وقفات مع شهر رجب

عبد الله بن محمد الطيار

عناصر الخطبة

  1. اصطفاء الله لبعض الأزمان
  2. الأشهر الحرم والتحذير من المعاصي
  3. التحذير من مخالفات وبدع تنتشر في شهر رجب
  4. الحث على التمسك بالسنة وترك البدع والمحدثات.

الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ ربّ العالمين، الرّحمنِ الرّحيمِ، مالكِ يومِ الدّينِ والعاقبةُ للمتقينَ ولا عُدوانَ إِلّا على الظالمينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ الله وَرَسُولُهُ؛ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

ذأَمَّا بَعْدُ: فَاِتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا المُؤَمِّنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾[الحشر:18].

عبادَ الله: لقد تفرّدَ اللهُ بالخَلْقِ والأمرِ والحكمةِ والعلمِ والحُكْمِ، قال -تعالى-: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾[القصص:68]، واختيارُه -جلّ وعلا- وتقديرُه يدلُّ على كمالِهِ وجلالِهِ وحكمتِهِ وعلمِهِ وقدرتِهِ. وانفرادِهِ باختيارِ من يختارُه ويختصُّهُ، من الأشخاصِ والأوامرِ والأماكنِ والأزمانِ.

ومنْ عظيمِ اختيارِهِ -جلَّ وعلَا- تلكَ الأشهُرُ الحُرُمُ التي ذكرَهَا في قولِهِ -تعالى-: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ(36)﴾[التوبة:36]، والأشهرُ الحرمُ هي شهرُ رجبٍ وذو القعدةِ وذو الحجّةِ والمحرمُ. وقد خَصّها اللهُ -تعالى- بالذكرِ ونهى فيها عن الظلمِ لما لها من التشريفِ والمكانةِ.

أيُّهَا المسلمونَ: وهَا أنتمْ قد دخلتُمْ في شهرِ رجبِ، وهو أحدُ هذهِ الأشهرِ الأربعةِ الحُرُمِ، ففي الصحيحينِ عن أبي بكرةَ -رضي اللُه عنهُ- أنّ النبيَّ -صلّى اللُه عليهِ وسلّمَ- خطبَ في حجّةِ الوداعِ فقالَ: “إِنّ الزّمَانَ قَد اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السّمَاوَاتِ والْأَرضَ، السّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُم، ثِلِاثِةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو القعدةِ وذو الحجةِ والمحرمُ، ورجبُ مُضر الذي بين جُمادى وشعبان“. فاحذروا أشدَّ الحذرِ أنْ تَظْلِموا أنفسكم في هذا الشهرِ بالبِدعِ والضّلالاتِ، والظلمِ والعدوانِ، والقتلِ والاقتتالِ، والغِشِّ والكذبِ، والغيبةِ والبُهتانِ، والحسدِ والغِلّ، فإنَّ الله -جلَّ وعَلا- قدْ زجركُمْ ونَهَاكُمْ عن ذلك.

وهذا الشّهرُ ليس له مزيةٌ أو مزيدُ عبادةٍ على غيرهِ من الشهورِ، يقول ابن حجر -رحمه الله-: “لمْ يَرِدْ في فضلِ شهرِ رجبٍ، ولا في صيامِهِ، ولا في صيامِ شيءٍ منهُ معينٍ، ولا في قيامِ ليلةِ مخصوصةٍ فيهِ حديثٌ صحيحٌ يَصْلُحُ للحُجّةِ” ا.هـ.

عبادَ اللهِ: وفي هذا الشّهرِ تنتشرُ بعضَ الأعمالِ البدعيّةِ فينبغي التنبيهُ عليها كي يتجنبها المسلمُ ويُحذّرْ إخوانَهُ منَ الوقوعِ فيها، ومِنْ ذَلِكَ:

أولاً: تخصيصُهُ بالصّيَامِ: وقدْ أكّدَ أهلُ العلمِ أنّهُ منَ الأمُورِ المبتدعةِ، قالَ ابنُ تيميةَ -رحمهُ اللهُ-: “إنّ تعظيمَ شهرِ رجبِ من الأمورِ المحدثةِ التي ينبغي اجتنابُها، وإنَّ اتّخاذَ شهرِ رجبٍ موسمًا بحيثُ يُفردُ بالصومِ مكروهٌ عن الإمامِ أحمدَ -رحمه اللهُ- وغيره“.

وقالَ ابنُ القيّمِ -رحمهُ اللهُ-: “لمْ يصمْ النبيُّ -صلى اللهُ عليهِ وسلّمَ- الثلاثةَ الأشهرِ سردًا -رجبُ وشعبانُ ورمضانُ- كما يفعلُه بعضُ الناسِ، ولا صامَ رجبًا قط، ولا استحبّ صيامَهُ، بل رُويَ عنهُ -صلى الله عليه وسلم -النّهيُ عن صيامِهِ (رواه ابن ماجه)”.

فيجبُ عدمُ تخصيصِهِ بصيامٍ دون غيرهِ من الأشهرِ؛ لأنهُ -صلّى اللهُ عليهِ وسلّم- لم يفعلهُ أو يأمرْ بهِ ولا خلفاؤه الرّاشدونَ ولا التّابعونَ ولا غيرُهم، وكلُّ ما وردَ في صيامهِ من النصوصِ اتّفَقَ جمهورُ العلماءِ على أنّها موضوعةٌ إلا القليلَ منها ضعيفٌ جدًّا لا يصلُح الاحتجاجُ بهِ.

ثانياً: احتفالُ بعضِ المسلمينَ بليلةِ الإسراءِ والمعراجِ: في ليلةِ السّابعِ والعشرينَ من شهرِ رجبٍ، باعتبارِ أنّ النّبيّ -صلّى اللهُ عليهِ وسلّم- أُسرِيَ به في هذه الليلةِ، والصحيحُ أنّهُ لمْ يثبتْ في ذلك شيء.

قال الشيخ ابن باز -رحمه الله-: “وهذهِ الليلةُ التي حصلَ فيها الإسراءُ والمعراجُ لمْ يأتِ في الأحاديثِ الصحيحةِ تعيينُها، لا في رجبَ ولا غيرِهِ، وكلُّ مَا وردَ في تعيينِها فهو غيرُ ثابتٍ عن النبيّ -صلّى اللهُ عليهِ وسلّم- عندَ أهلِ العلمِ بالحديثِ، وللهِ الحكمةُ البالغةُ في إنساءِ النّاسِ لهَا، ولو ثبتَ تعيينُها لمْ يجزْ للمسلمينَ أنْ يَخُصُّوهَا بشيءٍ من العباداتِ، ولمْ يَجُزْ لهمْ أنْ يحتفلوا بهَا؛ لأنّ النبيّ -صلّى اللهُ عليهِ وسلّم- وأصحابَه لم يحتفلوا بها ولمْ يخصّوها بشيء، ولو كانَ الاحتفالُ بها مشروعًا لبيَّنه الرسولُ -صلّى اللهُ عليهِ وسلّم- للأمّةِ إمّا بالقولِ وإمّا بالفعلِ، ولو وقعَ شيءٌ من ذلكَ لعُرفَ واشتهرَ، ولَنَقَلَهُ الصّحابةُ إلينَا“.

ثالثاً: عتيرةُ رجبٍ: وهي الذبيحةُ التي كانَ المشركونَ يذبحونَها للأصنامِ في العشرِ الأُوَلِ من رجبٍ، وهي من أفعالِ أهلِ الجاهليةِ. وقدْ اختلفَ العلماءُ في حكمِهَا، والصحيحُ النهيُ عنها، والقولُ ببطلانِها لاتفاقِ جمهورِ العلماءِ على أنّ ما وردَ في العتيرةِ منسوخٌ بقولِهِ -صلّى اللهُ عليهِ وسلّم-: “لَا فَرَعَ وَلَا عَتِيرَةَ“(متفق عليه)، ولِمَا في العتيرةِ من التشبُّهِ بأهلِ الجاهليةِ وهذا منهيٌّ عنه، ولأنّ الذبحَ عبادةٌ، والعباداتُ توقيفيةٌ. ولكن ليس هذا معناه أنّهُ لا يجوزُ الذّبحُ عمومًا في شهرِ رجبٍ، ولكنَّ المرادَ بالنهيِّ هو ما ينويهِ الذّابحُ أنّ هذه الذبيحةَ هي عتيرةُ رجبٍ، أو أنّهُ ذبحهَا تعظيمًا لشهرِ رجبٍ ونحوِ ذلكَ، واللهُ أعلم.

رابعاً: صلاةُ الرّغائِبِ: وما وردَ فيها حديثٌ موضوعٌ عن النبيّ -صلّى اللهُ عليهِ وسلّم-. قال النوويُّ -رحمهُ اللهُ-: “هي بدعةٌ قبيحةٌ منكرةٌ أشدَّ إنكارٍ، مشتملةٌ على منكراتٍ، فيتعينُ تركُها والإعراضُ عنها، وإنكارُها على فاعلِهَا“.

وقالَ ابنُ تيميةَ -رحمهُ اللهُ-: “وأمّا صلاةُ الرّغَائِبِ: فلا أصلَ لهَا، بل هي محدثةٌ، فلا تُستَحَبُّ، لا جماعةً ولا فرادى؛ فقد ثبتَ في صحيحِ مسلمٍ أنّ النبيّ -صلّى اللهُ عليهِ وسلّم- نهى أنْ تُخَصَّ ليلةَ الجمعةِ بقيامٍ أو يومَ الجمعةِ بصيامٍ، والأثرُ الذي ذُكِرَ فيها كذبٌ موضوعٌ باتفاقِ العلماءِ، ولم يذكرهُ أحدٌ من السلفِ والأئمةِ أصلاً“.

خامساً: تخصيصُ العمرةِ في رجبٍ: وهذا يفعلُهُ بعضُ الناسِ ظنًّا منهمْ أنّ الاعتمارَ في رجب له مزيةٌ عن غيرهِ، وهذا لا أصلَ لهُ؛ فقد روى البخاري عنِ ابن عمرَ -رضيَ اللهُ عنهمَا-، قالَ: “إنَّ رسولَ اللهِ اعتمرَ أربعَ عمراتٍ إحداهنّ في رجبٍ، قالتْ –أي: عائشةُ رضي الله عنها-: يرحمُ اللهُ أبَا عبدِ الرحمنِ، ما اعتمرَ عمرةً إلا وهو شاهدُه، وما اعتمرَ في رجبٍ قط“.

وقد نصَّ الشيخُ ابنُ بازٍ -رحمهُ اللهُ- على أنّ أفضلَ زمانٍ تُؤدى فيهِ العمرةُ: شهرُ رمضان؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: “عمرةٌ في رمضانَ تعدلُ حجةً“(متفق عليه)، ثمّ بعدَ ذلكَ: العمرةُ في ذي القعدةِ؛ لأنَّ عُمَرَهُ كلّها وقعتْ في ذي القعدةِ، وقدْ قالَ اللهُ -سبحانهُ وتعالى-: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾[الأحزاب:21].

باركَ اللهُ لي ولكُم في القرآنِ العظيم ونفعنِي وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ أقولُ ما سمعتمْ فاستغفروا اللهَ يغفرْ لي ولكُم إنَّهُ هو الغفورُ الرّحيم.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ الذي علَّم أمتَه كلَّ خيرٍ، وحذَّرهم من كلِّ شرٍّ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعدُ: فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أنّ من الأعمال البدعيّة في شهر رجب التي ينبغي التنبيه عليها أيضاً، ما يلي:

سادساً: تخصيصُ شهرِ رجبٍ بإخراجِ الزكاةِ الواجبةِ: فقد انتشرَ في بعضِ البلدانِ تخصيصُ رجبٍ بإخراجِ الزّكاةِ، وهذا غيرُ صحيحٍ. قالَ ابنُ رجبٍ -رحمهُ اللهُ- عن ذلك: “ولا أصلَ لذلكَ في السُنةِ، ولا عُرِفَ عن أحد من السلفِ.. وبكلِّ حالٍ: فإنّما تجبُ الزكاةُ إذا تمّ الحولُ على النّصابِ، فكلّ أحدٍ له حولٌ يخصُّه بحسبِ وقتِ ملكِهِ للنّصَابِ، فإذا تمَّ حولُهُ وَجَبَ عليهِ إخراجُ زكاتِهِ في أيِّ شهرٍ كانَ“، ثمّ ذكرَ جوازَ تعجيلِ إخراجِ الزّكاةِ لاغتنامِ زمانٍ فاضلٍ كرمضانَ، أو لاغتنامِ الصّدقَةِ على منْ لَا يوجَدُ مثله في الحاجةِ عندَ تمامِ الحَوْلِ… ونحو ذلك”.

سابعاً: ما قيلَ بحصولِ حوادثَ عظيمةٍ في شهرِ رجبٍ: قال ابنُ رجبٍ -رحمهُ اللهُ-: “وقد رُويَ أنّه كان في شهرٍ رجب حوادثُ عظيمةٌ، ولم يصحَّ شيءٌ من ذلك، فرُوِيَ أنّ النّبِيّ وُلِدَ في أوّلِ ليلةٍ منهُ، وأنّهُ بُعِثَ في السّابِعِ والعشرينَ منهُ، وقيل في الخامسِ والعشرينَ، ولا يصحُّ شيء من ذلك…”.

عبادَ اللهِ: منَ الأمورِ المقرّرَةِ شرعًا أن ّالعبرةَ بِحُسْنِ العملِ لا بكثرتِهِ، وأنه يجبُ الالتزامُ بالكتابِ والسّنةِ وما جاءَ فيهما ممّا هو مشروعٌ من الأعمالِ والعباداتِ والأزمانِ والأماكنِ. والتحذيرُ من البدعةِ بجميعِ صورِهَا وأنواعِهَا؛ استجابةً لقولِهِ -صلّى اللهُ عليهِ وسلّم- في الصحيحينِ: “مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ“.

وقالَ الإمامُ سفيانُ الثوري -رحمهُ اللهُ-: “كَانَ الْفُقَهَاءُ يَقُولُونَ: لَا يَسْتَقِيمُ قولٌ إلّا بعملٍ، ولَا يستقيمُ قولٌ وعملٌ إلا بنيةٍ، ولا يستقيمُ قولٌ وعملٌ ونيةٌ إلا بموافقةِ السُّنَّةِ“.

فانتبهوا يا عبادَ اللهِ، وتمسّكوا بما جاءَ في كتابِ ربّكم -جلّ وعَلَا-، وسُنّة نبيّكم -صلّى اللهُ عليهِ وسلّم- ففيهمَا النّجاةُ لكمْ في العاجلِ والآجلِ.

هَذا وصلُّوا وسلّموا على الحبيبِ المصطفى والنبيّ المجتبى محمد بن عبد الله؛ فقد أمركم الله بذلك فقال -جل من قائل عليماً-: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾[الأحزاب:٥٦].


تم تحميل المحتوى من موقع