وحري بكل من رزقه الله تعالى عقلا، ومنَّ عليه بالإيمان أن يجانب الكسب الخبيث وقد علم ما فيه من تبعات وآثام، وما يخلفه من آثار مهلكة عليه وعلى دينه وقلبه وأهله وولده
الحمد لله؛ يَرزق ولا يُرزق، ويطعِم ولا يطعَم
(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) [يونس:31-32] أحمده على نعمه المتتابعة، وأشكره على مننه المتواترة، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ أوجد البشر من العدم، ورباهم بالنعم، وكفل لهم أرزاقهم، وبيده سبحانه آجالهم
(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الروم:40]
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أعلم الخلق بالله تعالى، واتقاهم له، وأشدهم خشية منه، يمر عليه الصلاة والسلام في الطريق فيجد تمرة فيشتهيها فيقول: "لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها" ويقول صلى الله عليه وسلم: "إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي ثم أرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها" وتضور ذات ليلة فقيل له: "ما أسهرك؟ قال: أني وجدت تمرة ساقطة فأكلتها، ثم تذكرت تمرا كان عندنا من تمر الصدقة فلا أدري أمن ذلك كانت التمرة أو من تمر أهلي فذلك أسهرني " فما أشد خشيته لله تعالى، وما أعظم اتقاءه للحرام!! صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد :
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، اتقوا من خلقكم ورزقكم وحرم غيركم، وأعطاكم ومنع سواكم؛ فإن تقواه من شكر نعمته، وهي سبب لاستدامة رزقه (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) [فاطر:3].
أيها الناس: من حكمة الله تعالى في خلقه، ورحمته بعباده: أن جعل الرزق والأجل بيده سبحانه، وقدَّر ذلك للعبد وهو جنين في بطن أمه، ولو كان الرزق والأجل بيد بعض البشر لبغوا في الأرض، وجوعوا الخلق، وأبادوا الناس، ولبقي الجبابرة والمستكبرون أبد الدهر. كيف وهم يظلمون ويعتدون لما مُنحوا بعض القوة على من سواهم، فلو كانت أرزاق البشر إليهم، وآجالهم بأيديهم فكيف سيكون الحال؟! وماذا سيفعلون بهم؟! وتلك حكمة قلَّ في الخلق من يفهمها، ونعمة جلَّ في العباد من يشكرها، فنحمد الله تعالى عليها حمدا يليق بجلاله وعظمته.
إن من يخلق ويرزق يجب أن يكون له الشرع والأمر، ومن لا يخلق ولا يرزق فلا أمر له، بل هو عبد مأمور لرب معبود؛ ولذا قرن الله تعالى الخلق والشرع في قوله سبحانه (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْر) [الأعراف: من الآية54] . فواجب على المسلم أن يلتزم أمر الله تعالى في كل شؤونه وأحواله؛ حتى يكون معترفا بخلقه، مستسلما لأمره، ملتزما لشرعه.
وقضية الرزق قضية أرَّقت كثيرا من البشر، وشوشت تفكيرهم، وسببت أنواعا من القلق والاضطرابات النفسية؛ خوفا من الفقر والحاجة، وجزعا من المستقبل المجهول، فضرب كثير منهم كل واد في كسب المال، وتأمين المستقبل، واستحلوا كل وسيلة؛ فالحلال عندهم ما حلَّ في أيديهم، والحرام ما لم يدركوه، دون مراعاة للشرع والقيم والأخلاق، وتلك والله من أعظم المصائب التي ابتلي بها البشر في هذا العصر؛ إذ سادت النظم الرأسمالية فقذفت بأنواع من وسائل الكسب الخبيث، مبنية على ما يشبه الحرية المطلقة في الأموال، فعمَّ الظلم والفساد والسحت أرجاء الأرض حتى لا تكاد تخلو بقعة من كسب خبيث، واتجار محرم. وكما أن في الأقوال والأفعال والأخلاق طيبا وخبيثا فكذلك في الكسب والتجارة والأموال ما هو طيب وما هو خبيث، ولا يستويان أبدا؛ بل قليل الطيب خير وأفضل وأكثر بركة ونفعا من الخبيث.
ومهما كثر الخبيث وامتلأت به خزائن البنوك، وتنفَّذ به المتنفذون، وساد به الأرذلون، وتسلطت به الدول المستكبرة على الدول الضعيفة الفقيرة؛ فإن عاقبته على الأفراد والأمم إلى تباب وخسران في الدنيا الآخرة
(قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة:100] وفي الآية الأخرى بيّن سبحانه وتعالى أن مصير الخبيث نار جهنم (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ) [الأنفال: من الآية37].
لقد أمر الله تعالى عباده بالحلال الطيب، ونهاهم عن الحرام الخبيث، وحذرهم من الشيطان الذي يسعى جهده لجرهم إلى المكاسب الخبيثة، ويزين لهم المتشابه ليجاوز بهم إلى الحرام، فينقلهم إليه خطوة خطوة؛ حتى إذا أغرقهم في الحرام لم يستطيعوا النجاة منه (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [البقرة:168]
إنها خطوات ينقل بها الشيطان من اتبعه من البشر من الحلال الخالص إلى المتشابه المشكل؛ ليكون قنطرة إلى الحرام الخالص، بعد أن يقذف في قلوبهم أنواعا من الوساوس والخطرات كحالهم لو افتقروا، وأحوال أهلهم وأولادهم من بعدهم، ومقارنة كسبهم بكسب غيرهم ممن استحلوا محارم الله تعالى، وولغوا في أنواع من الكسب الخبيث، فإذا أغرقهم الشيطان في الكسب الخبيث فقد أوقعهم في النار، ولن تنجيهم أموالهم الخبيثة من عذاب الله تعالى شيئا، بل ستكون وبالا عليهم في أنفسهم وأهلهم وأولادهم، وشؤما في الدنيا والآخرة.
فمن تخوض في الحرام، واكتسب الخبيث، فقد عرض نفسه وأهله وولده للنار؛ كما روت خولة الأنصارية رضي الله عنها فقالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة" رواه البخاري، وفي لفظ للترمذي قال عليه الصلاة والسلام: "إن هذا المال خضرة حلوة، من أصابه بحقه بورك له فيه، ورب متخوض فيما شاءت به نفسه من مال الله ورسوله ليس له يوم القيامة إلا النار" وفي حديث آخر قال النبي عليه الصلاة والسلام : "يا كعب بن عجرة، إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به" رواه الترمذي، وفي لفظ لأحمد "إنه لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت، النار أولى به".
ولما قال الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصنا، قال: "إن أول ما ينتن من الإنسان بطنه فمن استطاع أن لا يأكل إلا طيبا فليفعل" رواه البخاري.
ومن شؤم المال الحرام أنه يمنع إجابة الدعاء حتى في سفر الطاعات كالجهاد والحج والعمرة وطلب العلم؛ كما روى أبو هريرة رضي الله عنه فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [المؤمنون:51] وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) [البقرة: من الآية172] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟" رواه مسلم.
وقوله "وغذي بالحرام" ظاهره يشمل كل من ينفق عليهم من أهل وولد فيخشى عليهم ألا يستجاب دعاؤهم، وهذا من شؤم من أنفق الحرام عليهم، وبنا به أجسادهم.
فإن تصدق من هذا الحرام الخبيث لم تقبل صدقته؛ لأن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم ... ثم قال:ولا يكسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدق به فيقبل منه، ولا يترك خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله عز وجل لا يمحو السيئ بالسيئ ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث" رواه أحمد.
وقال مالك بن دينار رحمه الله تعالى: "لأن يترك الرجل درهما حراما خير له من أن يتصدق بمئة ألف درهم".
وصاحب الكسب الخبيث يبتلى بأمراض الطمع والجشع والبخل والأثرة والأنانية، وحب الذات، والعلو على الناس، ويحسد الناس على أموالهم؛ لأنه يراهم ينافسونه في المال، ولا دين يردعه عن حسدهم؛ إذ لو كان له دين لردعه عن الحرام الذي أفسد قلبه، وابتنى به جسده وجسد أهله وولده.
ومع تمكن هذه الأمراض الخبيثة من قلبه يتحول من متمول للمال، منتفع به، إلى خادم له، يجمعه ويحرسه وينميه، ويخاف عليه أشد الخوف، ولربما كان حتفه بسبب ماله في صفقة فاتته، أو خسارة أصابته.روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا، قالوا: وما زهرة الدنيا يا رسول الله؟ قال: بركات الأرض ....ثم قال عليه الصلاة والسلام:إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع" رواه الشيخان.
وهذا واقع مشاهد فإن الذين فتنوا بأنواع الكسب الحرام لا يقنعون بقليل الكسب، ولا يشبعون من كثيره، بل هم في تزود دائم من الحرام، يجمعونه لغيرهم، ويحملون وزره على ظهورهم.
ومن شؤم المال الحرام أنه سبب للكسل عن الطاعات، واستسهال الكبائر والموبقات؛ إذ لا يزال الشيطان يقذف في قلب صاحبه أن الطاعات لا تنفعه ما دام يكتسب الحرام، فربما ترك الصدقة، وتقاعس عن الزكاة المفروضة، بحجة أن كسبه حرام فكيف يزكيه، فإن كفَّ نفسه عن بعض المحرمات جاءه الشيطان يذكره أن ماله حرام فما ضره لو استمتع بهذا الحرام الذي كف عنه؟! وتعينه نفسه الأمارة بالسوء على الحرام، وتدفعه الرفقة الخبيثة إليه دفعا.بل يجد في نفسه أن الكسب الخبيث ينبغي ألا ينفق إلا على العمل الخبيث، فيُحدِث أعمالا ومشاريع خبيثة ينفق فيها ماله الخبيث، فيعود موزورا بالكسب الخبيث، وبالعمل الخبيث، وبالإنفاق على ما هو خبيث، فتأملوا -رحمكم الله تعالى- كيف جره الكسب الخبيث إلى جملة من المحرمات، ولو فتشتم عن حال كثير ممن يتخوضون في المال الحرام لوجدتموهم كذلك. وانظروا إلى أحوال الذين أسسوا القنوات الفضائية الفاضحة، المدمرة للديانة والأخلاق، وراجعوا مكاسبهم، ومصادر ثرواتهم قبل إنشاء فضائياتهم تجدوا أنها كانت مكاسب خبيثة، أنفقت في مجالات خبيثة.
ولربما تسلط على صاحب الكسب الحرام ظلمة أقوى منه يبتزونه في تجارته، ويريدون غصب ماله؛ لعلمهم بموارده، ولقناعتهم أنه لا يستحقه، فلا يزال يدفعهم عن نفسه وماله بكل الوسائل، فما هنيء بماله، وكان ما جمع من حرام سببا في خوفه وشقائه، وغالبا ما يسلط الله تعالى على الظالم من هو أظلم منه وأطغى؛ ليذيقه بعض الألم والظلم الذي جرعه من ظلمهم سابقا.
فإن كان المال الحرام الذي اكتسبه متعلقا بحقوق الناس، وأكل أموالهم بالباطل، كالغش والرشوة والسرقة والغصب ونحو ذلك؛ فإن وفاء غرمائه يوم القيامة يكون من صحيفة حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار، كما جاء في حديث المفلس أن من أسباب إفلاسه "وأكل مال هذا".
وحري بكل من رزقه الله تعالى عقلا، ومنَّ عليه بالإيمان أن يجانب الكسب الخبيث وقد علم ما فيه من تبعات وآثام، وما يخلفه من آثار مهلكة عليه وعلى دينه وقلبه وأهله وولده، ومن وقع في شيء من الكسب الخبيث فليتخلص منه في الدنيا مهما كان كثيرا قبل أن يدهمه الموت فيحمل على ظهره ذنوب ما جمع من حرام، وخلفه لوارثه، ولا يدري أيتذكره ورثته فيدعون له، أم يشغلهم عنه ما ورَّثه لهم، فيذرونه نسيا منسيا، وقد تدب الخصومة بينهم على إرثهم، فيقطعون أرحامهم، ويغصب بعضهم حقوق بعض، فيكون ذلك من عاجل شؤم ما خلفه لهم وارثهم من مال حرام، نسأل الله تعالى العافية والسلامة، والكفاية بالحلال الطيب عن الحرام الخبيث.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم....
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، أحمده حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ويرضى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- واشكروه على نعمه؛ فإنه سبحانه قد أمر العباد أن يطلبوا الرزق منه؛ لأنه الباسط القابض، المعطي المانع، كما أمرهم أن يشكروه على ما منَّ به عليهم من أنواع الرزق الطيب الحلال المبارك (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة:172] وفي الآية الأخرى (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [العنكبوت: من الآية17].
أيها المسلمون: إن من أعظم الدوافع التي تدفع المرء إلى الكسب الخبيث: خوفَه على أهله وذريته الفقر والعالة ، وزعمَه تأمين مستقبلهم، وما علم المسكين أنه بهذا الحرام يدمر مستقبلهم، ويفتح عليهم أبواب الشقاء في الدنيا والآخرة، وغالبا ما يرى عقوقهم له رغم ما متعهم به من أنواع المتع والرفاهية بكسبه الخبيث، ثم يتحمل هو وزر وإثم ما سيخلفه لهم من أموال طائلة، وهذا واقع مشاهد، والله تعالى يقول: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً ) [الأعراف: من الآية58] فكيف يأمل في بر ولده، والبر عمل طيب لا يصدر إلا من طيب، وهو قد غذَّاه بأنواع الكسب الخبيث، وابتنى جسده بالمحرمات؟!
وكثيرا ما يبدد الورثة ما خلف لهم وارثهم من مال حرام، فيعودون عالة على غيرهم؛ لمحق بركة ما خلف لهم بخبث مصدره وكسبه، فلا أمَّن لهم وارثهم مستقبلهم، ولا سلم هو من وزر ما ورَّث لهم.
وعلى المسلم إذا استهواه المال الحرام، وغرته زهرته، وكانت مجالاته تحت يده بولاية، أو شراكة، أو وصاية، أو غير ذلك أن يعلم أنه خبيث، وأن بركته ممحوقه، وأن عاقبته إلى القلة والزوال، وأن السلامة لنفسه ولمن يحب من أهله وولده إنما هي في مجانبته.
وليتيقن أن دخوله في الحرام هو من أسهل ما يكون على النفس البشرية، ولا سيما مع وجود المغريات، وغياب العقوبات، وضعف الرادع، ولكن خروجه من الحرام، وإنقاء ماله منه أعسر ما يكون، وانظروا إلى أحوال من غرقوا في الحرام تجدوا ذلك صحيحا.
وعلى العبد أن يراقب الله تعالى قبل أن يراقب الجهات الرقابية، وأن يكون خوفه منه أشد من خوفه من البشر مهما كانوا؛ فإن ذلك من أقوى ما يردعه عن الكسب الحرام. فإن وفق الله تعالى العبد إلى كبح جماح نفسه عن الخطوة الأولى في الكسب الخبيث نُجِّي بإذن الله تعالى مما بعدها، وإن خطاها أسرع إلى غيرها، وما هي إلا خطوات الشيطان الذي يأمر بالفحشاء والمنكر.
فإن رأى غيره قد اغتنوا بالغلول والرشوة والربا والسؤال من غير حاجة، وبأنواع المكاسب الخبيثة، وهو لا يزال مستور الحال أو فقيرا، فليعلم أن الغنى غنى النفس، وأن الفقر فقر القلب، وأن من يثرون بالطرق المحرمة هم أشد الناس فقرا في قلوبهم وإنْ بدا للناس أنهم أغنياء، ثم لينظر إلى أحوال من هم أشد فقرا منه؛ لئلا يزدري نعمة الله تعالى عليه.
ثم ليستشعر المسلم أن طلب الرزق نوع من الجهاد؛ ولذا قرن به في قول الله تعالى : (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) [المزمل: من الآية20] فلا يسوغ له أن يلطخه بما حرم الله تعالى عليه.
وليوقن أن الخير العظيم في تركه للخبيث ابتغاء مرضاة الله تعالى، مهما كانت المغريات، ومهما كثر المتساقطون فيه، وحري أن يعوضه الله تعالى خيرا مما ترك لأجله سبحانه، قال أبي بن كعب رضي الله عنه : "ما ترك عبد شيئا لا يتركه إلا لله إلا آتاه الله ما هو خير منه من حيث لا يحتسب، ولا تهاون به فأخذه من حيث لا ينبغي له إلا أتاه الله بما هو أشد عليه" وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: "ما تركت من الدنيا شيئا إلا أعقبني الله عز وجل في قلبي ما هو أفضل منه" يعني: من الزهد.
فاتقوا الله ربكم، وطيبوا مكاسبكم، تقبلْ صدقاتكم، وتستجب دعواتكم، وتبركم أولادكم، وتعوضوا خيرا مما تركتم، وتستقم لكم أمور دنياكم وأخراكم.
وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبد الله....
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي