محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- هو أطهر البشرية جمعاء، ولن يضيره هذا الكذب والافتراء، وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "ألا ترونَ كيف يَصْرِفُ الله عنِّي شَتْمَ قريشٍ ولعنَهم؟ يشتمون مُذَمَّمَاً، ويلعنون مُذَمَّمَاً، وأنا مُحَمَّدٌ!".
الحمد لله الذي أوضح لنا سبيل الهداية، وأزاح عن بصائرنا ظُلْمَةَ الغواية، والصلاة والسلام على النبي المصطفى، والرسول المجتبى، المبعوث رحمة للعالمين، وقدوة للسالكين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الحديد:28].
أما بعد: حديثنا اليوم عن رجل عظيم، بحبه تمتلئ القلوب، ولرؤيته تشتاق النفوس، وبسيرته تلين الأفئدة، كيف لا، وهو الذي هدانا الله به من الضلالة، وعلَّمَنا من الجهالة، وبصَّرَنا من العمى، وأخرجنا بدعوته من الظلمات إلى النور؟ كيف لا وقد اصطفاه الله على الناس، فجعله أكرمهم وأحبهم إليه؟.
إنه الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم-، خاتم الأنبياء، وصفوة الأولياء، صاحب المقام المحمود، واللواء المعقود، والحوض المورود، إمام المتقين، وسيد ولد آدم أجمعين.
لا يُسلم العبد إلا بالشهادة له بالرسالة بعد الشهادة لله بالتوحيد، ولا يؤمن العبد حتى يكونَ أحبَّ إليه من ولَدِهِ ووالده والناس أجمعين، اختاره الله وزكَّاهُ وقال: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4].
ومع هذه المكانة العظيمة، والمنزلة الرفيعة، يأبى أعداء الله ورسولِه إلا أن يتعرضوا لمقامه الشريف بالقدح والافتراء، وكان من آخِر هذه الجرائم ما نشرته إحدى الصحفِ الدنمركية من رسوم كاريكاتيريةٍ مسيئةٍ لجنابه الكريم -صلى الله عليه وسلم-.
وكنتُ قد تابعتُ هذه القضية منذ مدة، ثم وقفت على هذه الرسوم على موقع الصحيفة الدنماركية المشؤومة، وكنا نظن أن الأمر خطأ عارض من الصحيفة، لكن الوضع ازداد سوءاً بموقف حكومة الدانمرك المتعنت.
ثم تعدى في الأسبوع الماضي إلى دولة أخرى، حيث قامت إحدى صحف النرويج بإعادة نشر الكاريكاتيرات الاثني عشر في أول أيام عيد الأضحى المبارك، في توقيتٍ واضحٍ لتعمُّد الإساءة وإلحاق الأذى بمشاعر المسلمين الذين يحتفلون بهذه المناسبة العظيمة.
بدأت القضية في الدانمرك، الدولة الأوروبية الصغيرة التي يسكنها خمسة ملايين نسمة، منهم مائتي ألف مسلم، حيث أعلن رئيس تحرير صحيفة (ايلاندز بوستن)، الصحيفةِ اليوميةِ الكبرى في البلاد، أعلن عن مسابقةٍ للرسَّامين الدانماركيين لتقديم رسوم عن النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وتلقت الصحيفة العديد من الرسوم، ونشرت منها اثني عشر رسماً، ثم كتب رئيس التحرير يقول: إن الصحيفة تتحدَّى المسلمين وقراراتهم بمنع نشر رسومٍ لنبيهم.
رسوم مأفونة، تفوح منها رائحة العنصرية والكراهية للإسلام ووصمه بالإرهاب، ففي أحد الرسوم يظهر النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- كإرهابيٍ يلوّح بسيفه، ومعه سيداتٌ يرتدين العباءة السوداء والنقاب، وفي رسم آخر يظهر النبيُّ مرتدياً عمامةً على هيئةِ قنبلةٍ سوداء، مكتوبٌ عليها لا إله إلا الله محمد رسول الله، في تحدٍّ صارخٍ لمشاعرِ أكثرَ من مائتي ألف مسلم في الدنمارك، وأكثرَ من مليار وثلاثمائة مليون مسلم في العالم.
وقد هب إخواننا المسلمون في الدنمرك إلى إنكار الحدث، فكُتبت المقالات ووُجهت الخطابات إلى الصحيفة والحكومة، وتظاهر أكثر من خمسة آلاف مسلم، في مظاهراتٍ ضخمةٍ في شوارعَ كوبنهاجن، اتجهت إلى مقر الصحيفة ومقر رئاسة الوزراء، ولم تتوقف المظاهرات إلا بعد أن توجَّهَ أحدَ عشرَ سفيراً مسلما إلى رئاسة الوزراء يحتجون لدى رئيس الوزراء، فرفض اللقاءَ بهم، ثم صرح بأنه يُدْرِكُ بأنَّ ما فعلته الصحيفة يعدُّ إثارةً لمشاعر المسلمين، لكنه لن يتخذ أي إجراء، لأنه لا حدود لحرية الصحافة، وكأنه يقول: نحن ماضون على هذا المنهج.
هكذا بكل جرأةٍ وصفاقة، وتجاهلٍ لجميعِ دساتيرِ العالم ومواثيقِه، والتي تؤكد على احترام الرسلِ والشرائعِ السماوية، والأديانِ، كلِ الأديان، إلا الإسلام في ميزانهم.
وعندما سمع رئيس التحرير ما قاله رئيس وزراء بلاده قال: إن المسلمين يحلمون بأن أنطق بكلمة الاعتذار أو الأسف.
ألا شَلَّ اللهُ يمينَك يا عدوَّ الله، وأخرس لسانك، وأعمى بصرك، وأنزل عليك غضبه وسخطه! أنت ورئيسُ وزرائك ورساموك الذين رسموا هذه الرسوم، وكلُ من تولى كِبْر هذه الجريمة.
عباد الله: ماذا بقِي لنا مِن العِزَّةِ والكرامَةِ؟ قتلوا الشيوخ فسَكَتْنَا، وذبحوا الأطفال فصَمَتْنَا، وهتَكوا الأعراض فأُلْجِمْنا، ولم يبق إلا سبُّ نبيِّنا، ومِنْ مَنْ؟ من هذه الدولة الصغيرة! فيا لَله! حتى الأراذلُ والأصاغرُ رفعوا رؤوسهم علينا، وتجرؤوا على نبينا، نشكو إلى الله أحوالنا وهواننا.
هكذا يفعل النصارى الحاقدون مع نبينا -صلى الله عليه وسلم-،ثم ينادي بعضنا بأن لا نقول للكافر: يا كافر! بل نقول له: الآخر! احتراماً لمشاعره، ومراعاة لنفسيته! فهل احترم هؤلاء نبيَّنا؟.
ثم يطالب آخرون بحذف الولاء والبراء من مناهجنا الدراسية، فلا نبغض أعداء الله، ولا نظهر العداوة لهم، لأننا في عصر الصفح والتسامح بين الأديان، وربنا سبحانه يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَق) [الممتحنة:1].
ويقول سبحانه: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) [المائدة:17، 72]، (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ) [المائدة:73].
إن هؤلاء الذين يشتغلون بالوقيعة في محمد -صلى الله عليه وسلم-، إنما يقعون في مَن علَّم البشرية تعظيم أنبياء الله وتوقير رسله: (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة:285].
إن الذي يصفونه بأنه السفّاحُ والقاتل هو نبيُ الرحمة الذي علّم البشرية: (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) [المائدة:32]، والذي علَّم البشرية الرحمةَ والعدل، حتى في حال الحرب والقتال، فقال: "لا تغُلُّوا، ولا تغدروا، ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا وليداً"، قال هذا في وقت سادت فيه البربرية والوحشية حيث لا هيئات ولا مواثيق ولا قوانين عالمية.
لقد ظل -صلى الله عليه وسلم- في مكة ثلاث عشرة سنة، أُوذِيَ فيها أشدَّ العذاب هو وأصحابه، فما تذمّر ولا تضجّر، ثم نصره الله وفتح له الأرض فما تغير ولا تكبّر، لم ينتصر لنفسه -صلى الله عليه وسلم- من قومٍ حاربُوه وآذَوْهُ وعاندوا دينه، كما قال أبو سفيان رضي الله عنه بعد أن أسلم:
لَعَـمْرُكَ إني يومَ أحمِلُ رايةً *** لتَغْلِبَ خيلُ اللَّاتِ خيلَ محمدِ
لكالمدلجِ الحيران أظلمَ ليلُه *** فهذا أواني حين أُهدَى وأَهْتَدِي
هَدَانيَ هادٍ غيرُ نفسِي ودَلَّنِي *** على اللهِ مَن طَرَّدْتُهُ كُلَّ مَطْرَدِ
وما حَمَلَتْ من ناقةٍ فَوْقَ ظهْرِها *** أبَرَّ وأوفَى ذمـةً مِن مُحَـمَّدِ
هكذا كان -صلى الله عليه وسلم-، سيرته صفحة مكشوفة يعرفها محبوه وشانئوه، وإنَّ تعلُّقَ هؤلاء الأقزام بهذه التُّهَم لَدَلِيلٌ على إفلاسهم؛ وإلا فلو أرادوا الحق والسلام فليتحدثوا عن القتل وسفك الدماء الذي مارسته الكنيسة ومحاكم التفتيش ضد المسلمين واليهودِ في الحروب الصليبية!.
أين كلامهم عن القتل وسفك دماء المدنيين من النساء والأطفال والشيوخ في هيروشيما ونجازاكي وفيتنام وغيرها؟ أين كلامهم عن سفك الدماء الذي يمارسه اليهود ضد الأطفالِ والنساءِ في فلسطين؟.
عباد الله: يُخطئ من يظنُّ أنّ في هؤلاء النصارى مَن هو محايد أو صديق للمسلمين أو العرب، فما هي في الحقيقة إلا مصالح وسياسات متقلبة.
في الماضي، روجَّ الإعلام العربي أنّ فرنسا صديقةٌ حميمةٌ للعرب والمسلمين؛ فإذا بها اليوم ترفع راية التمييز العنصري ضد المسلمين وتطرد من أراضيها المغتربين العرب، وتحرم بناتهم الحجاب الإسلامي، وتطرد المحجبات من مدارسها وجامعاتها!.
الملة النصرانية واحدة، والحكومات الصليبية واحدة، والإسلام هو العدو الأول عند جميع هذه الحكومات بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، حتى صرح الرئيس الأمريكي بأنها حرب صليبية جديدة، وأن الربّ قد أمره بغزو الطلبة في أفغانستان، واحتلال العراق واستباحة شعبه.
إنّها حرب مفروضة علينا شئنا أم أبينا ما دمنا مسلمين، (وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ) [البقرة:217].
إنها عداوة ضرورية لا بد منها ما دُمْنَا موحّدين، (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) [البقرة:120].
إن هؤلاء هم مَنْ يصنع الإرهاب، ويقذف بالنار إلى صهاريج الوقود، فالنَّيْلُ من جناب النبوة استفزاز لكل مسلم، ومقام محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- دونه مُهَج النفوس، وفِداهُ الأمهات والآباء، وإن جمرة الغضب التي يوقدها هؤلاء في قلب كل مسلم لا يمكن التنبؤ بالحريق الذي ستشعله، والله المستعان.
لقد فعل هؤلاء النصارى ما لم يفعله نصارى الأمس، فحينما بعث رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- كتابه إلى قيصر ملك الروم، لم يُسْلِم، لكنَّه أكرم كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأكرم رسوله، فثَبَتَ ملكُه، واستمر في الأجيال اللاحقة.
وكان ملوك النصارى يعظِّمون كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل، وقد ذكر ابن حجر في الفتح أن سيف الدين المنصوري أرسله الملك المنصور قلاوون إلى ملك الفرنج، فأطلعه الملك على صندوق مُصفَّح بذهب، فأخرج منه مِقلمةَ ذهب، فأخرج منها كتاباً قد زالت أكثرُ حروفِه، وقد التصقت عليه خِرقَةُ حرير، فقال : هذا كتاب نبيكم إلى جدي قيصر، ما زلنا نتوارثه إلى الآن، وأوصانا آباؤُنا أنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال الملك فينا، فنحن نحفظُه غاية الحفظ ونعظمه، ونكتمُه عن النصارى ليدوم الملك فينا.
وفي مسند الإمام أحمد، لما قرأ جعفر بن أبي طالب أول سورة مريم على الملك النصراني، النجاشي، ملك الحبشة، بكى النجاشيُ حتى أَخْضَلَ لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم، ثم قال النجاشي: إن هذا -واللهِ!- والذي جاء به موسى لَيَخْرُجُ من مشكاة واحدة. قال تعالى: (وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [المائدة:83].
وبعد، عباد الله: فإننا مع ما أصابنا من الهم والحزن، نوقن أن مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- عزيز، وأن الله ناصره، ومُعلٍ ذكره، ورافعٌ شأنه.
محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- هو أطهر البشرية جمعاء، ولن يضيره هذا الكذب والافتراء، وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "ألا ترونَ كيف يَصْرِفُ الله عنِّي شَتْمَ قريشٍ ولعنَهم؟ يشتمون مُذَمَّمَاً، ويلعنون مُذَمَّمَاً، وأنا مُحَمَّدٌ!".
قال ابن حجر -رحمه الله-: قوله: "يشتمون مُذَمَّمَاً": كان الكفار من قريش من شدة كراهتهم في النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يسمونه باسمه الدال على المدح، فيعدلون إلى ضده، فيقولون : مُذَمَّم، وإذا ذكروه بسوء قالوا : فَعَلَ الله بمذمم. ومُذَمَّم ليس هو اسمه -عليه الصلاة والسلام-، ولا يُعرف به، فكان الذي يقع منهم في ذلك مصروفاً إلى غيره.
ونحن نقول : وهكذا تلك الرسوم؛ فإنها قطعاً لا تمثل رسول الله محمداً -صلى الله عليه وسلم-، لا في خَلْقه، ولا في خُلُقه.
أما خَلقْه -صلى الله عليه وسلم-: فوجهه الطُّهر والضياء، والقداسة والبهاء، وجهُه أعظم ضياءً من القمر المسفر ليلة البدر، وجه محمد يفيض سماحةً وبِشْرَاً وسروراً، له طلعةٌ آسرة، تأخذ بلب كل من رآه إجلالاً وإعجاباً وتقديراً.
وأما خُلُقه -صلى الله عليه وسلم-: فقد كان سمحاً كريماً، رؤوفاً رحيماً، ما كان عابساً ولا مكشراً، وما ضرب أحداً في حياته، ما خُيِّرَ بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثماً؛ وما انتقم لنفسه، إلا أن تُنتهك حرمةُ الله فينتقمُ لله بها.
وإننا نوقن بأن الله منتقمٌ لرسوله، ومعذِّبٌ لمن آذاه في الدنيا والآخرة: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [التوبة:61]، (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً) [الأحزاب:57]، (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [الحجر:94-95].
وقال سبحانه: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ) [الكوثر:3]، إنَّ مبغضَك يا محمد، ومبغضَ ما جئتَ به من الهدى والحق (هُوَ الأَبْتَرُ): هو الأقل الأذل المنقطع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: إنَّ الله منتقمٌ لرسوله ممن طعن عليه وسَبَّه، ومُظْهِرٌ لِدِينِهِ ولِكَذِبِ الكاذب إذا لم يمكِنِ الناسُ أن يُقيموا عليه الحد. انتهى كلامه.
ولعلك لا تجد أحداً آذى نبياً من الأنبياء ثم لم يَتُبْ إلا ولا بد أن يصيبه الله بقارعة، كما هو حال بني إسرائيل الذين كفروا بالله، وقتلوا الأنبياء بغير حق.
إنها سنة الله، وإن الأيام بيننا وبين أولئك المبطلين المستهزئين، لننظر من تكونُ له العاقبة، ومَن الذي يضِلُّ سعيه، وينكشفُ كذبه، ويظهرُ افتراؤه.
عباد الله: إن عظمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نفوسنا أعلى من قُبّة الفَلَك، ولن ينالَ منها مثلُ هذا الفعل الجبان، لن يضرِّ السحابَ نُباحُ الكلاب، ولن يضرَ السماءَ أن تمتد لها يدٌ شلَّاء، والذي يبصق على السماء، عليه أن يمسح وجهه إذا بصق، ولكنّ الذي يعنينا، هو واجبُنا تجاه مقام النبوة، والانتصارُ لجناب الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والذبُّ عن مقامه الشريف.
فإلى كل مؤمن بالله ورسوله، إلى كل قلب يخفق حباً لنبيه -صلى الله عليه وسلم-، إلى كل مهجة تتحرق شوقاً إليه، إلى كل مسلم يعلم أنه لولا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكنا حيارى في الظلمات، ولولا رسول الله لكنا فحماً في نار جهنم، هذا نداء لنصرة النبي -صلى الله عليه وسلم- بإعلان الاستنكار لهذا التواقح الفاحش والتسفل البذيء، والاحتجاجِ الرسمي والشعبي والفردي، ومقاطعةِ بضائع تلك الدولة التي أقرت هذه الجريمة، حتى تعرفَ لنبينا -صلى الله عليه وسلم- قدره، وتصونَ مقامه من كيد الحاقدين وعبث المستهترين.
يا أمة محمد: مَن ينتصر لمحمد الله -صلى الله عليه وسلم- الذي ضحى بكل ما يملك من أجل أن يصلنا هذا الدين؟ أوذي من أجلنا، وطُرد من أرضه من أجلنا، أنعجز بعد هذا أن نقاطع منتجات المتطاولين على جنابه الشريف؟ أنعجز أن نطعنَهم في اقتصادِهم، شِرْيانِ حياتهم، وسِرِّ قوتهِم؟ والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم" رواه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه الألباني.
الحمد لله على إحسانه...
يا أمة محمد: لئنْ تخاذل رجالنا عن نصرة نبينا -صلى الله عليه وسلم- فلقد سطر التاريخ صوراً مشرقة، ومواقفَ باهرة، لنساءٍ نافحن عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهذه أم عمارة -رضي الله عنها- كانت تقاتل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة أحد، يميناً وشمالا، و تذود عنه سيوف الأعداء ونبالهم، حتى أصيبت بعدة جراح، فأين رجال الأمة، الذين هم أولى بالدفاع عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟.
أليس لنا أسوة في الصحابي الجليل عبدِ الله بنِ عبدِ الله بن أبي بن سلول، في موقفه الحازم من أبيه، عندما آذَى والدُه رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- بكلامٍ قبيحٍ قال فيه: والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فعلم ولده عبد الله بذلك فقال لوالده: والله لا تفلت حتى تقر أنك أنت الذليل ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- العزيز! فلم يسمح لوالده بدخول المدينة حتى اعتذر عن كلامه، فأنزل الله تعالى: (يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [المنافقون:8].
الله أكبر! هكذا يغضب الرجال، وينتصر الأبطال لنبي الله، إنه لم يجامل والده، ولم يداهنه من أجل قرابته، ولم يتنازل عن الدفاع عن رسول الله من أجل مصالحه، إنه الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب.
يقول حسان بن ثابت:
هجوتَ محمداً وأجبتُ عنهُ *** وعند الله في ذاك الجزاءُ
أتهجُوهُ ولستَ لهُ بكُفْءٍ *** فشرُكُما لخيرِكما الفداءُ
هجوتَ مُباركَاً بَرَّاً حنيفاً *** أمينَ الله شيمتُه الوفاءُ
أَمَنْ يهجو رسولَ الله منكم *** ويمْدَحُهُ وينصرُه سَواءُ؟
فإنَّ أبي ووالدَه وعِرضي *** لعِرضِ مُحَمَّدٍ منكُم وقاءُ
وإن مما يخفف المصاب، ويسر كل غيور، ما قامت به الجالية المسلمة في الدنمارك من استنكار الحدث والمطالبة باتخاذ إجراءات صارمة بحق تلك الصحيفة، كما لا ننسى موقفَ بعض سفراء الدول العربية والإسلامية هناك، وموقفَ العديد من المنظمات الإسلامية كمنظمة المؤتمر الإسلامي والتي أصدرت بياناً بمقاطعة المشروع الثقافي: "صور من الشرق الأوسط" والذي سيقيمه المركز الدانمركي للثقافة والتطوير، وتموله جزئيا الحكومة الدانمركية.
كما أصدر مجمع الفقه الإسلامي بجدة بياناً يرد فيه على الرسومات التي نشرت في الصحيفتين الدنماركية والنرويجية.
وصرّح المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة أن الدانمارك اذا استمرت في تجاهلها لمشاعر الملايين من المسلمين فإن المنظمة ستحث الدول الإسلامية الأعضاء بها على ضرورة قطع علاقتها الاقتصادية والسياسية مع الدانمارك، وكشف عن أنه سيتم رفعُ دعوى ضد الصحيفة.
أما على مستوى الأفراد، فقد قام الكثير من محبي محمد -صلى الله عليه وسلم- بالتواصي بالحق، والتذكيرِ بهذه القضية من خلال المجالس وعبر رسائل الجوال، والتعريفِ ببضائع تلك الدولة ومقاطعتِها، وأنشأ بعض الأخيار مواقع على شبكة الإنترنت للدفاع عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ولا يزال الخير في أمة محمد، ومحبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، والباب مفتوح لكل مسلم يستطيع أن يبعث استنكاره باللغة الإنجليزية لتلك الجريدة أو الجهات المسؤولة في تلك الدولة لوقف مثل هذه الأعمال، والاعتذار منها علناً، ومنع تكرارها.
هذا، ولا يزال المسلمون ينتظرون مواقفَ رسميةً حازمةً من الدول العربية والإسلامية، حماية لجناب المصطفى الشريف ومقامه الرفيع، بآبائنا هو وأمهاتنا -صلى الله عليه وسلم-.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين.
اللهم اجعل حبك وحب رسولك أحب إلينا من أنفسنا وأبنائنا ومن الماء البارد على الظمأ، اللهم ارزقنا شفاعة نبيك محمد، وأوردنا حوضه، وارزقنا مرافقته في الجنة.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي