ليس سبب تأخر الأمطار هو مجرد رياحٍ تأتي من الشمال أو الجنوب، أو تغيُّرٍ في الأحوال المناخية؛ بل السبب الحقيقي لتأخُّر الأمطار هو هذه الأسباب التي ذكرها الرسول -عليه الصلاة والسلام-, وإذا ما أقلع الناس عن هذه الأمور، واستغفروا اللهَ بقلوب صادقة، كانوا على رجاء الرحمة ونزول الغيث, كما قال -سبحانه وتعالى- على لسان نوح -عليه السلام-: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) [نوح:10-13].
أما بعد: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) [فاطر:15-17].
عباد الله: تأخُّرُ نزولِ المطر في هذه الأيام هو حديثُ كثيرٍ من الناس في الأماكن والقرى التي تعتمد على الأمطار، يشكون قلة الماء بعد أن كانت الأودية والعيون نابضة بالماء, ويشكُون جدْب الأرض بعد أن كانت الأرض مُخْضَرَّة, يشكون ذلك, وحُق لهم أن يشكوا؛ فإن الماء من أعظم نِعَم الله -تعالى-, وهو أساس الحياة، كما قال -عز وجل-: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) [الأنبياء:30].
وكثيراً ما يمتنُّ الله -تعالى- على عباده بنعمة إنزال الماء من السماء، (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ) [الواقعة:68-70]، (اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) [الروم:48]، ولا يعرف حقيقة الاستبشار إلا مَن تعلق قلبه بالأمطار, كما هي حال العرب التي وصفهها الله -تعالى-.
ثم قال -سبحانه-: (فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)، انظر إلى آثار رحمة الله في النفوس القانطة، وفي الأرض الهامدة الخاشعة، (إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الروم:50].
عباد الله: ولنا أن نتساءل: ما سبب تأخر نزول الأمطار؟ ما سبب القحطِ وجدبِ الأرض؟ أخرج ابن ماجه والبيهقي عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: أقبل علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا معشر المهاجرين، خمسٌ إذا ابتُلِيتُم بهنَّ -وأعوذ بالله أن تدركوهن-: لم تظهر الفاحشة في قومٍ قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم".
وقد جاء في هذا الحديث أمران بهما يمنع القطر من السماء, و يحصل الجدب والقحط في الأرض: إنقاص المكيال والميزان، ومنع الزكاة.
الأمر الأول: "لم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين", والأخذ بالسنين أحد أنواع البلاء والعذاب, كما قال -تعالى- عن عذاب آل فرعون في الدنيا: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) [الأعراف:130].
ما هو نقص المكيال والميزان؟ نقص المكيال والميزان هو التطفيف, فإن كان الأمر له استوفى حقَّه بالكامل, وإن كان الأمر لغيره بخسه حقه.
وهذا الأمر من أسباب شدة المؤنة؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إلا أُخِذوا بالسنين، وشدة المؤنة، وجَوْر السلطان"، ولا يقف قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في نقص المكيال والميزان عند هذا الحد, بل يتعدى إلى ما يحصل في زماننا من سرقات أموال المسلمين, والتزوير، والاختلاس، وغش الناس في معاملاتهم، فإذا دخلت السوق وجدت البائع يَغُشّ المشتري، فيجعل الرديء من السلعة في الأسفل, ويجعل الحسن في الأعلى، والله المستعان!.
ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: "ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء"، هذا هو السبب الثاني لتأخُّر نزول الغيث من السماء , يكنزون الأموال ولا يخرجون حق الله فيها, وإن أخرجوا, أخرجوا دون ما أمر الله به, فترى بعضهم أمواله بالملايين ويخرج بضعة آلاف ظنًا منه أن هذه تغني عن الزكاة، ولا يتحرى في زكاة ماله.
لم -يا عبد الله- هذا البخل؟ لم هذا الكنز للمال؟ أما سمعت قول الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [التوبة:34].
أتعرف ما هذا العذاب الأليم؟( يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) [التوبة:35].
ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: "ولولا البهائم لم يُمَطروا"، أي ولو نزلت قطرات المطر, وغيث السماء ما كان ذلك إلا للبهائم, ولولا البهائم لم ينزل الله المطر , فالمطر ليس لهؤلاء العصاة المصّرين على معاصيهم, الذين لا يقلعون عنها, إنما هو رحمة بالبهائم العجماوات. وقد تهلك البهائم بسبب معاصي بني آدم، يقول أبو هريرة -رضي الله عنه-: إن الحبارى لتموت في وكرها من ظلم الظالم، وقال مجاهد: إن البهائم لَتلعن العصاة من بني آدم إذا اشتدت السنين، تقول: من شؤم معصية بني آدم.
عباد الله: ليس سبب تأخر الأمطار هو مجرد رياحٍ تأتي من الشمال أو الجنوب، أو تغيُّرٍ في الأحوال المناخية؛ بل السبب الحقيقي لتأخُّر الأمطار هو هذه الأسباب التي ذكرها الرسول -عليه الصلاة والسلام-, وإذا ما أقلع الناس عن هذه الأمور، واستغفروا اللهَ بقلوب صادقة، كانوا على رجاء الرحمة ونزول الغيث, كما قال -سبحانه وتعالى- على لسان نوح -عليه السلام-: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) [نوح:10-13].
وقال -تعالى- على لسان هود -عليه السلام-: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) [هود:52]، يا قوم استغفروا الله، وتوبوا إليه من المعاصي كلها، من الشرك والبدع وما يتعلق بهما من أكل الربا, ليس الاستغفار باللسان, إنما الاستغفار بالفعال, توبوا إليه, أقلعوا عن المعصية, ومع الإقلاع استغفروا الله -عز وجل-, عندها يرسل السماء عليكم مدرارًا، ويزدكم قوة إلى قوتكم, وإن لم تفعلوا فسيبقى الحال على ما ترون؛ ولا تنتظروا إن لم تقلعوا عن معاصيكم وتستغفروا ربكم أن ينزل عليكم المطر بمجرد قولكم: اللهم أغثنا!.
إخوة الإيمان: إن من أسباب نزول الغيث من السماء أن نستغفر الله -سبحانه وتعالى-ونتوب إليه, وأن نتضرع إليه أفرادًا وجماعات، إذ هو القائل -تعالى-: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام:42-43].
نسأل الله -تعالى- أن يرزقنا الاستغفار والتوبة، إنه على كل شيء قدير.
الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل, وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمّن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه.
والصلاة والسلام على نبينا محمد، إمام المتقين، وقائد الغُرّ الميامين، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أخرج الإمام مسلم في صحيحه, عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينما رجل -أي: فيمن كان قبلنا- بفلاة من الأرض إذ سمع صوتًا في سحابة يقول: اسق حديقة فلان، قال: فانقطعت قطعة من السحاب حتى إذا أتت على حَرّة فإذا شَرْجة من تلك الشِّراج فاستوعبت الماء كله، فتتبع الماء، فرأى الماء يأتي إلى رجل في حديقته يدير الماء بمسحاته فقال الرجل: يا عبد الله, ما اسمك؟ قال: اسمي فلان، للاسم الذي سمع في السحاب, فقال: يا عبد الله، لم تسألني عن اسمي؟ قال: إني سمعت صوتًا في السحاب، يقول: اسق حديقة فلان. فماذا تفعل؟ قال الرجل: أمَا إذا قلت هذا فإني آخذ ما يخرج منها فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثه، وأرجع ثلثًا إلى الأرض".
انظروا -عباد الله- كيف يخص الله -عز وجل- بالكرامة من يشكر نعمته عليه! الرجل يقسم الرزق الذي يرزقه الله إلى ثلاثة أثلاث, ثلت يتصدق به, ثلث يأكله هو وعياله, وثلث يرجعه إلى الأرض.
ما الذي يضر العباد إن فعلوا مثل ذلك الرجل؟ ما الذي يضرنا إذا أخرجنا من أموالنا شيئًا وإن كان قليلاً في كل شهر أو في كل يوم, أليس ذلك من موجبات رحمة الله -تعالى-؟ أليس ذلك من موجبات نزول الغيث من السماء؟.
بلى والله! فاتقوا الله عباد الله، واستغفروا ربكم وتوبوا إليه، ينشر لكم من رحمته، وينزل عليكم من رزقه، إنه قريب مجيب.
وصل
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي