حَرَصَ الإسلامُ على تربية أتباعه على الأخلاق والمثل العليا، وأن يقيم فيهم القيم الفاضلة؛ فصان المرأة، وحافظ عليها، وأعطاها قدرًا من الحماية والرعاية في بيتها وخارجه، واعتبر الإسلامُ التَّعرُّضَ للمرأة في طريقها بالقول أو الفعل، صغيرًا كان أم كبيرًا، اعتبر ذلك لونًا من ألوان نشر الفاحشة بين الناس؛ لذلك قال الله عز وجل-: (وَلَا تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) ..
موضوعنا اليوم بعنوان التحرش بالمرأة، وكلمة التحرش أو التحريش تستعملان في الأصل اللغوي في معانٍ كلها مرفوضة أخلاقيًا ودينيًا في التعامل بين الرجال والنساء، وقد استُعملت الكلمتان في معاني الإفساد والإغراء والخدش والخشونة، وهذه المعاني كلها موجودة عند حدوث الفعل المحرم وهو التحرش بالمرأة، فهو محاولة من الشخص المعتدي أن يفسد أخلاق من يتحرّش بهن، وإغرائهن على ارتكاب أفعال قبيحة ومرفوضة في الشرع والأخلاق والعرف، وهو أيضًا خدش لحياء المرأة، وخشونةٌ في التعامل معها تتنافى مع واجب الذوق واللباقة في تعامل القوي مع الضعيف.
وقد حثّ الشرع الرجل على أن يَبْعُدَ عن كل معاني الخشونة في التعامل مع المرأة، وأن يتعامل معها بكل رفق، وهو ما يشير إليه قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لرجلٍ كان يحدو الإبل -أي: يغني لها- والإبل تحمل بعض النساء في بعض أسفار رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، فكانت الجمال إذا سمعت غناء الرجل تسرع في السير فتهزّ ما تحمله من النساء، فقال -عليه الصلاة والسلام- للرجل: "رُوَيْدَكَ سوقك بالقوارير" صحيح الجامع الصغير.
وبالرغم مما يحمله مصطلح التحرش الجنسي من مضمون واضح ومجرد، غير أنه قد يحمل أشكالاً مختلفة من الإيذاء، منها:
التحرش اللفظي: وهو التلفظ بعبارات خارجة عن الأدب، وبكلماتٍ وتورياتٍ إباحية، وقد تكون مصحوبة بحركات ذات دلالات جنسية.
التحرش الجسدي: ويعمد إليه بعض ضعاف النفوس والمضطربين سلوكيًا، وذلك بالتلامس الجسدي مع المرأة مستغلين الممرّات الضيقة والزحام، بل وحتى أماكن العبادة، وكم سمعنا عن حالات تحرش جسدي قُبضَ عليها حتى في الحرمين الشريفين، وقد يصل الأمر إلى الاعتداء بالاغتصاب للضحية.
ومن ذلك هتك العرض، وهو أحد الصور العنيفة للتحرش الجسدي بالمرأة، ويشمل محاولات التعرية ونزع الثياب، وربما الاغتصاب.
وكذلك التحرش بإرسال الرسائل الإباحية على الهواتف النقالة، حيث يقوم بعض الشباب بإرسال وتبادل الصور الفاضحة ومقاطع الفيديو الجنسية عن طريق البلوتوث، وهي إمكانية متاحة في أجهزة الهواتف النقالة الحديثة.
ومنها التحرش بالمعاكسات الهاتفية والترقيم بأنواعه، فقد تطورت أساليب الترقيم والمعاكسات، فقبل أعوام كان الترقيم يتمّ بكتابة رقم الهاتف على ورقة صغيرة وقذفها على السيارات العائلية، أو كتابة الرقم على كرت ورمي الكرت في حقائب وأكياس النساء في الأسواق وغيرها.
بعد ذلك جاءت طريقة كتابة الرقم بخط كبير على لوحة مستطيلة على ورقة تسمّى (معروض)، أو استخدام الأخت الصغرى لإيصال الرقم إلى الفتاة المستهدفة، ولكن بعد الهواتف النقّالة والتقنيات الجديدة ظهرت عدة طرق لإرسال الرقم، ومن ذلك البلوتوث، إضافة إلى مواقع الدردشة على الإنترنت والفضائيات، ومنها نشر إعلانات وهمية في الصحف عن بيع أرقام هاتفية أو وظائف وهمية خاصة بالنساء، كما انتقل بعض الشباب إلى كتابة رقم الهاتف على أحزمة البناطيل المزوّدة بالليزر، أو كتابة الرقم على (التي شيرت) الذي يرتديه.
ومن أغرب وأحدث وسائل التحرش ما نشرته إحدى الصحف عن شرطة إحدى المدن أنها ألقت القبض على أربعة شبان وهم يتحرشون بفتيات المدارس بواسطة ضبّ كانوا يخرجونه لهن من نافذة سيارتهم!.
كل هذه الطرق وغيرها تستخدم للتحرش بالفتيات والنساء في كل مكان، وخاصةً عند أبواب المدارس والكليات والشوارع المحيطة بها، ومتابعة باصات البنات القادمة والمغادرة، وملاحقة السيارات الخاصة التي يقودها سائق خاص، إضافةً إلى ملاحقة السيارات العائلية في الشوارع التجارية الكبيرة، ناهيك عما يدور في الأسواق والمجمعات التجارية ومدن الملاهي الترفيهية والشواطئ خاصةً في عطلة نهاية الأسبوع، إضافةً إلى أماكن العمل التي بها اختلاط بين الجنسين.
أما أسباب التحرش فهي كثيرة، لكن من أهمها:
أولاً: ضعف الإيمان: فالمتحرِّش هو إنسانٌ ضعيف الإيمان، رقيق الدين، ليس له علاقة بالله تعصمه، ولا عبادة تشغله، ولا وِرْد من القرآن والذكر يؤنس وحشته، فلما أعرض عن الله آخاه الشيطان، فاستوحش، فذهب يبحث عن شيء يؤنس وحشته ويُذهب عن القلب ظلمته، فما وجدها إلا في التحرش بالفتيات والنساء، وصدق سبحانه: (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرينٌ) [الزخرف:36].
ثانيًا: الفراغ: فالفراغُ داءٌ قتَّالٌ للفكر والعقل والطاقات الجسمية، إذ إن النفس لا بد لها من حركة وعمل، فإذا كانت فارغةً من ذلك تَبَلّدَ الفكر، وثخُنَ العقل، وضعفت حركة النفس، واستولت الوساوس والأفكار الرديئة على القلب، وربما حدث له إرادات سيئة شريرة ينفس بها عن هذا الكبت الذي أصابه من الفراغ وضياع الوقت، فيتجه للتحرش والتسكع ظنًا منه أنه يملأ وقته، وهو لا يدري أنه سيحاسب عن ذلك ويعاقب عليه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمُرهِ: فيم أفناه؟ وعن شبابه: فيم أبلاه؟ وعن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن علمه: ماذا عمل فيه؟" رواه البزار والطبراني بإسناد صحيح.
ثالثًا: الإباحية التي تجتاح وسائل الإعلام، مثل القنوات الغنائية وكليبات الأغاني التي تخصصت في إثارة الغرائز وعرض أجساد النساء لدرجة جعلت كثيرا من الشباب لا يفكر إلا في كيفية إشباع شهوته الجنسية المكبوتة، ومما لا شك فيه أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد تطرق إلى هذا الأمر في قوله: "سيكون في آخر أمّتي نساءٌ كاسياتٌ عاريّات، على رؤوسهنّ كأسنمة البُخْت، الْعَنُوهنّ فإنّهنّ ملعونات"، وقال محذِّراً من إطلاق البصر: "العينان تزنيان وزناهما النظر".
رابعًا: تعقيد الزواج وتأخيره، وسهولة الحرام وتيسيره: نعم، صعُبَ الزواج على الشباب بعادات وتكاليف ما أنزل الله بها من سلطان، فماذا تنتظر من الشباب إلا الانحراف والمعاكسات؟ فقد قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أتاكم مَن ترضون خلقه ودينه فزوجوه"، وصدق حين قال: " إلَّا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض" صحيح الجامع.
خامسًا: تبرُّجُ النساء وغياب المحرم: فانتشر التبرج، وتغير مفهوم الحجاب الشرعي، فصار الحجاب موضة من الموضات، فظهرت العباءات المزركشة والملونة والضيقة والشفافة، بل والمفتوحة والتي تظهر ما تحتها من البناطيل الضيقة والملابس القصيرة الشفافة، وتجرأت كثير من الفتيات على كشف وجوههن ووضع المكياج والزينة الكاملة عليها، إضافة إلى العطور الفواحة.
ثم تخرج إحداهن من بيتها متعطرة متزينة تفتن كل من رآها في دينه وعقله ونفسه، مع أنها تعلم يقينًا قول الله سبحانه وتعالى-: (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى) [الأحزاب:33]، وقول النبي-صلى الله عليه وسلم-: "أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية" رواه النسائي وصححه الألباني؛ ومع ذلك فهنَّ يتبرَّجْن ولا يبالين بذلك.
ويساعدهن على هذا التبرج وقوعهن تحت أيدي آباء أو إخوانٍ أو أولياء لا كرامة عندهم ولا مروءة، ولا حتى نخوة الجاهلية القديمة التي كانت تجعل الرجل الحر يراقب نساءه ويتابعهن ويغار عليهن حتى من النظر العابر، ولكن بعض رجال اليوم لا غيرة عنده ولا شرف؛ ولهذا كان الديوث من أخبث خلق الله وحرام عليه الجنة.
سادسًا: الاختلاط بين الجنسين وخاصةً في العمل: فقد أظهر استبيانٌ كان موضوعه "التحرشات الجنسية" شاركت فيه نحو ألف عاملة سعودية يعملن في مجالات مختلفة، أظهر أن نسبة الموظفات اللاتي تعرضن للملاطفة بطريقة غير لائقة من قبل "رؤسائهن" كانت 21 في المائة، مقابل 35 في المائة لمحاولات مشابهة من "زملاء العمل"، وعانى 24 في المائة منهن من الاتصال بهن في أوقات متأخرة، أما 15 في المائة فكشفن عن أنه تم التجرّؤ والتحرش بهن باللفظ واللمس، وهذا كله ثمرة طبيعية للاختلاط الذي حذر منه القرآن الكريم والسنة النبوية: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) [الطلاق:1].
سابعًا: غياب دور الأخ الأكبر في الأسرة: وهذا الغياب يضاف إلى غياب دور الوالدين أصلاً وعدم مراقبة الأبناء وانشغالهما عنهم، والملاحظ هذه الأيام أن الأخ الأكبر في الأسرة لم يعد كما كان في الماضي، ولم يعد يشكّل منفعة لأسرته، بل وربما كان هو أساس البلاء؛ لأن علاقته بالأسرة وتحديدًا بالبنات إما علاقة تسلط وتحكم دون رحمة أو مودة، وإما علاقة تساهل وبلادة وعدم مبالاة بما يحدث في أسرته.
وهناك أسباب أخرى للتحرش: كشرب الخمر والمخدرات، والصحبة السيئة، وضعف سلطة الوالدين، وتساهل المجتمع في النظر إلى التحرُّش باعتباره أمرًا عارضًا أو نزوة مراهق أو مراهقة أو باعتباره شطارة وفهلوة عند البعض، إضافة إلى غياب دور شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند أفراد المجتمع، وعدم الإنكار على المتحرش أو المعاكس، وزد على ذلك عدم وجود قانون تعزيري واضح لردع المتحرشين والمعاكسين.
أما أضرار التحرش فهي كثيرة في الدنيا وفي الآخرة سواءً على المُتحرِش أوالمتحَرَش به؛ فأما بالنسبة للمتحَرَّش به، الأنثى، فإن كانت راضية بالتحرش ومشارِكة فيه وتتعمد التبرج والتزين والتطيب أثناء خروجها إلى الأسواق وغيرها فهي آثمة مجرمة منافقة وملعونة في الدنيا والآخرة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "شرُّ نسائكم المتبرجات المتخيلات، وهن المنافقات، لا يدخل الجنة منهن إلا مثل الغراب الأعصم" صحيح الجامع. هذا في الآخرة إن لم تتب، أما في الدنيا فالمشاركة في التحرش تلطخ سمعة أهليها في الوحل، وتجلب احتقار الناس لها ولعائلتها، وتسبب انصراف الخُطَّابِ عنها بسبب سمعتها السيئة.
إما إذا كانت غير راضية بذلك فالوزر على من تحرش بها، أضف إلى ذلك أن التحرش يؤثر كثيرًا من الناحية النفسية على المرأة العفيفة؛ لأنها تتألم وتتضايق من التحرش، وقد يسبب لها فقد الثقة بالرجال بسبب الإيذاء النفسي من التحرش، وقد يتركها ذلك إنسانة محطمة منطوية تشعر أن كل من حولها كان هناك في لحظة التحرش، وهي ترى أن كل العيون تراقبها بنظرات تحمل معاني متباينة بين الإشفاق والشماتة واللوم والخجل والحياء!.
أما بالنسبة للمتحرشين فنحن نلاحظ أن بعض المتحرشين يمارس التحرش وهو في منتهى الانشراح والسعادة، ويظنّ أن هذا العمل هو ذنب صغير ويستهتر بذلك، ونحن نقول لهؤلاء: إن كنت تظن أن التحرش معصية صغيرة فأنت مخطئ؛ لأن التحرش من أكبر الفواحش والمنكرات والكبائر التي تجلب على صاحبها غضب الله سبحانه على المتحرش في الدنيا والآخرة وتصيبه بأضرار كبيرة، منها:
أولاً: التحرش وسيلةٌ لوقوع الفاحشة؛ لأن بدايته تكون بالخضوع بالقول ثم العشق والحب والغرام ثم المواعيد وهكذا، وكما قيل:
نظرةٌ فابتسامةٌ فسلامٌ *** فكلامٌ فموعِدٌ فلقاءُ
ولهذا نقول: إن التحرش خطوةٌ أولى من الخطوات الشيطانية في الطريق إلى الفاحشة والهلاك، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) [النور:21].
ثانيًا: التحرش بالكلمة أو بالفعل من أسوأ ألوان التعامل مع المرأة، وقد ذم الشرع الشخص الذي يفحش في كلامه، فقال الله عز وجل-: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا) [النساء:148]، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله ليبغضُ الفاحش البذيء" أخرجه الترمذي.
والتحرش يعتمد اعتمادًا كاملاً على الكلام البذيء والفاحش، فكيف يرضى الإنسان المسلم عن نفسه وهو قد نال بُغض الله له بسبب ألفاظه القبيحة وأفعاله السيئة؟!.
ثالثًا: التحرش والمعاكسات فيها تتبُّعٌ لعورات المسلمين، وقد توعد رسول الله المتتبعين للعورات بقوله: "مَنْ تتبَّع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته" صححه الألباني.
رابعًا: التحرش فيه اعتداء على عرض المسلم، والذي قال فيه رسولنا -صلى الله عليه وسلم- عن أبي هريرة: "كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه" رواه مسلم.
خامسًا: التحرش إيذاء للمؤمنين والمؤمنات، واستحلال لأعراضهم، وهذا من أقبح الذنوب، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "تدرون أربى الربا عند الله؟" قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "فإن أربى الربا عند الله استحلال عِرض امرئ مسلم"، ثم قرأ -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينَاً). صحيح الترغيب والترهيب.
سادسًا: التحرش بالمرأة المتزوجة وإفسادها على زوجها يستجلب غضب الله على المتحرش أو المعاكس، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليس منا من خبب امرأة على زوجها" صحيح الجامع.
سابعًا: التحرش يسبب حدوث النزاع والشقاق والعنف بين أفراد المجتمع الواحد، وهذا أمر موجود منذ القدم، ففي الجاهلية قامت حرب الفجار عندما تعرض بعض الشباب لامرأة في سوق عكاظ وطلبوا منها كشف وجهها، كما كان أحد أسباب حرب قينقاع ضد اليهود حيث إن امرأة مسلمة جاءت إلى صائغ في سوق قينقاع فجاء يهودي من خلفها وربط رداءها من الخلف بشيء آخر، فلما قامت بدت عورتها، فضحكوا عليها، فقام إلى اليهودي رجل من المسلمين فقتله، فاجتمعت طائفةٌ من يهود وقتلوا المسلم ونقضوا عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، فخرج إليهم رسول الله وأخرجهم من المدينة.
وفي هذا العصر، كم سمعنا عن جرائم قتل وعنف متبادل! بسبب ماذا؟ بسبب التحرش والمعاكسات.
ومن أضرار التحرش على المتحرش نفسه أنه يعاجل بعقوبة نفسية تُفقده الثقة تمامًا بالنساء، حتى لو تزوج مستقبلاً بفتاةٍ عفيفة فإنه سيقارن بينها وبين من عرفهن في السابق، فيبدأ بالشك في كل سلوك تقوم به زوجته، فإن نظرت زوجته في السوق يمينًا وشمالاً فهي في نظرتها تلك تبحث عن صديقٍ لها، وإن تلفتت في السيارة فهي قد رأت شخصًا تعرفه من قبل أو أنها قد أعجبت برجلٍ وسيم، وإذا تحدثت بالهاتف فربما تتحدث مع صديقٍ لها بصيغة المؤنث كما كانت تفعل الفتيات قبلها حين يحادثونه أمام أهليهن على أنه فتاة حتى لا يفتضح أمره وإلى آخره، وهذا كله بسبب شؤم المعاصي التي ارتكبها قبل الزواج.
وهناك عقوبة أخرى يجدها المتحرش في حياته الزوجية في المستقبل، وهي الشعور بالحنين الفاجر إلى العلاقات السابقة مع الفتيات، فيشعر بوحشة شديدة بينه وبين زوجته؛ لأنه اعتاد على إقامة العلاقات قبلها، فتظهر المشكلات بينه وبين زوجته، ويختل الميزان بينهما، وغالبًا ما يحدث الانفصال والفشل، فلا هو استقر في حياته الزوجية، ولا هو استفاد من علاقاته السابقة التي بناها على الأوهام والأحلام.
(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) [الرخرف:36-38].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، إنه كان غفارا.
حَرَصَ الإسلامُ على تربية أتباعه على الأخلاق والمثل العليا، وأن يقيم فيهم القيم الفاضلة؛ فصان المرأة، وحافظ عليها، وأعطاها قدرًا من الحماية والرعاية في بيتها وخارجه، واعتبر الإسلامُ التَّعرُّضَ للمرأة في طريقها بالقول أو الفعل، صغيرًا كان أم كبيرًا، اعتبر ذلك لونًا من ألوان نشر الفاحشة بين الناس؛ لذلك قال الله عز وجل-: (وَلَا تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) [الأنعام:151].
وحينما نهانا عن الزنا لم يقل: (لا تزنوا)، وإنما قال -سبحانه وتعالى-: (وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى) [الإسراء:32]، والقرب من الزنا قد يكون بالنظرة أو الكلمة أو الاعتداء على المرأة في طريقها أو إيقاعها في لون من ألوان الخداع والاحتيال للوقوع بها في الرذيلة.
وأعلى درجات الإثم التي تسبب الذعر بين المسلمين أن لا يستطيع المسلم أو المسلمة السير في طريقهما بمأمن وأمان، ولذلك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ بات وهو آمن في سربه معافًى في بدنه عنده قوت يومه وليلته فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها" رواه الترمذي وابن ماجة.
إذًا؛ لا بد أن يكون الإنسان آمنًا في طريقه، ولا سيما المرأة والتي تحتاج إلى رعاية كبيرة في المجتمعات الإسلامية وشعور بالأمان، ولا بد من تعاون الجميع على مكافحة آفة التحرش والمعاكسات وذلك من خلال الخطوات التالية:
أولا: لا بد من وقوفنا جميعًا ضد التبرج الذي يحدث في الأسواق والحدائق وبعض أماكن العمل المختلطة وغيرها، وذلك من خلال مراجعة فهمنا للحجاب، فالحجاب ليس زيًا أو لباسًا يُرتدى أو يلبس كيفما اتفق أو على رغبة المرأة وهواها. لا، الحجاب منظومة أخلاقية وإيمانية متكاملة ومتوازنة، فالله سبحانه يقول: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ) [الأحزاب:59].
إذًا؛ فكل حجاب لا يدفع الإيذاء عن المرأة فهو حجاب مشكوك فيه؛ لأن الحجاب له شروط بيّنها العلماء، ومنها أن لا يكون ضيقًا، وأن لا يكون زينه في نفسه، وأن لا يكون شفافًا، وأن لا يشبه لباس الكافرات، ولا لباس الرجل، وأن لا يكون مبخرًا مطيبًا، وأن يكون فضفاضًا.
فمن خالفت هذه الشروط في لبسها للحجاب فهي ليست متحجبة بل هي متبرجة تبرج الجاهلية الأولى، وتسببت في فتنة الشباب ووقوع التحرشات والاعتداءات.
لذا؛ لا بد للنساء أن يعرفن ويتعلّمن كيف هو الحجاب الشرعي، ومسؤولية تعليمهن تقع على أيدي الرجال الذين جعل الله -سبحانه- القوامة بأيديهم، حيث قال -سبحانه وتعالى- في سورة النساء: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) [النساء:34].
ثانيًا: المتحرش لا يتجرأ على التعرض للمرأة إلا إذا كانت وحدها بدون رجل يدفع عنها، ومن العجب أن يترك رجل زوجته أو ابنته أو أخته تذهب إلى السوق أو غيره وهو في بيته أو مع أصحابه ثم يبكي بعد ذلك على ضياع الأعراض! لذا فلا بد من مرافقة النساء إلى الأسواق؛ حمايةً لهن، وأمانا، واطمئناناً.
ثالثًا: تيسير الزواج والتعجيل به إن أمكن، وفي الزواج المبكر حفظ للشباب والبنات، فيجد الشاب المنْفذ الحلال لشهوته، ولا يجد فراغ العاطلين لانشغاله بأمور بيته وأولاده.
إن الزواج عصمة لبناتنا وأعراضنا قبل أن يكون لأبنائنا، ولذلك قال رسولنا -صلى الله عليه وسلم-: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج" صحيح الجامع.
رابعًا: لا بد من القضاء على أوقات الفراغ في حياة الشباب، ولا يشترط أن يقضي الشباب فراغه في الحفظ وتعلم العلم؛ بل كل حسب وجهته، (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ) [البقرة:60]، فمن كانت وجهته علمية فلينهل من منابع العلم، ومن كان له تميز في أي مجال فليذهب إلى ما يهواه طالما أنه لا يتعارض مع تعاليم ديننا الحنيف من تجارة أو صناعة أو حرفة أو هواية؛ حتى لا يندم على شبابه حين يسأل عنه: فيم أفناه؟ وعن عمره: فيم أبلاه؟ فتكون إجابته: قضيت عمري في التحرش بالنساء ومعاكسة الفتيات والولوغ في الأعراض والحرمات، وعندها سيولول صارخًا: (يا ليتني قدمت لحياتي)، ولن ينفعه الصراخ ولا الندم!.
خامسًا: لا بد من زيادة الجرعات الإيمانية وتوجيه الشباب لاختيار الصحبة الطيبة ومعالجة البطالة المتفشية، ووجود الرقابة المنضبطة من قبل الوالدين، ولا بد من متابعة ومراقبة وسائل الإعلام، مع وجود العقاب الرادع لمن تسول له نفسه الوقوع في التحرش والمعاكسات؛ لأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
ختامًا، نقول لكل متحرش أو معاكس: اعلم أن أشد الأذى أذى العرض، وإذا كنت لا ترضى أن يؤذيك أحد في أمك أو أختك أو زوجتك، فكذلك كلّ الناس لا يرضى ذلك لأهله.
كذلك، عليك أن تعلم أن الله معك في خلواتك، وأنه يراك في حركاتك وسكناتك، وأنه يسمع -سبحانه- كل كلماتك، ويعلم مكنونات نفسك، ومرادات قلبك من وراء معاكساتك ومغازلاتك.
بماذا ستجيب الله -سبحانه- إذا وقفت بين يديه فسألك عن كل كلمةٍ حرام، عن كل خطوة حرام، عن كل نظرة حرام وهمسة حرام، وعن كل لمسة حرام؟ (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) [الرخرف:80]، (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجاثية:28-29].
فهل يعودون إلى الله ويتوبون إليه؟ نرجو ذلك ونتمناه، وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي