العمل الصالح على مفترق طرق

عدنان مصطفى خطاطبة
عناصر الخطبة
  1. عُمُرُ الإنسان في المنظورين الإسلامي والمادي .
  2. العملُ الصالحُ والطلبُ الذي لا يُلَبَّى .
  3. العملُ الصالحُ ويقظة الذليل .
  4. العمل الصالح وصرخة البائس .
  5. عمل الصالحات على مَفْرَقِ طرق .
  6. إرشاد الله تعالى عبادَه لعمل الصالحات رحمةً منه ومحبة .
  7. العمل الصالح وامتداد حبال الأجر بعد الموت .

اقتباس

العمل الصالح في هذه الدنيا هو عزّتك في الآخرة، هو رفعة لرأسك بين الناس يوم القيامة، يوم تذلّ نفوس، وتُداس بالأقدام شخوص، يوم تُنَكَّس رؤوس، لطالما اغترت في هذه الحياة الدنيا وألقت بعمل الصالحات وراء ظهرها، ولطالما تطاولت على عباد الله، ولطالما أجرمت في حق الخلق والخالق، ولطالما استهزأت بأهل الصلاح والصالحات، ولكنها اليوم تقف ذليلة ومُهَانَةً ومخذولة ومنكوسة بين يدي رب العزة ورب العرش العظيم ..

إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فهو المهتدي، ومن يُضْلِلْ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله.

وبعد:

أيها المؤمنون: النظرة إلى عُمر الإنسان في الدين الإسلامي مختلفة تماما عن النظرة إلى عمر الإنسان في الغرب العلماني المادي، فعُمر الإنسان في ثقافة الغرب هو مجرد وقتٍ عليه أن يقضيه في هذه الدنيا في تلبية شهواته المادية بكل صنوفها وفنونها، دون النظر إلى حلال أو حرام، ودون التفكّر في عاقبة أو انتظار مجازاة؛ فقط: تمتَّعْ بوقتك وبحياتك؛ لأنه -في ظنهم- لا توجد فرصة أخرى، ولا يوجد تمتع أعظم من هذا الذي في دنيا الناس.

وأما عمر الإنسان في الإسلام فهو فرصة ثمينة لا تُقَدَّرُ بكل مال الدنيا ومتاعها، فرصة لعمل الصالحات، ومهلة أمهله الله بها ليتدارك ما فات، وهو أيضا نعمة يستمتع بها بالحلال، ويشكر ربه عليها.

وفي منظور الإسلام؛ كلّما زاد عُمر الإنسان كلما اقترب أكثر من ساعة الرحيل، فإذا مضى من عمره عامٌ أيقن أنه صار إلى القبر أقرب، وإلى الرحيل أسرع، فيرتجف فؤاده ويخاف ويحاسب نفسه، لا كما يريد الغرب من أتباعه هناك ومن زبائنه هنا في عالمنا العربي والإسلامي، أن يحتفل بمرور سنة من عمره ودخول عام جديد، وأي احتفال ذلك؟! إنه احتفال يضاد مراد الله، ويفترق كليا عن هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إنهم يقيمون احتفالات بمناسبة تقدمهم بالعمر، فيها الترف والسّرف، وفيها الغناء والطرب والسهر والخمور، وفيها تبذير لأموال طائلة، وقضاء لأوقات طويلة، وإقامة لمهرجانات الرقص والغناء وحفلات أعياد الميلاد، وغير ذلك مما لم تعرفه البشرية من قبل.

وبات الأمر مصيبة ووبالا؛ لأنك لم تعد تفرق ديار الغرب الكافرين الماديين عن بعض ديار العرب المسلمين، فالكل في هرج ومرج، وترف وسرف.

أليس هذا انقلاباً في فهمنا الإسلامي لحقيقة عمر الإنسان؟ أليس هذا محادّة لله تعالى ومشاقّة لرسوله -صلى الله عليه وسلم-؟ أليس هذا من عجيب صنع هذا الإنسان الفاني؟ الذي خلقه الله في هذه الدنيا من العدم، وأخبره أنه سَيَفْنيه منها (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) [الرحمن:26]، وأن عليه أن ينتهز الفرصة الممنوحة له ليغادر الدنيا بسلام من الرحمن.

أيها المؤمنون: ولكن هذا الإنسان الغافل والمتغافل، والذي أمهله ربه -سبحانه- سنوات وسنوات لكنه قضاها هملا وسدى، هذا الإنسان الغافل حينما ينفد عمره وينتهي حسابه من الأرض، ويغلق الليل والنهار أبوابه في وجهه، ويُفتح له باب مجهول ليغادر منه إلى عالم آخر مختلف تماما عن عالمه، تحصل له صدمة شديدة، تصيبه بالذهول، تنسيه كل شيء، كل شيء على الإطلاق، إلا شيئا واحدا فقط: هو التماسٌ، هو رجاءٌ، هو توسلٌ، هو طلب يطلبه في لحظة صحيان واستفاقة، فيطلب من ملَك الموت طلبا وحيداً وحيداً لا ثاني له.

أتعرفون ما هو هذا الطلب؟ إنه يطلب منه شيئا لَطَالَما بقي معه لأيام ولأشهر ولسنوات حتى ملّه ذلك الشيء وهو مَلّ هذا الشيء، إنه يطلب ماذا؟ يطلب من ملَك الموت ومِن رَب ملك الموت، أن يمنحه قليلا وقليلا من الوقت، يريد بعض الساعات كتلك التي سمُرَ فيها، يريد بعض الأيام كتلك التي أكل الحرام فيها، يريد بعض الليالي كتلك التي شرب وزنا فيها، يريد بعض الأشهر كتلك التي ظلم وأساء فيها، يريد بعض السنوات كتلك التي ترك الصلاة فيها، وغاب عن بيوت الله فيها، فها هو الآن يطلب طلبا وحيدا من ملك الموت حينما فاجأه أن عليك أن ترحل من الدنيا لتحاسب على ما فعلت في الدنيا، فيطلب هذا الإنسان من هذا الملك طلبا يقول له فيه : أرجعني، أخرني.

أيها الناس: إن هذا الإنسان الغافل والمتجاهل لأمر السماء، يطلب الرجعة والإمهال والتأخير في خمسة مواطن، في خمسة مواطن:

الموطن الأول الذي يطلب فيه هذا الإنسان المهلة، هو عند الاحتضار، عندما يفاجئه ملك الموت ليقبض روحه، يطلب مهلة ووقتا وفرصة زمنية؛ ولكن، عدلا وصدقا، طلبه هذا لا يلبَّى أبدا أبدا أبدا، وعليه أن يغادر فورا ليجازى على ما قدم، استمع معي إلى ربنا العظيم، استمع إلى القول الفصل، وما هو بالهزل، يقول جل في علاه: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون:99-100].

قال الطبري في هذه الآية الكريمة: يقول تعالى ذكره: حتى إذا جاء أحدَ هؤلاء الموتُ، وعاين نزول أمر الله به، قال- لعظيم ما يعاين مما يَقْدم عليه من عذاب الله تندّما على ما فات، وتلهُّفا على ما فرط فيه قبل ذلك، من طاعة الله ومسألته للإقالة-: (رَبِّ ارْجِعُونِ) إلى الدنيا فردّوني إليها، (لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا)، يقول: كي أعمل صالحا فيما تركت قبل اليوم من العمل فضيعته، وفرّطت فيه. اهـ.

وقال السعدي: يخبر تعالى عن حال مَن حضره الموت من المفرطين الظالمين، أنه يندم في تلك الحال، إذا رأى مآله، وشاهد قبح أعماله، فيطلب الرجعة إلى الدنيا، لا للتمتع بلذاتها واقتطاف شهواتها، وإنما ذلك يقول: (لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) من العمل، وفرطت في جنب الله؛ (كَلا) أي: لا رجعة له ولا إمهال، قد قضى الله أنهم إليها لا يرجعون، (إِنَّهَا) أي: مقالته التي تمنى فيها الرجوع إلى الدنيا (كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا)، أي: مجرد قول باللسان، لا يفيد صاحبه إلا الحسرة والندم، وهو أيضا غير صادق في ذلك، فإنه لو رُدَّ لعاد لما نهي عنه؛ (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)، أي: من أمامهم وبين أيديهم برزخ، وهو الحاجز بين الشيئين، فهو هنا: الحاجز بين الدنيا والآخرة، وفي هذا البرزخ، يتنعم المطيعون، ويعذب العاصون، من موتهم إلى يوم يبعثون، أي: فليعدوا له عدته، وليأخذوا له أهبته. اهـ.

وتأمل معي- أخي الكريم- العلّة والغاية التي من أجلها يسأل هذا الإنسان البقاء في الدنيا، لماذا يطلب تمديداً في إجازته؟ الآن يتكلم الحقيقة، والآن يعقل، والآن يدرك إنه يطلب تمديدا في عمره ليعمل عملا صالحا، ليعبد الله تعالى، ليكون من أهل المساجد ومن أهل الحق والعدل، ومن أهل الإيمان والصلاح، الآن استيقظ وعرف أن أولئك الذين كان يراهم في حياته ملتزمين وصالحين وطائعين هم فعلا كانوا على الطريق الصحيح، وإنه هو كان على الطريق المنحدر المعوج لأنه كان يمضي وقته سدى وراء الهوى.

وتأمّل معي الجواب على طلبه والرد على أمنيته: كلمة كَلَّا! فقط بـ كلا! وكلا هنا للردع، قال أبو السعود في تفسيره: كلا: "ردعٌ عن طلب الرَّجعةِ واستبعادٌ لها". فلن يجاب طلبه، ولن يمنح فرصة أخرى على الأرض ليعبد الله، فقد أُعطيها أول مرة ولكنه فرط وتغافل. والآن لن يُسمع له، ولن يجاب طلبه، فقد دخل في طريق لا عودة فيها أبدا أبدا.

أيها المؤمنون: العمل الصالح في هذه الدنيا هو عزّتك في الآخرة، هو رفعة لرأسك بين الناس يوم القيامة، يوم تذلّ نفوس، وتُداس بالأقدام شخوص، يوم تُنَكَّس رؤوس، لطالما اغترت في هذه الحياة الدنيا وألقت بعمل الصالحات وراء ظهرها، ولطالما تطاولت على عباد الله، ولطالما أجرمت في حق الخلق والخالق، ولطالما استهزأت بأهل الصلاح والصالحات، ولكنها اليوم تقف ذليلة ومُهَانَةً ومخذولة ومنكوسة بين يدي رب العزة ورب العرش العظيم.

نعم يا عباد الله، هذا هو شأن أولئك الذين استنكفوا عن عمل الصالحات في هذه الدنيا، وغرقوا في الظلم والإجرام والإسفاف، وإهانة عباد الله ودعاته وعلمائه، بل والتكبر عليهم وإلحاق الأذى بهم، والمكر السيئ بهم، كما وصفهم العليم الخبير: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) [الأنعام:123]، أولئك الذين كانوا مجرمين في حياتهم الدنيا؛ لأن أعمالهم كانت إجرامية، وظلامية، وعدوانية، أولئك الذين ما رآهم الناس في الدنيا إلا متغطرسين، وعن الذكر معرضعين، ولحواسهم معطلين.

هاهم الآن وهم بين يدي العزيز الجبار القادر المقتدر -سبحانه- في حالة يرثى لها، وصفهم ربنا سبحانه وصفاً هو الدواء لهم، وهو الشفاء لما في صدور المؤمنين، وهو العلاج لكل مستكبر عن عمل الصالحات، فقال ربنا سبحانه: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ) [السجدة:12].

هؤلاء الذين لطالما عرفوا بطغيانهم وجبروتهم وإجرامهم الديني والإنساني، إنهم موقوفون وقائمون بين يدي رب العزة، ولكن ما حالهم؟ إنهم ناكسو الرؤوس، وكما يقول ابن كثير: "قاموا بين يدي الله حقيرين ذليلين"، وقال السعدي واصفا حالهم :"(وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ) الذين أصروا على الذنوب العظيمة، (نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) خاشعين خاضعين أذلاء، مقرين بجرمهم، سائلين الرجعة قائلين: (رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا) أي: بانَ لنا الأمر، ورأيناه عيانًا، فصار عين يقين، (فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ) أي: صار عندنا الآن، يقين".

سبحان الله! هؤلاء المجرمون في حق الخلق والخالق، الآن يخاطبون الله بقولهم: ربنا! ولكنهم في الدنيا كانوا أعداء لمن يقول يا ربنا، ولمن يدعو إلى ربنا، ولمن يعمل لأجل ربنا، والآن يعترفون أنهم استيقظوا وعرفوا أنه كان لهم سمع مُقفَل، وبصر مغلق، وعقل معطل؛ ولكنه كان معطلا عن كل خير، ومفتوحا على كل شر؛ والآن استيقظوا وأبصروا الحقيقة وسمعوا الحق وعقلوا أمر الله، فيطلبون من الله أن يستغلوا هذه اليقظة ليرجعهم إلى الدنيا!.

ولماذا يريد هؤلاء المجرمون والظالمون والمعتدون والمفسدون طوال حياتهم الدنيا التي خلت، لماذا يريدون الرجوع إلى تلك الحياة الدنيا؟ إنهم يريدون الرجوع من أجل شيء واحد فقط، من أجل أن يعملوا الصالحات، تلك الصالحات التي لطالما أجرموا بمن كان يعملها في الدنيا، وسخروا منه؛ بل وعذبوه وأساءوا له؛ لكنهم الآن عرفوا نهاية طريق العمل الصالح، ونهاية طريق العمل السيئ، فيطلبون فرصة أخرى؛ لأنهم أيقنوا وأدركوا وعقلوا واستيقظوا، ولكنها يقظة الذليل اللعين البغيض، يقظة الحسرة والندامة، يقظة لا تنفع الآن أبدا أبدا.

ومحال محال أن يستجيب الله لطلبهم هذا! فقد أعطاهم فرصة ثمينة، ووقتا طويلا، وحياة مديدة، ودعوة حقة، ودعاة صادقين، ولكنهم أعرضوا واستنكفوا وأجرموا واستبدّوا، وقد مضى وقت الإمهال، فاليوم لا يستجاب لطلبهم، بل وتنكس رؤوسهم، وتعذب أجسادهم، وتأكل النار أسماعهم وأبصارهم، وسيطبق عليهم قانون الله تعالى وعدالته التي ذكرها لهم في كتابه لما كانوا في هذه الحياة الدنيا، فقال لهم: (وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) [النساء:172-173].

أيها الناس: إن العمل الصالح حينما يختفي من حياة الإنسان ويُنسى ويترك، وهو يفرح ويمرح في هذه الحياة الدنيا، وحينما يغفل عنه الإنسان وهو أشِر بطر غارق في عالم الشهوات، فإنه سيضعه في طريق نهايته الألم والصراخ والبكاء والعويل، صراخ وعويل يصاحبه طلب ورجاء من الله رب العالمين، يقول فيه أولئك الغافلون والساهون: يا ربنا أعدنا مرة أخرى إلى تلك الدنيا، سنتغير وسنغير الطريق، سنسلك طريق الصالحين والصالحات، ولكن صراخهم هذا وطلبهم ذاك لا يؤبه له، ولا يلتفت إليه.

استمع ماذا يقول ربك -سبحانه- في وصف حال هؤلاء الذين غرقوا في عالم الشهوات، وغفلوا عن بحر الصالحات، وما استيقظوا إلا وهم في جوف النار، يقول ربنا -سبحانه-: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِير) [فاطر:37].

قال ابن كثير في معنى هذه الآية الكريمة: "وقوله: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا) أي: ينادون فيها، يجأرون إلى الله -عز وجل- بأصواتهم: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)، أي: يسألون الرجعة إلى الدنيا، ليعملوا غير عملهم الأول، وقد علم الربّ، -جل جلاله- أنه لو ردّهم إلى الدار الدنيا، لعادوا لما نهوا عنه، وإنهم لكاذبون؛ لهذا قال ها هنا: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ)، أي: أوما عشتم في الدنيا أعمارا لو كنتم ممن ينتفع بالحق لانتفعتم به في مدة عمركم؟" اهـ.

وقال السعدي: "يقال لهم: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا) أي: دهرا وعمرا (يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) أي: يتمكن فيه من أراد التذكر من العمل، متعناكم في الدنيا، وأدررنا عليكم الأرزاق، وقيّضنا لكم أسباب الراحة، ومددنا لكم في العمر، وتابعنا عليكم الآيات، وأوصلنا إليكم النذر، وابتليناكم بالسراء والضراء، لتنيبوا إلينا وترجعوا إلينا، فلم ينجع فيكم إنذار، ولم تفد فيكم موعظة، وأخرنا عنكم العقوبة، حتى إذا انقضت آجالكم، وتمت أعماركم، ورحلتم عن دار الإمكان، بأشرّ الحالات، ووصلتم إلى هذه الدار، دار الجزاء على الأعمال، سألتم الرجعة؟ هيهات هيهات، فات وقت الإمكان".

ولذلك -يا عباد الله- قال النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في البخاري: "أعذَر الله -عز وجل- إلى امرئ أخَّر عمره حتى بَلَّغَه ستين سنة"، وفي رواية للإمام أحمد: "لقد أعذر الله إلى عبد أحياه حتى بلغ ستين أو سبعين سنة، لقد أعذر الله إليه، لقد أعذر الله إليه".

وتأملوا معي-إخواني الكرام- قولهم وهم في النار يصطرخون: (أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)، نريد أن نعمل أعمالا غير التي كنا نعملها في الدنيا، فيا عبد الله، يا أيها العاقل، أدرك نفسك قبل أن تكون ممن يطلب هذا الطلب! أدرك نفسك وغَيّر طريقك يا مَن اعتدت طريق المنكرات والسهرات الفاجرة والعلاقات المحرمة والشهوات السافرة والأفعال الممنوعة، غَيّر هذه الطريق وارجع عنها وحول نفسك إلى طريق التقوى والخير وفعل الصالحات، قبل أن تنادي وتصرخ، وتقول لربك سبحانه الذي أمهلك وأمهلك: (أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)، فأنت الآن في فرصتك وفي أمنيتك فاتّبعْ سبيل الرشاد، واخترْ طريق عمل الصالحات.

نعم يا عباد الله! عمل الصالحات على مفْرق طرق؛ فلا مساواة في قوانين الله وسننه التي لا تتبدل ولا تتغير، لا مساواة بين طريق الصالحات وطريق السيئات، ولا بين من يسلك طريق العمل الصالح وبين من يسلك طريق العمل الطالح، قال الحق سبحانه: (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى* وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى) [طه:74-75]، وقال الحق سبحانه: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) [الجاثية:21].

وأبشِرْ بالسَّعد يا من اخترت طريق عمل الصالحات! أبشر بما بشرك به ربك الكريم واسع الفضل والعطاء! سبحانه وتعالى من إله كريم حليم، فقد بشَّرك يا مَن سلكت طريق الصلاح وفعل الصالحات بالكثير الكثير، فمن ذلك: أنه -سبحانه وتعالى- بشّرك بالجنة وبالرزق الذي لا يكال ولا يوزن ولا يعد، فقال جل جلاله: (وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ) [غافر:40].

وبشّرك ربك سبحانه بأن سعيك وجهدك ونصبك وتعبك لن يبور ولن ينسى، بل كلّه في كتاب مضمون لك، فقال تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ) [الأنبياء:94].

وبشرك ربك سبحانه بمغفرة ذنوبك وتكثير حسناتك: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) [المائدة:9].

وبشرك ربك -سبحانه- بمحشر طيب رقيق فقال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) [العنكبوت:9]، فاللهُ تَعَالى سَيُدخِلُ الذِينَ آمنُوا وعَمِلُوا الأَعمَالَ الصَّالحَةَ في رَحْمَتهِ، وَيَحْشُرُهُمْ مَعَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ، قال السعدي: "أي: مَن آمن باللّه وعمل صالحا، فإن اللّه وعده أنْ يدخله الجنة في جملة عباده الصالحين، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، كلّ على حسب درجته ومرتبته عند اللّه، فالإيمان الصحيح والعمل الصالح عنوان على سعادة صاحبه، وأنه من أهل الرحمن، والصالحين من عباد اللّه تعالى".

وبشّرك ربك يا من تعمل الصالحات بحبال من المودّة الربانية، فقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً) [مريم:96].

وقال السعدي : "هذا من نعمه على عباده، الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح، أنْ وعدهم أنه يجعل لهم ودّا، أي: محبة ووداداً في قلوب أوليائه، وأهل السماء والأرض، وإذا كان لهم في القلوب ودّ، تيسر لهم كثير من أمورهم، وحصل لهم من الخيرات والدعوات والإرشاد والقبول والإمامة".

فاللهَ اللهَ في عمل الصالحات، والإكثار من فعل الخيرات، وإرضاء رب الأرض والسموات! سبحانه سبحانه من إله جليل عظيم، حليم كريم.

أقول قولـي هـذا وأستـــغفر الله...

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: أيها الناس: إن عمل الصالحات من شريعة الله، ومن أصول هذا الدين، ومن صلب الإيمان، ومن منهج الرسل، ومن علامات أتباعهم؛ ولذلك أمَرَ اللهُ المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى للمرسلين: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [المؤمنون:51].

وقال تعالى للمؤمنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الحج:77].

والله -سبحانه وتعالى- من رحمته بعباده، ومن إحسانه لهم، ومن محبته الخير لهم، فقد أرشدهم إلى عمل الصالحات، ونبههم إلى الحذر الملهيات، فقال سبحانه ناصحاً ومرشداً ومحذراً: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ*وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المنافقون:9-10].

قال ابن كثير: "فكل مُفَرِّط يندم عند الاحتضار، ويسأل طول المدة ولو شيئا يسيرًا، يستعتب، ويستدرك ما فاته، وهيهات! كان ما كان، وأتى ما هو آت"؛ وذكر عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في تفسير هذه الآية قوله: "من كان له مال يبلغه حج بيت ربه، أو تجب عليه فيه زكاةٌ، فلم يفعل، سأل الرجعة عند الموت".

وقال ابن عاشور في تفسيره لهذه الآية: "وَخُصَّ الأمْوَالُ وَالأوْلادُ؛ فَالشُّغْلُ بِهَذَيْنِ أَكْثَرُ مِنَ الشُّغْلِ بِغَيْرِهِمَا". وقال أيضا: "وَمَتَى كَانَ اللَّهْوُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِالاشْتِغَالِ بِغَيْرِ الأمْوَالِ وَغَيْرِ الأوْلاد، كَانَ أَوْلَى بِحُكْمِ النَّهْيِ وَالْوَعِيدِ عَلَيْهِ.

وَأَفَادَ ضَمِيرُ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ قَصْرَ صِفَةِ الْخَاسِرِ عَلَى الَّذِينَ يَفْعَلُونَ الَّذِي نُهُوا عَنْهُ، وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ فِي اتِّصَافِهِمْ بِالْخُسْرَانِ،كَأَنَّ خُسْرَانَ غَيْرِهِمْ لا يُعَدُّ خُسْرَانًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى خُسْرَانِهِمْ.

وَالإشَارَةُ إِلَيْهِم بــــــ فَأُولئِكَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا مَا بَعْدَ اسْمِ الإشَارَةِ بِسَبَبِ مَا ذُكِرَ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَعْنِي اللَّهْوَ عَنْ ذكر الله؛ وَقَدْ ذَكَّرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا فِي الإْنفَاقِ مِنَ الْخَيْرِ بِأَنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُكْثِرُوا مِنْهُ مَا دَامُوا مُقْتَدِرِينَ قَبْلَ الْفَوْتِ، أَيْ قَبْلَ تَعَذُّرِ الإنْفَاقِ والإتيان بِالأعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَذَلِكَ حِينَ يَحِسُّ الْمَرْءُ بِحَالَةٍ تُؤْذِنُ بِقُرْبِ الْمَوْتِ وَيُغْلَبُ عَلَى قُوَاهُ".

فتذكر، يا عبد الله، يا من أجلك محدود وبقاؤك في الدنيا مقطوع، تذكر أن عملك الصالح قد يكون سببا لبقاء حبال الأجر ممتدة إليك حتى بعد انقطاعك عن الدنيا، وذلك إذا عملت عملا صالحا تجري لك ثمرته صدقةً جاريةً؛ ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ".

ويا من تعمل الصالحات! أنت محسن إلى نفسك وإلى ذاتك، ويا من تنكبت طريق الصالحات، ولهثت وراء الشهوات! أنت مسيء إلى نفسك وإلى ذاتك، قال تعالى في ذلك: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت:46]، وقال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) [الجاثية:15].

فيا ربنا يا كريم، ويا واسع الفضل والإحسان، وفقنا لعمل الصالحات، والإكثار من فعل الخيرات.

اللهم اجعل أعمالنا صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحد فيها شيئا يا رب العالمين...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي