصنعه، فإذا تحت كل حسنةٍ شهوةٌ خفيةٌ من شهوات النفس؛ كالرياءِ والغرورِ وحبِ المحمدة عند الناس، فلم يسلمُ لي شيء، وهلكتُ عن حجتي وسمعتُ صوتًا: ألم يبق له شيء؟ فقيل: بقي هذا، وأنظر لأرى ما هذا الذي بقي، فإذا الرقاقتان اللتان أحسنت بهما على المرأة وابنها، فأيقنت أني هالك، فلقد كنت أُحسِنُ بمائةِ دينارٍ ضربةً واحدة فما أغنَت عني، فانخذلت انخذالاً شديدًا، فوُضِعَت الرقاقتان في الميزان، فإذا بكفة الحسنات تنزل قليلاً ورجحت بعضَ الرجحان، ثم وُضعت دموع المرأة المسكينة التي بكت من أثر المعروف في نفسها، ومن إيثاري إياها وابنها على أهلي، وإذا بالكفة ترجُح، ولا تزال ترجُح حتى سمعت صوتًا يقول: قد نجا. وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، "اتقوا النار ولو بشق تمرة".
عباد الله: الإحسانُ كالمسك ينفع حامله وبائعه ومشتريه، وقد ثبت في الحديث أن شَربة ماء قدمتها امرأةٌ بغِيٌّ زانيةٌ لكلبٍ عقورٍ أثمَرَتْ دُخول جنَّة عرضُها السَّمواتِ والأرض؛ لأن صاحب الثواب غَفورٌ شكورٌ، غنيٌّ حميدٌ، جَوَادٌ كريمٌ؛ فلا تحتقر -أخي المحسن- إحسانَك وجودك وعطاءك، مهْما قَلَّ.
أخي الحبيب: هل تريد أن تُنَفّس كربتُك ويزولَ همُّك؟ فرج كربات للمساكين. هل تريد التيسير على نفسك؟ يسر على المعسرين. هل تريد أن يستر الله عليك؟ استر عباد الله. والجزاء من جنس العمل.
في صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على مُعْسِرٍ يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه".
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "مَن رفق بعباد الله رفق الله به، ومن رحمهم رحمه، ومن أحسن إليهم أحسن إليه، ومن جاد عليهم جاد عليه، ومن نفعهم نفعه، ومن سترهم ستره، ومن منعهم خيره منعه خيره، ومن عامل خَلقه بصفة عامَلَه الله بتلك الصفة بعينها في الدنيا والآخرة؛ فالله لعبده حسب ما يكون العبد لخلقه".
ومن القصص العجيبة ما ذكره الشيخ عطية سالم -رحمه الله- المدرس بالحرم النبوي أن امرأة في المدينة كان لها جيران من النسوة العجائز، وكانت تعطيهم طاسة الحليب من غنمها، وفي أحد الأيام وقع لها حادث حينما كانت تسير في ضواحي المدينة المنورة، فسقطت في حفرة متصلة بمجرى الماء، فسحبها الماء تحت الأرض، وقدر الله لها أن تمسك بحجر في هذا المجرى، ومكثت عالقة بهذا الحجر تحت الأرض أربعة أيام، وبعد هذه الأيام، مرّ رجل بالمكان فسمع صوت استغاثة ضعيف، فلما عرف مصدر الصوت، نزل وأخرجها، وسألها عن حالها وكيف كانت تعيش؟! فقالت: إن طاسة الحليب التي كنت أعطيها للعجائز كانت تأتيني كلَّ يوم. والجزاء من جنس العمل.
عبد الله: تعرَّفْ إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن الإحسان إلى الخلق سيعود إليك صداه ولو بعد حين، وأن الصدقة ولو بالقليل تفعل الشيء الكثير إذا وافَقَتْ إخلاصًا من المتصدق وحاجة عند الفقير، والبحث عن صاحب الحاجة اليوم عزيز؛ إذ اختلط الحابل بالنابل، وأفسد الكاذب على الصادق. فينبغي للمتصدق أن يتحرّى في صدقته المحتاجين دون المحتالين.
وقد يقول قائل ويسأل سائل: أين نجد هؤلاء المحتاجين؟ وكيف السبيل إليهم؟ فأقول: اجتهد في البحث تجدهم، ومن يتحر الخير يوفق إليه.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، إنه على كل شيء قدير.
الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض.
معاشر المؤمنين: إن طرق البذل والإنفاق سبقنا إليها العظماء من الموفّقين، وعلى رأسهم سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم- الذي قال: "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو القائم الليل الصائم النهار" رواه البخاري.
كان -صلى الله عليه وسلم- لا يتأخر عن تفريج كربات أصحابه؛ فكم قضى لهم من ديون، وكم خفف عنهم من آلام، وكم واسى لهم من يتيم، وفوق ذلك مات ودرعه مرهونة بأبي هو وأمي -صلى الله عليه وسلم-، يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة، بل ربما أنفق غنمًا بين جبلين.
هُو البحرُ مِن أيِّ النواحي أتيتَهُ *** فلُجَّتُه المعروفُ والجودُ ساحلُهْ
تراه إذا ما جئتَه متهلِّلاً *** كأنك تُعطيه الذي أنت سائلُه
تعوَّدَ بسْط الكفِّ حتَّى لوَ انَّهُ *** أراد انقباضاً لم تُطِعْهُ أنامِلُه
ولو لم يكن في كفِّه غيرُ نفسِه *** لَجَادَ بِها فلْيَتَّقِ اللهَ سائلُه
ثم جاء أصحابه -رضي الله عنهم- الذين ضربوا أروع الأمثلة في البذل والعطاء، والإحسان والسخاء، الصدِّيق -رضي الله عنه- يقدّم ماله كله لله، والفاروق -رضي الله عنه- يقدم نصف ماله لله، وعثمان -رضي الله عنه- يشترى الجنة من الرسول -صلى الله عليه وسلم- مرتين: مرة حين حفر بئر رُوْمَة، ومرة حين جهَّز جيش العسرة.
عبد الله: لا تبخل على نفسك، وقدم لها ما يسرّك، واعلم أن السفر طويل، والزاد قليل، والذنب عظيم، والعذاب شديد، والميزان دقيق، والصراط منصوب على متن جهنم، ونحن سائرون عليه؛ فإمّا ناج أو هالك، فأنفق ينفقِ الله عليك، أحسن يحسنِ الله لك، فرج يفرج الله عنك؛ فالجزاء من جنس العمل.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، اللهم يمِّن كتابنا، ويسِّر حسابنا، وثقِّل موازيننا، وحقِّق إيماننا، وثبِّت على الصراط أقدامنا، وأقرّ برؤيتك يوم القيامة عيوننا، واجعل خير أعمالنا آخرها، وخير أيامنا يوم لقاك.
اللهم لا تجعل بيننا وبينك في رزقنا أحدًا سواك، واجعلنا أغنى خلقك بك، وأفقر عبادك إليك.
اللهم هب لنا غنى لا يطغينا، وصحة لا تلهينا، وأغننا اللهم عمّن أغنيته عنا، إنك على ذلك قدير وبالإجابة جدير وصلى الله على محمد.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي