عن أنس رضي الله عنه "أن يونس لما قال: (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)، أقبلت هذه الدعوة تَحُفُّ بالعرش، فقالت الملائكة: يا رب، صوت ضعيف معروف، من بلاد غريبة؟ فقال: أما تعرفون ذاك؟ قالوا: لا يا ربنا، ومن هو؟ قال: عبدي يونس. قالوا: عبدك يونس الذي لم يزل يَرفعُ له عملاً متقبلاً، ودعوةً مجابة؟ قال: نعم، قالوا: يا رب أفلا ترحم ما كان يصنع في الرخاء، فتنجيَه في البلاء؟ قال: ..
أما بعد: من هم الذين يداومون ويستمرون على العمل الصالح؟
إنهم الصفوة المؤمنة الذين وصفهم ربهم بأنهم (الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ)، (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ).
وقد تحدثنا في الخطبة الماضية عن المداومة على العمل الصالح بعد رمضان، وذكرنا بعض النماذج المشرقة التي سطرها أولياء الله في مداومتهم على طاعة ربهم.
وفي هذه الخطبة نتحدث إليكم عن أمرين:
الأمر الأول: ثمرات المداومة على العمل الصالح.
والأمر الثاني: وسائل ومحفزات المداومة على العمل الصالح.
أما الثمرات والكرامات..
1- فمن ثمرات المداومة على العمل الصالح -وإن قل-: أنها سبب لدخول الجنة.
ها هو بلال رضي الله عنه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة.
جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبِلَالٍ عِنْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ: يَا بِلَالُ حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ -أي تحريك نعليك- بَيْنَ يَدَيَّ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ: مَا عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طُهُورًا فِي سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ إِلَّا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِي أَنْ أُصَلِّيَ.
وفي رواية صحيحة للترمذي: أن بلالاً قال: ما أذنت قط إلا صليت ركعتين، وما أصابني حدث قط إلا توضأت عندها ورأيت أن لله علي ركعتين.
وقد أفاد الحديث أن الله تعالى يحب المداومة على العمل الصالح وإن كان قليلاً، وأنه يجزي عامله بدخول الجنة.
الثمرة الثانية -من ثمرات المداومة على العمل الصالح-: أنها سبب لمحبة الله تعالى للعبد، وكفى بها ثمرةً وكرامة.
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ". رواه البخاري.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم" وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ" دليل على أن المداومة والاستمرار على العمل الصالح، سببٌ لمحبة الله تعالى للعبد.
الثمرة الثالثة: أنها سبب لتكفير الخطايا والآثام.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ [أي وسخِهِ] شَيْءٌ؟ قَالُوا: لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ. قَالَ: فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا"
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اله صلى الله عليه وسلم: "من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة، حُطّت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر" متفق عليه.
الثمرة الرابعة للمداومة على العمل الصالح: أنها سبب للنجاة من الكرب والشدائد في الدنيا والآخرة.
وقد ثبت عند أحمد والترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ: "يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ..." الحديث.
وفي زيادة صحيحة عند أحمد: "تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة".
ومعنى هذا أن العبد المؤمن بمداومته على العمل الصالح في حال الرخاء تكون بينه وبين الله تعالى صلة ومعرفة، تنفعه وتنجيه متى ما وقع في شيء من الشدائد.
ها هو يونس عليه السلام، يخرج من بين قومه بعد أن يئس منهم، ويركب البحر، فتضطرب الأمواج، ويستهم القوم ليلقوا أحدهم في البحر، فكلما أجروا القرعة خرجت على يونس، فألقوه في البحر، فيرسل الله الحوت فيلتقمه، ويتلفت يونس فإذا هو وحيداً في بطن الحوت، (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ).
نقل ابن كثير في تفسيره من طريق ابن أبي حاتم عن أنس رضي الله عنه "أن يونس لما قال: (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)، أقبلت هذه الدعوة تَحُفُّ بالعرش، فقالت الملائكة: يا رب، صوت ضعيف معروف، من بلاد غريبة؟ فقال: أما تعرفون ذاك؟ قالوا: لا يا ربنا، ومن هو؟ قال: عبدي يونس. قالوا: عبدك يونس الذي لم يزل يَرفعُ له عملاً متقبلاً، ودعوةً مجابة؟ قال: نعم، قالوا: يا رب أفلا ترحم ما كان يصنع في الرخاء، فتنجيَه في البلاء؟ قال: بلى، فأَمَرَ الحوتَ فطرحه في العراء".
قال تعالى: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ). والمعنى: لولا ما تقدم له من العمل في الرخاء، كما اختاره ابن جرير.
عبد الله: وأنت الآن في الرخاء، تذكر أن الدنيا غير مأمونة، وسكراتِ الموت ليست بمضمونة، والقيامةَ فيها النفوس مغبونة.. فاعمل في الرخاء ما ينجيك من الشدّةِ ويكفيك المؤنة.. بعد رحمة الله تعالى.
الثمرة الخامسة للمداومة على العمل الصالح: دوام اتصال القلب بالله تعالى، مما يعطي القلب قوةً ونوراً وثباتاً على دين الله. وقد عد بعض أهل العلم هذا الأمر من الحِكَم التي شرعت من أجلها الأذكار، سواءً الأذكارُ المطلقة، أو المقيَّدةُ بالأحوال.
الثمرة السادسة: أن المداومة سبب لحسن الخاتمة، فإن المؤمن متى ما اشتدت عزيمته على فعل الخيرات، والانكفاف عن السيئات، وفقه الله لحسن الخاتمة، كما قال تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ).
الثمرة السابعة: أن العبد إذا كان يداوم على العمل الصالح، ثم عرض له عذر من مرضٍ أو سفر، كُتِب له ما كان يعمل حال صحته وإقامته.
فقد روى البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مرض العبد أو سافر كُتِب له ما كان يعمل مقيماً صحيحاً".
قال ابن حجر: هذا في حق من كان يعمل طاعةً فمُنِع منها، وكانت نيَّتُه لولا المانع أن يدوم عليها. اهـ
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من امريء تكون له صلاةٌ بليل، فغَلَبَه عليها نوم، إلا كَتَبَ الله له أجر صلاته، وكان نومه صدقةً عليه" رواه أبو داود والنسائي وصححه الألباني.
وهذا الفضل من الله تعالى، إنما يكون هذا أيها الأحبة، فيمن كان له وردٌ يحافظ عليه، وعملٌ يداوم عليه.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله وأتوب إليه إنه هو التواب الغفور.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً...
عباد الله: ما هي الوسائل والمحفزات التي تعيننا على المداومة على العمل الصالح؟
هذه بعض الوسائل، أذكرها على سبيل الإيجاز:
1) أولاً وقبل كل شي طلب العون من الله عز وجل على الهداية والثبات، وقد أثنى الله تعالى على دعاء الراسخين في العلم (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ).
إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى *** فأول ما يقضي عليه اجتهاده
2) العزيمة الصادقة بعد التوكل على الله تعالى، ونفض غبار الغفلة والتسويف.
فانتبه من رقدة الغفلة فالعمر قليل *** واطرح سوف وحتى فهما داء دخيل
3) الاقتصاد في العبادة، وعدم الإثقال على النفس بأعمال تؤدي إلى المشقة، المفضية إلى السآمة والملل من العبادة.
وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: أدومها وإن قل. وقال: اكلَفوا من الأعمال ما تطيقون.
4) تذكر الموتِ والدارِ الآخرة، وقصرُ الأمل، فإن طول الأمل يورث الكسل، ويفسد العمل.
"أكثروا ذكرَ هاذمِ اللذات"كما قال صلى الله عليه وسلم، أي الموت، ومن أكثر ذكر الموت، نَشَط في عمله، ولم يغتر بطول أمله، وبادر بالأعمال قبل نزول أجله.
(وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ).
5) الإكثار من مُجالسة الصالحين، والحرص على مجالس الذكر التي تحيي القلوب، وترغبها في العمل الصالح.
6) التعرف على سير الصحابة والسلف الصالح من خلال القراءة للكتب أو استماع الأشرطة، فإنها تبعث في النفس الهمة والعزيمة.
7) الإكثار من ذكر الله واستغفاره، فإنه عمل يسير، ونفعه كبير، وهو يزيد الإيمان، ويُقوي القلب.
8) البعد كل البعد عن مفسدات القلب من جلساء السوء، ومشاهدة القنوات الفاسدة، والمجلات الهابطة، والاستماع للغناء والطرب.
تاسعا –وأخيرا- أوصيكم ونفسي الخاطئة بتجديد التوبة.. التوبة النصوح التي ليس فيها رجوع للمعصية، فإن الله يفرح بعبده إذا تاب أشد الفرح، ويوفقه للعمل الصالح.
جعلنا الله وإياكم من التوابين الأواهين، وسلك بنا طريق المخبتين، (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ).
وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية وأزكى...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي