الإمام أحمد

سامي بن خالد الحمود
عناصر الخطبة
  1. فضل العلماء وأثرهم .
  2. ميلاد الإمام أحمد وطلبه للعلم .
  3. محنة الإمام أحمد .
  4. وفاة الإمام أحمد وتشييع جنازته .

اقتباس

ولم يكن الإمام بمعزلٍ عن الأمة والمجتمع، بل كان عالمًا عاملاً، مصلحًا مجاهدًا، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، ملتزماً مسالك الرفق والحكمة، ملتزماً بالطاعة، موافقاً للجماعة، بعيد النظر في الإصلاح.

أما بعد، عباد الله: إن في تاريخ العظماء لَخَبَرا، وإن في سير العلماء لعبرا؛ وإذا كانت أمتنا الإسلامية أمة أمجادٍ وحضارة، فإن سجلها الحافل ازدان بكوكبة من الأئمة العظام، والعلماء الأفذاذ الكرام، هم عقد جيدها، وتاج رأسها.

العلماء، شموسٌ في الفضل ساطعة، ونجوم في العلم لامعة، أنوار الهدى، ومصابيح الدجى، تضيء بمنهجها المتلألئ وعلمها المشرق غياهب الظُلَم، وتبددها بأنوارِ العلوم والحكم.

في تاريخ الإسلام علماء ربانيون، وأئمة مهديُّون، وإن ارتباط الأجيال اللاحقة والناشئة المعاصرة بسلفهم من العلماء الأفذاذ، لهو من أهم الأمور الملحة في هذا الزمان، ينتفعون بسيرتهم، ويسيرون على منهجهم، ويقتبسون من نور علمهم وفضلهم، في أعقاب زمن كثرت فيه الفتن، وطمت فيه المحن، واستحكمت فيه الأزمات، وعمت فيه الخلافات.

ولهذا قال بعض أهل العلم: سِيَر الرجال أحب إلينا من كثيرٍ من الفقه، غير أن لا عصمة لأحدٍ من سائر الناس، والتعصب للرجال مذموم، وخير الهدي هدي من لا ينطق عن الهوى: (إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) [النجم:4].

عن مَن سأحدِّثُكُم اليوم؟ أحدثكم اليوم عن أحد الأئمة الأعلام، جبلٌ أشمّ، وبدرٌ أتم، وحبرٌ بحر، وطودٌ شامخ، يعدّ بجدارة إمامَ القرن الثالث الهجري، فريد عصره، ونادرة دهره، قَلَ أن يجود الزمن بمثله، إنه أئمة في شخص إمام، وأمة في رجل.

قال عنه الإمام الشافعي -رحمه الله-: خرجتُ من العراق فما خلَّفْتُ فيها رجلاً أفضل ولا أعلم ولا أتقى لله منه. وقال عنه الإمام الذهبي -رحمه الله-: عالم العصر، وزاهد الدهر، ومحدث الدنيا، وعَلَمُ السنة، وباذل نفسه في المحنة، قَلَّ أن ترى العيون مثله، كان رأسًا في العلم والعمل، والتمسّك بالأثر، ذا عقلٍ رزين، وصدقٍ متين، وإخلاصٍ مكين، انتهت إليه الإمامة في الفقه والحديث والإخلاص والورع، وهو أجل من أنه يمدح بكلِمِي، أو أن أفوه بذكره بفمي.

إنه -يا رعاكم الله- إمام أهل السنة الإمام المفضل والعالم المبجل أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل -رحمه الله-، من عرَفَتْهُ الدُّنْيا وذاع ذكره، وشاع صِيتُه في الآفاق، إمامًا عالمًا فقيهًا، محدِّثًا مجاهدًا صابرًا، لا يخاف في الله لومة لائم، يتحمل المحن في سبيل الله، والذَّبِّ عن سنة رسول الله، ويقارع الباطل بحكمة نادرة، لا تزعزعه الأهواء، ولا تميد به العواصف، حتى قال عنه الإمام يحيى بن معين: أراد الناس منا أن نكون مثل أحمد، لا والله! ما نقْوَى على ما يقوى عليه أحمد، ولا على طريقة أحمد.

عباد الله: على ثرى بغداد، وفي سنة مائة وأربعة وستين للهجرة ولد الإمام أحمد، ومن أصلٍ عربيٍ أصيلٍ انحدر نسبه -رحمه الله-، وعلى عصامية اليتم تربى ودرج في صباه، مما ساعد على سمو نفسه، وعلو همته.

توفي والده وهو ابن ثلاث سنين، فكفلته أمه، ونشأ وترعرع في بغداد، لم تكن بغداد في ذلك الوقت كما هي في هذا الزمان، والله المستعان، كانت بغداد حاضرة العالم الإسلامي، ومهد العلوم والحضارة، تموج بأنواع الفنون والمعارف، وقد تميز عصر الإمام أحمد بنضوج الفقه وظهور المدارس الفقهية، وتميز أيضاً بعدم استقرار الحالة السياسية وكثرة الفتن، فكان توجه الإمام -رحمه الله- إلى تحصيل العلم ولزوم السنة، فلم يحرض على فتنة، ولم يواجه ذا سلطان، مع قوة في الحق، وحبٍ للخلق، وذبٍ عن السُّنة، وتحذيرٍ من البدعة.

أقبل الإمام الرقيق النحيل ذو اللون الأسمر ينهل من العلم، فحفظ القرآن، ثم أقبل على الحديث والأثر، حتى حفظ مئات الألوف من الأحاديث، وما كتابه العظيم (المسند) إلا دليلٌ على طول باعه في علم السنة، جمعه من أكثر من سبعمائة وخمسين ألف حديث، واستغرق في جمعه أكثر من خمس عشرة سنة، أما في الفقه فكان -رحمه الله- حريصاً على فقه السنة، والعناية بالدليل والأثر، والأخذ بفتاوى الصحابة -رضي الله عنهم-.

رحل الإمام أحمد في طلب العلم إلى كثيرٍ من البلدان، حتى قال عنه ابن كثير: لقد طاف في البلاد والآفاق ليسمع من المشايخ، وكانت له همة عالية في الطلب والتحصيل، فما ترك لحظة من لحظات شبابه وكهولته إلا حَرِص فيها على سماع حديث، أو تصحيح رواية، وما قصته في سماعه من عبد الرزاق بن همَّام الصنعاني في مكة وسفره معه إلى بلاده مع بعد الشقة وانقطاع النفقة إلاّ دليلٌ على علو الهمة، ومضاء العزيمة، حتى عده الأئمة حافظ زمانه.

قال ابن المديني: ليس في أصحابنا أحفظ منه. وقيل لأبي زرعة: مَن رأيت من المشايخ المحدثين أحفظ؟ قال: أحمد بن حنبل؛ حزرت كتبه في اليوم الذي مات فيه فبلغت اثني عشر جملاً وأكثر، كلها يحفظها عن ظهر قلب.

ومع هذا العلم الجمّ فقد كان الإمام أحمد يخاف على نفسه البروز والشهرة والتصدر، فلم يجلس للتدريس إلا بعد الأربعين من عمره، وما ذاك إلا مراعاة لسن النضج، والاستيثاق من العلم.

وكان من شدة ورعه -رحمه الله- أنه لا يحدث إلا من كتاب، خشية الزلل، مع قوة حافظته وشدة عارضته، ولا يسمح بتدوين فتاواه، قيل: إنه لسعة علمه أجاب عن ستين ألف مسألة بـ"قال الله وقال رسوله وفتاوى الصحابة -رضي الله عنهم-.

كانت حياته حياة زهد وقناعة،لم يكن يقبل هدايا الخلفاء والسلاطين، وكان يأكل من عمل يده، وإذا اشتدت به الحاجة كان يؤجر نفسه للحمل في الطريق.

عباد الله: إنَّ مِن أهمّ الصفحات في حياة الإمام أحمد -رحمه الله- منهجَه في العقيدة، والتزامَه نهج الكتاب والسنة، وما عليه سلف الأمة في التوحيد والصفات ونزول القرآن، حتى أوذي وامتُحن، فصبر وصابر ولم يتزحزح عن قول الحق، حتى أعز الله به الإسلام والسنة، يقول علي بن المديني: لقد أعزَّ الإسلام برجلين: بأبي بكر يوم الفتنة، وبأحمد بن حنبل يوم المحنة.

ولم يكن الإمام بمعزلٍ عن الأمة والمجتمع، بل كان عالمًا عاملاً، مصلحًا مجاهدًا، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، ملتزماً مسالك الرفق والحكمة، ملتزماً بالطاعة، موافقاً للجماعة، بعيد النظر في الإصلاح.

يقول ابن عمه حنبل بن إسحاق: اجتمع فقهاء بغداد في ولاية الواثق إلى أبي عبد الله، يعني: الإمام أحمد -رحمه الله- وقالوا له: يا أبا عبد الله، إن الأمر قد تفاقم وفشا -يعنون: إظهار القول بخلق القرآن، وغير ذلك- ولا نرضى بإمارته وسلطانه، فناظرهم في ذلك، وقال: عليكم بالإنكار في قلوبكم، ولا تخلعوا يدًا من طاعة، لا تشقّوا عصا المسلمين، ولا تسفِكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريحَ بَرٌّ، ويُستراحَ من فاجر.

وتمضي الأيام، ويضرب الإمام أحمد أروع الأمثلة في الثبات على المبدأ، والصبر أمام الفتن، وذلك في فتنة القول بخلق القرآن، عندما استطاع المعتزلة الوصول إلى الخليفة المأمون، وأقنعوه بتبنيها وإكراه العلماء والناس عليها.

كان الجلادون يتناوبون على الإمام أحمد، كلما ضرب أحدهم الإمام أحمد سوطين تأخر وتقدم الآخر، والخليفة يقول: قل بخلق القرآن، فيقول الإمام أحمد: أعطوني دليلاً من كتاب الله أو سنة رسوله حتى أقول به.

وفي أحد الأيام جردوه من ثيابه، وكانوا يضربونه حتى يغمى عليه، فيفيق، ثم يعيدون الكرة عليه، حتى قال عن نفسه: فذهب عقلي عند ذلك، ثم نقل بعد ذلك إلى بيته وهو لا يقدر على السير من شدة ما نزل به.

لقد أُوذِيَ وسُجِن، وضُرب وأهين، فلم يتغير له رأي، ولم تلِن له قناة، ولم يتزحزح عن الحق، مسطراً أعظم الدروس للعلماء والمصلحين في كل زمانٍ ومكان.

لم يتأثر بالأهوال التي حاطت به، ولا بالمؤامرات التي أحيكت ضده، ولم يبال بالسياط التي كانت تُلْهِبُ ظهره، ولا بالحديد الذي كُبِّل فيه، ولا بالسجن الذي أودع به، فكل ذلك هين ما دام في سبيل الله، وصيانة كتابه من عبث العابثين، واعتقادات المبطلين.

وضع الله له القبول في قلوب العباد، وطار ذكره في الآفاق، ودعا له المسلمون وتقربوا إلى الله بحبه، وهو مع هذا في تواضُعٍ جَمٍّ، يخاف على نفسه من الاستدراج.

عباد الله: تلكم هي مقامات العظماء، ومناهج العلماء الأتقياء، وهي القدوة الصالحة، والأسوة الحسنة لنا ولأبنائنا.

نسأل الله تعالى أن يرزقنا حسن الاقتداء بهم، والتأسي بأخلاقهم، إنه جواد كريم، والحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفى...
عباد الله: وفي صفحات أخرى من حياة هذا الإمام الهمام تشرق صفحة العبادة وتزكية النفس بالصلاة والذكر والدعاء والتلاوة، وفي صفحة أخرى يتجلى الخلق الرفيع، والسجايا الحميدة، زهدٌ وحياء، تواضعٌ وورع، تعفُّفٌ وجود، بذلٌ وكرم، حبٌ للفقراء والمساكين، بعدٌ عن الشهرة والأضواء وحب الظهور.

قال ابنه عبد الله: كان أبي أحرصَ الناس على الوِحدة، لم يره أحدٌ إلا في المسجد أو حضور جنازة أو عيادة مريض، وكان يكره المشي في الأسواق، ولا يدع أحدًا يتبعه.

كان الإمام أحمد كثير العفو عمن يسيء إليه، أساء إليه رجل ثم عاد إليه نادماً، وقال له معتذراً: يا أبا عبد الله، إن الذي كان مني على غير تعمد، فأنا أحب أن تجعلني في حِل، فقال الإمام أحمد: مازالت قدماي من مكانها حتى جعلتك في حِلٍّ.

وحينما نقلب صفحة أخرى من حياة هذا الإمام نرى التميز في الجانب الأسري وتربية الأولاد، فلم تشغله هموم العلم والدعوة والإصلاح والجهاد عن أسرته وحسن العشرة لأهله وزوجه، يقول الإمام أحمد -رحمه الله-: تزوجت أم صالح فأقامت معي ثلاثين سنة، فما اختلفت أنا وهي في كلمة واحدة. وخلف الإمام أحمد وراءه أبناء بررة، وعلماء سفرة، كانوا من ثمرات هذا البيت الصالح.

وفي صفحة أخرى من سجل هذا الإمام الجليل يظهر إنصافه للمخالف، وسلامة صدره للمسلمين، وتقديره لأهل العلم وإن اختلف معهم، ولما عتب عليه بعضهم وأرادوا إثارة الخلاف بينه وبين الشافعي قال: مَهْ! ما رأت عيناي مثل الشافعي، وقال: إني لأدعُو الله للشافعي في صلاتي منذ أربعين سنة.

وفي الصفحة الأخيرة من حياة هذا الأمام، في سنة مائتين وإحدى وأربعين، وبعد حياة حافلة بالخير والعطاء، أصيب الإمام أحمد بالحمَّى، وحضرته الوفاة، يقول ابنه عبد الله: لما حضرت أبي الوفاة جلست عنده، فجعل يُغشى عليه ثم يُفيق، ثم يفتح عينيه ويقول بيده: لا بعد، لا بعد، لا بعد، ثلاث مرات، ففعل هذا مرة ثانية وثالثة، فلما كانت الثالثة قلت له: يا أبتِ، إنك قلت كذا وكذا، فقال: ما تدري، هذا إبليس قائم حذائي عاضٌّ على أنامله يقول: فُتَّني يا أحمد، وأنا أقول: لا بعدُ حتَّى أموت. قال صالح: فجعل أبي يحرك لسانه بالشهادة حتى توفي -رحمه الله- وله سبعٌ وسبعون سنة وأيام.

وانتشر الخبر في بغداد، فصاح الناس، وعلت الأصوات بالبكاء، حتى كأن الدنيا قد ارتجت، وامتلأت الشوارع بالناس.

ثم كان يوم الجنائز فشهدت جنازته جمعًا غفيراً، قيل: إنه لم يُشهَد مثله في الجاهلية والإسلام، حتى بلغ مَن حضر جنازة الإمام أحمد سبعمائةَ ألف من الرجال، وستين ألف من النساء، هذا سوى مَن كان على السفن في الماء، حتى قيل: إن بعض غير المسلمين أسلموا ذلك اليوم لما رأوا جنازة الإمام أحمد.

وصدق الإمام أحمد -رحمه الله- عندما كان يقول في حياته: قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم يوم الجنائز.

تلكم -أيها الأحبة- صفَحَاتٌ ناصعة، وإشارات سريعة من حياة هذا الإمام الجليل، نقف معها وفاءً لعلمائنا، وأداءً لبعض حقِّهم علينا، وربطًا للناس بسيرهم التي ورثوها من المنهج النبوي، واستقَوْها من مَعِينِ الكتاب والسُّنَّة، في بُعدٍ عن التعصُّب المذهبي، والمسلك التحزبي، وفي مجانبة لمسالك الغلو في الأئمة، والجفاء لهم، والحطّ من مكانتهم، فليس الحديث عن عالم حطًّا من مكانة غيره من العلماء، فأبو حنيفة ومالك والشافعي -رحمهم الله- وسائر الأئمة لهم حظهم الوافر في خدمة الإسلام وأهله، فرحمهم الله جميعاً ورضي عنهم.

ألا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على خير البرية...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي