إننا لا نتحدث عن الجانب الفقهي في تلك القضايا، ولا عن خلاف العلماء؛ فإن كلمة العلماء محترمة، وآراءهم مقدمة، ولا يجرم من أخذ برأيٍ اجتهاداً أو اتباعا لدليلٍ، مع ثباته على استقامته، وحرصه على معالم دينه؛ لكن الحديث عن قوم يتتبعون الرخص، ويأخذون بأقوال وآراء لا لأنها يعضدها الدليل؛ وإنما لأنها توافق الهوى، ويتبعون ذلك بتغيرات أخرى في مواقفهم وسلوكهم العددي والدعوي. يتحدثون بفصاحة عن عوامل النصر وهم لا يصلون الفجر، يلقون دروسا وكلمات في أهمية الاستقامة وهم لا يأتون الصلاة إلا بعد الإقامة ..
الحمد لله القوي المتين، أنعم علينا بهذا الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إنه هو البر الرحيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد المرسلين، وإمام العابدين الثابتين، وقدوة العاملين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الميامين، وسلَّمَ تسليما.
أما بعد: فإني موصيكم -أيها المسلمون- ونفسي بأعظم وصية وأزكاها أن اتقوا الله؛ فمن اتقى الله وُقِيَ، في زمن ليس بالبعيد كان التصوير من إحدى الكُبَر، وكانت فتاوى علمائنا تقرع مسامعنا وتحدد مواقفنا، وفي لحظة تبدلت الموازين، فأصبح التصوير بأنواعه حمىً مباحاً، وطفقنا نصور بلا حدود ولا قيود، وبلا تضايُقٍ أو حرج، وأصبح مُنْكِرُهُ مُنْكَراً!.
تناقل القوم أثرا بأخذ ما زاد عن القبضة عن اللحى، فبادر القوم إلى لحاهم تقصيرا وتغييرا، ومع الأيام ارتفع المقصرون فيما فوق القبضة، ومع ضعف الإيمان واتباع الهوى وتصارُع الأمواس مع المقصات على حمى شعرات الوقار سقطت نقطة الضاد، فلم تعد قبضة، وتلاشت من الوجوه شعرات الهيبة والجمال والجلال، وصاحبها ضعف في تعظيم شعائر ذي العزة والجلال.
هاتان صورتان من صور تمثل جيلاً من الناس اليوم يتفلتون من الاستقامة كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون! إذا سمعوا عن بصيصٍ من دليلٍ محتمَل، أو رأيٍ لعالِم يُحِل لهم ما كان حراماً، رأيتَهُم إليه سراعا، كأنهم إلى نصب يوفضون!.
إننا لا أتحدث عن الجانب الفقهي في تلك القضايا، ولا عن خلاف العلماء؛ فإن كلمة العلماء محترمة، وآراءهم مقدمة، ولا يجرم من أخذ برأيٍ اجتهاداً أو اتباعا لدليلٍ، مع ثباته على استقامته، وحرصه على معالم دينه؛ لكن الحديث عن قوم يتتبعون الرخص، ويأخذون بأقوال وآراء لا لأنها يعضدها الدليل؛ وإنما لأنها توافق الهوى، ويتبعون ذلك بتغيرات أخرى في مواقفهم وسلوكهم العددي والدعوي.
يتحدثون بفصاحة عن عوامل النصر وهم لا يصلون الفجر، يلقون دروسا وكلمات في أهمية الاستقامة وهم لا يأتون الصلاة إلا بعد الإقامة.
أما في جانب اللهو والترفيه فالقوم أخذوا منه الحظ الأكبر، والنصيب الأوفى، رافعين شعار: ساعة وساعة، وتحت هذا الشعار أكثر القوم من الهزل والضحك، واستعذبوا القعود، وأطالوا النوم، وتوسعوا في المباحات، حتى أشغلتهم عن الواجبات، فضلا عن المندوبات، في زمن تغلب فيه الأعداء، وطفح فيه فساد أهل الأهواء، فإلى الله المشتكى مِن جلَد الفاجِرِ وعجْز الثقات!.
نعم؛ إن في شريعة الإسلام مبدأ ساعة وساعة، لكن من المبادئ المتفق عليها والأصول المسلم بها أن حياة المسلم كلها لله -عز وجل- خضوعا لأحكامه، ورغبة في ثوابه، ورهبة من عذابه وناره: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام:162].
ليس في حياة المسلم شيء إلا لله، وليس في وقته وعمره ساعة طاعة وساعة معصية، نعم؛ قد تكون في حياة المسلم ساعة يقظة وساعة غفلة، وساعة قوة وساعة ضعف، وساعة قرب وساعة بعد، ولكن المسلم سرعان ما يتذكر ويبصر فيدفع الغفلة، ويقوي الضعف، ويفر إلى الله؛ (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف:201].
إن حديث ساعة وساعة يؤكد أن حياة المسلم تتراوح بين ساعتين، ساعة رقي روحي وسمو إيماني، وساعة توازن واعتدال يتساوى فيها الطرفان، ويعطى فيها كل ذي حق حقه، وإنَّ تردُّد أحوال المسلم بين هاتين الساعتين أمر طبيعي لا يعد ظاهرة ضعف، ولا مؤشر نفاق، وإذا كان الأصل في حياة المسلم ساعة الاعتدال والتوازن؛ فإنه لا غنى له عن نفحات تلك الساعة الخاصة، والحالة العالية التي ترقى به على عالم المادة، ويصبح كأنه ملَكاً مقرباً يسير على وجه الأرض؛ لأنه بغير هذه الساعات تبرز جذوة الإيمان في القلب، ويغلب على الحياة طابع الغفلة، فيتعرض المسلم للشهوات والشبهات.
إن ضغوط الواقع والانجراف وراء المباحات وإتباع النفس هواها قد أدى إلى ذوبان مذهل في الشخصية الإسلامية، وميوعة شديدة في تلقي الأحكام الشرعية، وميل ظاهر إلى البحث عن الرخص بدون فقه؛ ويصدُق في وصف كثير من الناس اليوم قول الحق -جل جلاله-: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ...) [الحج:11].
إن ما يشاهد في جيل اليوم من انهماك في الطُّرَف، وإغراق في المباحات، وتتبع للرخص، واتباع للهوى، كل ذلك منافٍ لما يجب أن يتسم به المسلم من جدِّيةٍ وقوةِ إيمان يواجه به تيار الشهوات، وطوفان الشبهات.
لقد امتدح الله عباده الذين درسوا الكتاب، وعملوا به، وتمسكوا به، وجعلوه محور حياتهم، ومُنْطَلَقَ شؤونِهِم وتصوُّراتهم: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) [الأعراف:170]، وإن صيغة (يُمَسِّكُونَ) تصور مدلولاً يكاد يُحَسُّ ويُرى، إنها صورة القبض على الكتاب بقوة وجد وصرامة، الصورة التي يحب الله أن يؤخذ بها كتابه وما فيه، من غير تعنُّتٍ ولا تنطُّعٍ ولا تزمُّتٍ.
فالجد والقوة والصرامة شيء، والتعنت والتنطع والتزمُّت شيءٌ أخر، إن الجد والقوة والصرامة لا تنافي اليسر؛ ولكنها تنافي التميع، ولا تنافي سعة الأفق، ولكنها تنافي الاستهتار، ولا تنافي مراعاة الواقع، ولكنها تنافي أن يكون الواقع هو الحكم في شريعة الله؛ فهو الذي يجب أن يظل محكوما بشريعة الله، والتمسك بالكتاب في جد وقوة وصرامة، وإقامة الصلاة كرمزٍ لشعائر العبادة هما طرفا منهج الله لصلاح الحياة.
إن دين الله عظيم لا ينبغي أن يؤخذ في رخاوة ولا في تميع ولا في ترخص، إن العجب لا ينقضي من قوم يحفظون حديث حنظلة: "يا حنظلة، ساعة وساعة"، ويتغافلون عن حديث: "ألا إن سلعة الله غالية، إلا إن سلعة الله الجنة"؛ ومن قوم يرددون حديث: "إن هذا الدين يسر"، ويتعامون عن حديث: "إن هذا الدين متين".
والعجب من قوم يلهثون وراء كل مباح أو فيه شبهة إباحة، وإن بحثت عنهم في ميدان التسابق إلى الخيرات لم تجد لهم أثراً، ولم تسمع عنهم خبراً! عجبا لقوم لا يحفظون من سيرة ابن عمر -رضي الله عنه- إلا انه يأخذ ما زاد عن القبضة، لكنها لا يعرفون من سيرته أنه كان لا يدع قيام الليل إلا قليلا!.
إن المسلم خلق في هذه الحياة ليجعل منها مزرعة للآخرة، وليجعل الآخرة أكبر همه، وغاية مناه، وأسمى مبتغاه، وما متاع الحياة الدنيا في نظر المسلم إلا وسيلة يتقوى بها للوصول إلى الغاية العظمى، وهي رضا الله وجنَّته.
قال الإمام الشاطبي -رحمه الله-: "والمقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد الله اضطراراً".
إن الجري وراء المباحات، والترخص بالرخص، وتتبع الشذوذ من أقوال الفقهاء، يورث العبد ضعفاً في إيمانه، وتذبذباً في يقينه؛ فإن الشيطان لا يرضى من العبد أن يقف عند حد فعل المباحات؛ بل يحاول أن ينقله إلى مرحلة الوقوع في المتشابه، ثم إلى الحرام، ومن ثم يُظلم القلب، ويصيبه الهوان، والعياذ بالله! ذلك أن من عقوبة المعصية معصية بعدها، ومن ثواب الحسنة الحسنة بعدها.
وما أجمل ما قاله ابن الجوزي: "ترخصت في شيء يجوز في بعض المذاهب فوجدت في قلبي قسوة عظيمة، وتخايل لي نوع طَرْدٍ عن الباب وبُعد وظلمة تكاثفت".
وإن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق، وصاحب المبدأ الذي يقبل التسليم في جزء يسير منه لا يملك أن يقف عندما سلم به أول مرة؛ لأن استعداده للتسليم يتزايد كل ما رجع خطوة إلى الوراء.
يقول الإمام الشاطبي -رحمه الله-: "إن الترخص إذا أخذ به في موارده على الإطلاق كان ذريعة إلى انحلال عزائم المكلفين في التعبد على الإطلاق، فإذا أخذ بالعزيمة كان حرياً بالثبات في التعبد، والأخذ بالحزم فيه، فإذا اعتاد الترخص صارت كل عزيمة في يده كالشاقة الحرجة، وإذا صارت كذلك لم يقم بها حق قيامها، وطلب الطريق إلى الخروج منها".
إنَّ المسلمَ مطالبٌ بالتسليم التام، والخضوع الكامل للنصوص الشرعية، وإن التسليم يعني خضوع القلب وانقياده لربه المتضمن لأعمال الجوارح، كما أن التسليم هو الخلاص من شبهة تعارض الخطر، أو شهوة تعارض الأمر، أو إرادة تعارض الإخلاص، أو اعتراض يعارض القدر والشرع، وصاحب هذا التوجه هو صاحب القلب السليم الذي لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله به.
فإن التسليم ضد المنازعة، والتسليم من أهم صفات أهل الإيمان: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) [النساء:125]، وإن من مقتضيات الإسلام تحقيق التوازن بين حاجات الروح والجسد، فكما أن لنفسك عليك حقاً؛ فإن لربك عليك حقوقاً.
بل إن الغاية التي من أجلها خُلقتَ، والهدف الذي بسببه أوجدتَّ، هو تحقيق طاعة الله، والتنافس في مرضاته .
إن أكمل رجل عرفه التاريخ هو محمد بن عبد الله، بأبي هو وأمي، صلى الله عليه وآله وسلم، فهو القدوة والمنهج، ومع أن حاضر الأمة ومستقبلها مرهون بشخصه بمبادرات وأفعاله وتوجيهاته، كل مسائل الأمة وقضاياها ملقاة على عاتقه في جوانبها الاقتصادية والعسكرية والدعوية والإدارية؛ بل وينزل إلى شؤون الناس وقضاياهم، حتى إن الأمَة لتأخذ بيده لحاجتها، مع أنه مشغول بذلك كله وغيره، إلا أن أنك إذا اطلعت على شيء من جانبه التعبدي حسبته -صلى الله عليه وسلم- عابداً انقطع عن الدنيا وما فيها.
فهو مَن يقوم الليل كله في آية واحدة يرددها حتى الفجر، وهو الذي يستغفر الله في المجلس الواحد أكثر من سبعين مرة، يصوم حتى يقول مَن عنده لا يفطر، يحذر أصحابه النار ويرغبهم الجنة، يقرأ القرآن، وقرأ واقفا على قدميه مصليا في ليلة البقرة والنساء وآل عمران في ركعة، ذلك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، خير قدوة وأسوة.
ومع أهمية هذا الجانب إلا أنك ترى فئة من الشباب شغلوا بالمباحات فعلا وتقريرا، لهم اهتمامات فكرية قراءة وتنظيرا في شؤون الأمة وقضاياها، أيا كان نوع هذا التنظير؛ ومع هذا فهُم أبعد الناس عن الاهتمام بالجوانب الإيمانية، لا في الحديث عنها ولا في نفوسهم، فتجد لديهم جفافا روحيا، وضعفا إيمانيا، مع أن المفترض فيمن يملك عمقا فكريا وإدراكا ناضجا أن يهتم بنفسه ونجاتها، وأن يتعاهد إيمانه ويراجعه؛ استعدادا ليوم لا ينفع فيه مالا ولا بنون؛ بل وخوفا من لحظة يُقال فيها ربِّ ارجعون.
لماذا هذا الجفاء والبعد عن الرقائق والعبادات عندكم أيها الشباب؟ لماذا كل موضوع يطرق في مجالسكم ويعاد إلا المواضيع الإيمانية والكلمات الوعظية؟ ولماذا تصفون المحاضرات والخطب الوعظية بأنها عادية؟.
إذا كنا -أيها المسلمون- نرقد وراء كل شهوة، ونتبع كل لذة فبأي إعمال سنواجه الموت وسكراته، والقبر وظلماته، والصراط وزلاته؟ وبأي رصيد سنواجه يوم القيامة وروعته؟ ألا اتّعاظ وسهام الموت من حولنا تخطف الشباب قبل الشياب؟ ألا عودة إلى الله وللمنايا كل يوم ضحايا؟.
أيها المسلم: إن قول الناس: اجعل بينك وبين النار عالما ومفتيا، لن يغني عنك من الله شيئا؛ فـــ "الإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وكرهتَ أن يطلع عليه الناس"، "وإن أفتاك الناس وأفتوك"، وكم من إنسان دخل متساهلا من باب الرخص والمباح وخرج من باب الكفر البواح، مرورا بأشواك من الشهوات والشبهات، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب وخطيئة، إنه كان للمستغفرين غفارا.
الخطبة الثانية :
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى من سار على دربه إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة في الله، يصف الله سبحانه هذا الدين بالحبل المتين، بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، ويحث المؤمنين، بل الأنبياء والمرسلين، على صدق الاستمساك، وأخذ الدين بقوة: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) [مريم:12].
ويمدح سبحانه الذين يمسكون بالكتاب: (الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا) [الحجرات:15]، كما يذم من تشكك: (... وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) [التوبة:45].
فما حقيقة هذا الاستمساك؟ وكيف يكون صدق الأخذ بالدين؟ إن العقيدة هي ما يعقد عليه الإنسان قلبه من رأي، هي الإيمان الجازم الذي لا يتطرق إليه الشك عند معتقده، فالمؤمن يعبد الله على نور من الله، يرجو ثوابه ويخاف عقابه، غايته جلية وهدفه واضح، لا تتزعزع مبادئه، ولا تتغير ثوابته، ملأ عطفيه الإيمان والثقة بموعود الله، حاله كحال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحزبت عليه الأحزاب وضاقت الأرض بما رحبت، وقال المنافقون: (مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا) [الأحزاب:12].
أما هو فيهبط باسِمَ الثغر يدق الصخر بالمعول، ينادي واثقا ربه، يبشر صحبه العُزَّل بفتح ممالك القيصر، وهكذا يكون ثبات أهل العقائد في أحلك المواقف وأشدها، وهذا هو الفرق بينهم وبين أهل التميع الذين لهم في كل يوم موقف، فما كان حراماً بالأمس أصبح اليوم حلالا، وغدا سيصبح مندوباً.
هكذا هم! ليس لهم لون مميز، ولا طعم، ولا رائحة، صاحب التميع سهل أن يتحول وأن يتحور، هو عند المصلحة والشهوة تصاغ في شكل دليل، ظاهر النتائج يتحكم فيه فليس له هاد من الشرع يعصمه، أو دليل من السنة يطمئن إليه، له في كل حين وجه، يدور حول الرحى، ويمشى مكبا على وجهه، غافلا عن مراد ربه، شتان بين هذا وبين من وضع نصب عينيه قول إمامه وقدوته "لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أدع هذا الذي جئت به ما تركتُه".
كلا الاثنين تعترضه العقبات والشهوات، ويطول الطريق إلى الأهداف، ويكون ذلك من باب البلاء والتمحيص؛ ليميز الله الخبيث من الطيب، فماذا يكون موقفك منهما؟.
المتميع في دينه المتتبع للرخص سريع الانزلاق؛ لأنه أصالة قد وضع الاحتمال، وترك للنكوص مجالا، وغايته تبرر الوسيلة؛ أما صاحب العقيدة فلديه من الحق وازع، وله من إيمانه ركن وثيق لا يرى في الباطل مركباً يقوده إلى الحق، وذلك أنه يتعبد إلى الله، وذلك أنه يتعبد لله بالوسائل كما يتعبده بالغايات، تقع عليه النكبات، ويبتلى في دنياه، فيستبشر ويعلم انه قد سلك طريق الأنبياء والصالحين فلا ييأس ولا يتراجع ولا تهزه النكبات، ولا تضعف التزامه الضربات، ولا يتراجع عن مبدأ آمن به مبادرة أو مجاملة أو خوف من بشر.
هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يموت عمه وحميه أبو طالب، فتفرح قريش بذلك وتقول: "من لمحمد بعد عمه وزوجه؟" فتأخذ الحمية أبا لهب ويجعل من نفسه له بمكان مَن مات، فتندم قريش، ولكنها تمكر وتحتال وتطلب من أبي لهب ان يسأله عن مآل أبي طالب الذي بذل نفسه دونه، أفي الجنة أم في النار؟ فما كان رده عليه السلام، هل حار جوابا، والتمس عن الرد ملاذا؟ هل باع عقيدته وتنازل عن مبادئه ليحافظ على مكتسبات مرحلية ؟ كلا والله ! بل قال الحقيقة، فالأمر أمر دين وعقيدة، جد لا هزل فيه، وأمانة لابد من أدائها، مصير ينبغي أن يعلمه كل احد؛ حتى يحدد موقفه مبتدأه ومنتهاه.
فيا أيها المسلمون: إن الأجدر بنا ونحن نتشرف بالإسلام ونعتقد يقينا بحمد الله أننا نملك الدين الحق أن نعتز بديننا، وأن نتمسك بشرائعنا، ونعض عليها بالنواجذ، ونشمخ برؤوسنا أنفة وافتخارا بعقيدتنا وآدابنا السامية.
إن التكاليف بالأحكام الشرعية باب من أبواب الابتلاء الذي يمتحن فيه دين الإسلام، (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الملك:2].
وهذا الدين جد ليس بالهزل، وإن من أسوأ ما نجنيه على أنفسنا أن نتخذ من شرائع الإسلام ألعوبة نلهو بها ونأخذ بها من مقتضى أهوائنا، أو نجد الواقع الفكري أو الاجتماعي المنحرف يضغط علينا ويملي علينا ما يشاء.
وها هي ذي دلالات القرآن العظيم واضحة بينه لا تردد فيها ولا خفاء، (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [الأحزاب:36].
والهزيمة في الهدي الظاهر آية عظيمة على الهزيمة القلبية، "ومَن تشبه بقوم فهو منهم"، (فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا) [يونس:108]، (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت:46].
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين ...
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأزِلَّ الشرك والمشركين...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي