الجزاء من جنس العمل

عبدالمحسن بن محمد القاسم
عناصر الخطبة
  1. الجزاء من جنس العمل .
  2. المسلم يجازى عن عمله في الدنيا والآخرة والكافر في الدنيا فقط .
  3. من أفعال الله في الجزاء .
  4. من أفعال الله في العقاب .

اقتباس

والله سبحانه شكورٌ؛ مَن عامَلَه بالطاعةِ زادَ له في العطاءِ، وهو سبحانه قويٌّ قهَّارٌ؛ مَن بارزَه بالمعصيةِ عُوقِبَ من جنسِ فعلِهِ، وما يعفُو عنه الربُّ أكثر، كما قال سبحانه: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ). الجزاءُ من جنسِ العملِ في الثوابِ والعقابِ في التعامُلِ مع الخالقِ والمخلوقِ؛ فمن أفعالِ اللهِ في الثوابِ: أنه يُجازِي على الإحسانِ، وإحسانُهُ فوق كلِّ إحسانٍ، فمن صدقَ مع الله في إخلاصِ الأعمال له أعطاه الله على حسبِ صِدقِهِ معه؛ قال عليه الصلاة والسلام: "إن تصدُقِ اللهَ يصدُقْك" ..

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فاتقوا الله -عباد الله- حقَّ التقوى؛ فالتقوى في مُخالفةِ الهوى، والشقاءُ في مُجانَبةِ الهُدى.

أيها المسلمون: خلقَ اللهُ الخلقَ لعبادتِهِ وأمرَهم بالإحسانِ إلى خلقِهِ، وهو سبحانه مُهيمِنٌ على عبادِهِ، رقيبٌ عليهم، مُطَّلِعٌ على أحوالِهم، وإذا عمِلَ المُسلمُ عملاً صالحًا أثابَه عليه في الآخرة وأذاقَه آثارَ عملِهِ في الدنيا؛ قال سبحانه: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: 97].

وغيرُ المُسلِم حرَّم الله عليه الجنةَ، ويُزادُ عليه العذابُ في النار بما زادَ من ذنوبٍ على الشركِ؛ قال سبحانه: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ) [النحل: 88].

وإذا عمِلَ غيرُ المُسلِم عملاً فيه صلاحٌ لم يقَع في ميزانِ آخرتِهِ منه شيءٌ، إنما يُكافَأُ عليه في الدنيا؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: "إن الكافرَ إذا عمِلَ حسنةً أُطعِمَ بها طُعمةً من الدنيا". وفي روايةٍ: "حتى إذا أفضَى إلى الآخرةِ لم تكن له حسنةٌ يُجزَى بها، وأما المؤمنُ فإن اللهَ يدَّخِرُ له حسناتِهِ في الآخرة، ويُعقِبُه رِزقًا في الدنيا على طاعتِهِ". رواه مسلمٌ.

قال النووي -رحمه الله : "أجمعَ العُلماء على أن الكافِرَ الذي ماتَ على كُفره لا ثوابَ له في الآخرة، ولا يُجازَى فيها بشيءٍ من عملِهِ في الدنيا مُتقرِّبًا به إلى اللهِ، ويُطعَم في الدنيا بما عمِلَه من الحسناتِ مُتقرِّبًا به إلى اللهِ مما لا يفتقِرُ صِحَّتُه إلى النيةِ؛ كصِلَةِ الرَّحِمِ، والضيافةِ، وتسهيلِ الخيراتِ، ونحوها".

والله سبحانه شكورٌ؛ مَن عامَلَه بالطاعةِ زادَ له في العطاءِ، وهو سبحانه قويٌّ قهَّارٌ؛ مَن بارزَه بالمعصيةِ عُوقِبَ من جنسِ فعلِهِ، وما يعفُو عنه الربُّ أكثر، كما قال سبحانه: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى: 30].

والجزاءُ من جنسِ العملِ في الثوابِ والعقابِ في التعامُلِ مع الخالقِ والمخلوقِ؛ فمن أفعالِ اللهِ في الثوابِ: أنه يُجازِي على الإحسانِ، وإحسانُهُ فوق كلِّ إحسانٍ، فمن صدقَ مع الله في إخلاصِ الأعمال له أعطاه الله على حسبِ صِدقِهِ معه؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: "إن تصدُقِ اللهَ يصدُقْك". رواه النسائي.

ومن وفَى بعهُودِ اللهِ بالوقوفِ عند حُدودِهِ وفَى اللهُ بعهُودِهِ إليه بالعطاءِ والثوابِ؛ قال -عز وجل-: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) [البقرة: 40]، ومن حفِظَ اللهَ بطاعتِهِ واجتنابِ معاصيهِ حفِظَه اللهُ في دينِهِ ودُنياه: "احفَظ اللهَ يحفَظْك".

ومن زادَ في الطاعةِ قرُبَ اللهُ منه قُربًا يليقُ بجلالهِ وعظمتِهِ، وكلما زادَ العبدُ في الطاعةِ زادَ منه في القُربِ؛ قال -عز وجل- في الحديثِ القُدُسيِّ: "وإن تقرَّبَ إليَّ بشبرٍ تقرَّبتُ إليه ذِراعًا، وإن تقرَّبَ إليَّ ذِراعًا تقرَّبتُ إليه باعًا، وإن أتاني يمشِي أتيتُهُ هَروَلَة". متفق عليه.

ومن ذكَرَ ربَّه ذكرَهُ الله في السماء، ومن ذكَرَ الربَّ عند الناسِ بموعظةٍ أو تعليمٍ أو مدحٍ لله ولدينِهِ ونحوِ ذلك ذكَرَه الله عند ملائكتِهِ بالثناءِ عليه؛ قال -عز وجل- في الحديثِ القُدُسيِّ: "أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكَرَني، فإن ذكَرَني في نفسِهِ ذكرتُهُ في نفسي، وإن ذكَرَني في ملأٍ ذكرتُهُ في ملأٍ خيرٍ منهم". متفق عليه.

ومن أوَى إلى اللهِ والتَجَأَ إليه آواه وكفَاه؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: "ألا أُخبِرُكم عن النَّفَر الثلاثة؟! أما أحدُهُم فأوَى إلى اللهِ فآواهُ الله، وأما الآخرُ فاستحيَا فاستحيَا اللهُ منه، وأما الآخرُ فأعرَضَ فأعرضَ اللهُ عنه". متفق عليه.

ومن تركَ شيئًا لله عوَّضَه الله خيرًا مما ترَكَه؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: "إنك لن تدَعَ شيئًا لله -عز وجل- إلا بدَّلَك اللهُ به ما هو خيرٌ لك منه". رواه أحمد.

ومن نصرَ اللهَ بفعلِ أسبابِ النصرِ نصرَه الله وأيَّدَه؛ (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ) [محمد: 7].

ومن أحبَّ لقاءَ اللهِ أحبَّ اللهُ لقاءَه، ومن كرِهَ لقاءَ الله كرِهَ الله لقاءَه، ومن عمِلَ حسنةً ضاعَفَها له أضعافًا كثيرةً، وجازاه بجنَّةٍ لا تخطُرُ على قلبِ بشر.

ومن أفعال الله في العقابِ: أن من عمِلَ ذنبًا عُوقِبَ بمثلِ عملِهِ، فمن تركَ توحيدَ الله زالَت عنه ولايةُ الله وحِفظُهُ؛ قال -عز وجل- في الحديثِ القُدسيِّ: "من عمِلَ عملاً أشركَ فيه معي غيري تركتُه وشركَه". رواه مسلم.

ومن صرفَ شيئًا من أنواعِ العبادةِ لغيرهِ بالرياء أو السُّمعة أظهَرَ الله حقيقتَهُ للناسِ بأنه غيرُ مُخلِصٍ لله؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: "من سمَّعَ سمَّعَ اللهُ به، ومن يُرائِي يُرائِي اللهُ به". متفق عليه.

ومن علَّقَ قلبَه بغير اللهِ لم تتحقَّق مُناه؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: "من تعلَّقَ شيئًا وُكِلَ إليه". رواه الترمذي.

قال شيخُ الإسلام -رحمه الله-: "وما رجَا أحدٌ مخلوقًا أو توكَّلَ عليه إلا خابَ ظنُّهُ فيه".

والإيمانُ بالقضاءِ والقدَر ركنٌ من أركانِ الدين، من رضِيَ به رضِيَ اللهُ عنه، ومن لم يرضَ به سخِطَ اللهُ عليه؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: "إن عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء، وإن اللهَ تعالى إذا أحبَّ قومًا ابتلاهُم، فمن رضِيَ فله الرضا، ومن سخِطَ فله السخَط". رواه الترمذي.

ومن نسِيَ اللهَ بتركِ طاعتِهِ نسِيَه الله بعدمِ تفريجِ كُروبِهِ، وزوالِ هُمُومِهِ، وغير ذلك؛ قال سبحانه: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) [التوبة: 67].

ومن ظنَّ أنه يُخادِعُ الربَّ في أفعالِهِ خادَعَه الله باستِدراجهِ؛ (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) [النساء: 142]، ومن مكَرَ في فعلِ السيئاتِ مكَرَ الله به من حيثُ لا يشعُر: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ) [الأنفال: 30]، ومن زاغَ عن طاعةِ الله أزاغَ اللهُ قلبَه إلى المعاصي؛ (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) [الصف: 5].

وكما أن للهِ أوامر وحُدودًا فللعبادِ بعضِهم مع بعضٍ واجباتٍ وحقوق، ومن عظَّمَ عبادَه المؤمنين عظَّمَه الله، ومن أهانَهم أهانَه الله.

قال ابن القيم -رحمه الله-: "ومن عامَلَ خلقَه بصفةٍ عامَلَه الله بتلك الصفةِ بعينِها في الدنيا والآخرة".

فاللهُ تعالى لعبدِهِ على حسبِ ما يكون العبدُ لخلقِهِ، وكما تدينُ تُدان، وكن كيف شئتَ فإن الله لك كما تكونُ أنت له ولعبادِهِ، وكما تعملُ مع الناسِ في إساءتهم في حقِّك يفعلُ اللهُ معك في ذنوبِك وإساءَتك.

والمُسلمُ مُعظَّمٌ عند الله في دمهِ ومالهِ وعِرضهِ؛ قال أهلُ العلم: "وليست السماوات بأعظمَ حُرمةً من المُؤمن".

ولحُرمةِ المُسلمين عند اللهِ ومكانتِهِم؛ فإن من أحسنَ إليهم أحسنَ الله إليه، ومن رحِمَهم ولطَفَ بهم أنزلَ الله عليه رحمتَه؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: "الراحِمون يرحمُهم الرحمن". رواه أبو داود.

ومن رفقَ بعباده ويسَّر أمورَهم رفقَ الله به، ومن شقَّ عليهم شقَّ عليه؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: "اللهم من ولِيَ من أمر أمتي شيئًا فشقَّ عليهم فاشقُق عليه، ومن ولِيَ من أمر أمتي شيئًا فرفَقَ بهم فارفُق به". رواه مسلم.

ومن أجزَلَ العطاءَ على عبادهِ أعطاه الله وأغدَقَ عليه؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: "قال اللهُ -عز وجل-: أنفِق أُنفِق عليك". رواه البخاري.

ومن رفقَ بمُعسِرٍ أو وضعَ من دَينَهُ شيئًا منه كافأَه الله بتيسير وقوفِهِ في المحشَرِ وأظلَّه تحت عرشِه، ومن كان في حاجةِ أخيهِ كان الله في حاجتِه، ومن نفس عن مؤمنٍ كُربةً من كُرَب الدنيا نفَّس الله عنه كُرُوبَه، ومن يسَّر على مُعسِرٍ وفرَّج عنه همَّه يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن أعانَ غيرَه في قضاء حاجاته كان الله عونَه في أموره.

ومن عفَّ فرْجَه عفَّت نساؤه، ومن حفِظَ لسانَه على الخلقِ صانَ ألسِنةَ الناسِ من الوقوع فيه؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: "ومن يستعفِف يُعِفَّه الله". متفق عليه.

ومن سترَ مُسلمًا وقعَ في ذنبٍ ستَرَه الله في الدنيا والآخرة، ومن أقالَ مُسلمًا زلَّتَه وعفا عنه أقالَ الله عثرتَه يوم القيامة، ومن استغنَى عما في أيدي الخلقِ أغناه الله؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: "ومن يستغنِ يُغنِهِ اللهُ". متفق عليه.

ومن حبسَ نفسَه عن الوقوعِ في المعاصي أو على فعلِ الطاعات أو عند حُلول المصائبِ أنزلَه الله عليه الصبرِ وأعانَه؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: "ومن يتصبَّر يُصَبِّره اللهُ". متفق عليه.

والرَّحِمُ مُعلَّقةٌ بالعرشِ، فمن كان واصِلاً لرحِمِه وصلَه الله، ومن كان قاطِعًا لها قطَعَه الله.

ومن أساءَ إلى عباده عُوقِبَ بمثلِ ما أساءَ به لخلقِهِ، فمن شقَّ على عبادهِ شقَّ اللهُ عليه؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: "ومن يُشاقِق يشقُق عليه يوم القيامة". رواه البخاري.

ومن استهزأَ بعباده المؤمنين استهزَأَ الله به: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [البقرة: 15]، ومن سخِرَ بهم سخِرَ الله منه؛ (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ) [التوبة: 79].

ومن عمِلَ معصيةً لإرضاء الناسِ لم يُحصِّل مأمولَه؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: "ومن التمَسَ رضا الناسِ بسَخَط الله سخِطَ الله عليه وأسخَطَ عليه الناسَ". رواه ابن حبان.

قال ابن القيم -رحمه الله-: "وقد استقرَّت سنةُ الله في خلقهِ شرعًا وقدرًا على مُعاقبةِ العبدِ بنقيضِ قصدِهِ: "ومن ادَّعَى دعوى كاذبةً ليتكثَّر بها لم يزِده الله إلا قِلَّة". رواه مسلم.

ومن فتحَ على نفسهِ بابَ سُؤال الناسِ العطايا نزلَ به الفقرُ والمَسكَنَة؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: "ولا فتحَ عبدٌ بابَ مسألةٍ إلا فتحَ الله عليه بابَ فقرٍ". رواه الترمذي.

"ومن سألَ الناسَ ليكثُر مالُهُ أتى يوم القيامةِ وليس في وجهِهِ مُزعةُ لحمٍ". رواه مسلم.

ومن أنفقَ على غيرهِ وأحصَى عليهم ما يبذُلُه وشدَّد عليهم فيه أحصَى الله عليه العطاءَ وضيَّقَ عليه؛ قال -عليه الصلاة والسلام- لأسماء: "أنفِقِي ولا تُحصِي فيُحصِي اللهُ عليكِ". متفق عليه.

ومن أخذَ أموالَ الناسِ وصدَقَت نيَّتُه في أدائِها أدَّى اللهُ عنه، ومن أخذَها وهو ناوٍ عدمَ أدائِها أتلَفَه الله.

ومن ضارَّ الناسَ وآذاهم أضرَّ الله به؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: "من ضارَّ أضرَّ الله به". رواه أبو داود.

والذنوبُ لها عقوباتٌ مُماثلَةٌ في الآخرة؛ فمن تعجَّلَ لذَّةً مُحرَّمةً عليه في الدنيا حرُمَ نعيمُه في الآخرة، فمن شرِبَ الخمرَ في الدنيا لم يشرَبها في الآخرة، ومن لبِسَ الحريرَ في الدنيا لم يلبَسْه في الآخرة، ومن أعمَى قلبَه في الدنيا أُعمِيَ بصرُه في المحشَرِ يوم القيامة: (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى) [الإسراء: 72].

والمُغتابُ مزَّقَ الأعراضَ بلسانِهِ في الدنيا، ويوم القيامة يُجازَى بخمشِ وجهِهِ بأظافِرَ له من نُحاسٍ يراهُ أهلُ النارِ.

"ومن استمَعَ إلى حديثِ قومٍ وهم له كارِهون صُبَّ في أُذنَيْهِ الآنُك يوم القيامة -وهو: النُّحاسُ المُذابُ-". رواه البخاري.

ومن اقتطَعَ شبرًا من الأرضِ ظُلمًا طُوِّقَه يوم القيامةِ إلى سبعِ أراضين. ومن قتلَ نفسَه بشيءٍ عذَّبَه الله به يوم القيامة. ومن كانت له امرأتان فمالَ إلى إحداهما جاء يوم القيامةِ وشِقُّه مائلٌ، ومن كذبَ كذبةً شاعَ أمرُها يُشرشَرُ -أي: يُقلَبُ شِدْقُه- يوم القيامة إلى قَفاه، ومن وقعَ في الزنا أتاه لَهَبٌ من أسفلَ منه يُعذَّبُ به في النارِ، ومن أكلَ الرِّبا أُلقِمَ حجرًا في فمِهِ جزاءَ أكلِهِ أموال الناسِ.

والأعمالُ الصالحةُ يُرى أثرُها يوم القيامة؛ فمن كان من أهلِ الصلاةِ نُودِيَ من بابِ الصلاة، ومن مات مُحرِمًا بُعِث مُلبِّيًا، ومن ماتَ شهيدًا بُعِث يوم القيامة ودمُهُ يثعُبُ لونُه لونُ الدم وريحُه ريحُ المسكِ.

وأمةُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- يُبعَثون في المحشَر غُرًّا مُحجَّلين من آثار الوضوء، والمُؤذِّنون أطولُ الناسِ أعناقًا يوم القيامة.

وبعد:

أيها المسلمون: فأوامرُ الله حقٌّ، ونواهيهِ زجرٌ، ووعدُه صِدقٌ، وكما تعملُ صالحًا تُجازَى، وكما تفعلُ سيئةً تُعاقَب، وإذا أردتَ أن تعرِفَ منزلتَك في الآخرة فانظُر إلى أعمالك في الدنيا، فتزوَّد من الصالحات وسابِق إليها، واجتنِب المُحرَّمات وانأَ عنها.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت: 46].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا مزيدًا.

أيها المسلمون: كما تحبُّ أن يكون اللهُ لك فكُن لله تعالى، ومن أقبلَ على الله بكلِّيَّته أقبلَ الله عليه جُملةً، ومن أعرضَ عن الله بكلِّيَّته أعرضَ الله عنه جُملةً، ومن كان مع الله حينًا وحينًا كان الله له كذلك، ومن أحبَّ أن يعلمَ منزلتَه عند اللهِ فلينظُر كيف منزلةُ الله عنده؛ فإن الله يُنزِلُ العبدَ منه حيث أنزلَه من نفسِه.

ومن طلبَ لذَّة العيشِ وطِيبَه بما حرَّمَه الله عليه عاقبَه ربُّه بنقيضِ قصدِه؛ فإن ما عند الله لا يُنالُ إلا بطاعتهِ، ولم يجعل اللهُ معصيتَه سببًا إلى خيرٍ قط.

ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاةِ والسلامِ على نبيِّه، فقال في مُحكَم التنزيل: (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا) [الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ وسلِّم على نبيِّنا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضَوا بالحق وبه كانوا يعدِلون: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابةِ أجمعين، وعنَّا معهم بجُودِك وكرمِك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمِنًا مُطمئنًّا رخاءً وسائر بلاد المسلمين.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي